* حمزة المصطفى
قبيل عام، تسمر المواطنون العرب أمام شاشات التلفزيون، يترقبون باهتمام شديد نشرات الأخبار، وهي تذيع نبأ انتشار دبابات على جسري إسطنبول، وفصل جزئها الأوروبي عن الآسيويّ، مع تحرّكات مريبة من فرق عسكريّة في مدينة أنقرة.
تتلاحق الأنباء وسط حالةٍ من عدم اليقين، لكن العارفين بالعسكر، والمطلعين على تجاربهم بين سطور كتب التاريخ، استوعبوا هاجس الطامة الكبرى. تتخطى عقارب الساعة منتصف ليل السادس عشر من تموز، تتوجه دبابات، وجنود، إلى المباني الحكومية في أنقرة، وسط اشتباكاتٍ نجهل أطرافها، نرى عبر شاشة الجزيرة سجالاتٍ بين الجيش والشرطة في ساحة تقسيم في اسطنبول، من دون أن نجزم بمحتواها. تخرج مذيعة قناة TRT متجهمة الوجه، تبدأ كلامها بزفرةٍ قصيرةٍ، وتنهيدة تخفي وراءها قلقًا وجوديًا على حياتها، ومستقبل طفلتها التي تنتظر عودتها سالمة.
إنه انقلابٌ عسكريٌّ ناجز، مكتمل الأركان. سيطر الجيش على المؤسسات السيادية؛ التلفزيون، المطار، والمرافق الحيويّة، وعلى كل شيء في الحاضر والمستقبل. يؤكد رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدريم، وقوع الانقلاب، يتعهد بمواجهته، ويطلب من الشعب حماية الشرعيّة. تتناهى إلى مسامعنا بعض أخبار عن مواجهاتٍ مع الانقلابيين، تدحضها الشوارع الخاوية إلا من أشباحٍ بزي عسكريّ. لا سبيل للمقاومة، حكم العسكر آتٍ لا محالة، تصريحات يلدريم وإرهاصات المقاومة كلها آمالٌ زائفة، تذكّرنا بمشهد الانقلاب المصري عام 2013 وما سيأتي؛ يُذاع البيان رقم 1، يعيّن رئيس مؤقت، يعتصم رافضو الانقلاب في إحدى الساحات، حتى تقتحمها المدرعات، وتترك من يبقى جثثًا مشوهة أو محروقة.
في غياهب الليل البهيم، ينبلج الفجر قبل أوانه. قرابة الساعة الثانية صباحًا، تظهر مذيعة CNN التركية بيدها هاتفها المحمول، فينادي عبره الرئيس رجب طيب أردوغان جموع الشعب أن هبوا لحماية الديمقراطية، ويعدهم بالالتحاق بهم في اسطنبول فورًا. يتهكّم صديقي الخائف على عائلته اللاجئة في تركيا بأسىً، فعلها محمد مرسيّ قبله. عليه الهروب إلى ألمانيا، كما تقول زورًا قناة سكاي أبو ظبي، وإلا قد يواجه حكمًا بالإعدام مع وقف التنفيذ، يبقيه في السجن طوال حياته. فجأة، يتغير المشهد رأسًا على عقب، تتداعى تحليلات المحللين والخبراء وتنبؤاتهم، عندما يتوجه عشرات الشبان إلى مطار أتاتورك الدولي في اسطنبول، ليواجهوا الدبابات بصدور عاريّة، كما قرأنا عن أمثالهم في كتب التاريخ.
تتسلل معالم الحزن إلى قناتي العربية وسكاي نيوز، تصدح المآذن عاليًا بالمقاومة في صرختها الأخيرة قبل قدوم العسكر، ترفض الأحزاب العلمانية والقوميّة والجمعيات المدنية والدينية بيانات الانقلابيين، تهرع الناس إلى الشوارع للإجهاز عليهم، بعد أن رموا بزّاتهم العسكريّة، وفر بعضهم إلى اليونان، والتجأ آخرون إلى الجبال، هربًا من انتقام قادم.
ساهمت عوامل كثيرة في فشل الانقلاب؛ صمود الشعب، وعي النخبة الحزبية والسياسية، إرث العسكر القميء، تجارب راهنة كما في مصر، كاريزما الرئيس، قوة الحزب، انقسام الجيش والشرطة، جهود البلديات، سوء تخطيط العسكر. لكن الوقائع أثبتت أن مسار انقلاب العسكر في تركيا لم يكن بعيدًا عن مسار الثورات المضادة في العالم العربي، والدول الداعمة لها، فقد خيّل لهؤلاء أن انقلاب مصر الدموي يمكن استنساخه في أي مكان، متى ما توفر المال، والدعم، والعناصر البشرية الجاهزة. من هنا، كان إفشال الانقلاب صفعةً ابتدائيةً لآمالها وأحلامهم.
لم يتعلم داعمو الانقلاب من دروس التاريخ البعيد، حتى يتعلموا من درس تركيا القريب، أخذتهم العزّة الشعبوية التي تجتاح العالم بالإثم، ودفعتهم إلى إسقاط محاولاتهم الفاشلة في تركيا على قطر. منتصف ليل الرابع والعشرين من مايو/ أيار 2017، أفاق القطريون على حملة إعلامية ناقمة. تلتّ قناتا العربية وسكاي أبو ظبي وتعجن مع ضيوفٍ أعدوا مسبقًا في بيانٍ منسوب لأمير قطر، يتضمن نبرة خطابية غير معتادة في الخطاب السياسي القطري. تنفي قطر البيان، وتتحدّث عن اختراق. لا تعبأ القنوات المشبوهة بالنفي، وتستمر في حملتها أيامًا وأيامًا لتهيئة الرأي العام، في دولٍ بعينها لقرارات مفصلية مقبلة. في هجعة الليل والناس نيام (إلا الأميركيين طبعًا) تعلن ثلاث دول خليجية، ورابعتهم مصر، عن حصار قطر، فتبدأ الرواية الجديدة الفاشلة.
يتحدّث إعلام غوبلز عن مجاعة، ثم انهيار اقتصادي، وفلتان أمني، يليه انقلابٌ أبيض، وإقامات جبريّة لمسؤولين يزاولون أعمالهم. بعد حشدٍ وتحشيد، ورشىً وأتاوات دفعت لزعيم البيت الأبيض وصهره، أبرقوا ليلًا مطالبهم الانقلابية، وتسمّروا وراء شاشاتهم الزرقاء، ينتظرون رايةً بيضاء من قطر. خيل لهم أن الحصار وقطع الأرزاق سوف يدفع شعب قطر إلى التمرّد على حكومته، ويطالبها بالعودة إلى بيت الطاعة السعوديّ والإماراتي. ما جرى كان عكس ما دبّروا وتمنوا، أجمع القطريون على مواجهة هؤلاء، لإدراكهم أنهم هم المستهدفون، أكان طمعاً في ثروتهم أو استقلالهم الناجز. أكثر من ذلك، ولّد الخطر المحدّق، وفجور الخصومة، شعورًا وطنيًا جامعًا لدى شعب قطر، شكل سدًا منيعًا أمام محاولات اللعب بالنسيج الاجتماعي القبلي.
مبتغى القول، ليست قطر دولة ديمقراطية، مثل تركيا، لكنها لا تخشى المد الديمقراطي، وساندته خلال الربيع العربيّ، وتدفع ثمن دعمه الآن من أنظمةٍ قروسطية، لا تريد لعام 2011 أن يعود. نختلف مع سياسات قطر الداخلية والخارجية أو نختلف معها، لكن ما تتعرّض له اليوم يشبه ما تعرضت له تركيا قبل عام، وإن بدا المشهد مختلفًا. ولا شك أن صمودها سوف يمثل صفعة أخرى قبل نضوج الموجة المقبلة.
- نقلاً عن: العربي الجديد
عذراً التعليقات مغلقة