يصادف أن يكون مانشيت جريدة النهار “اللبنانيون يتناقصون… السوريون يتزايدون”، وهي ليست المرة الأولى التي تثير فيها الصحيفة ردود فعل غاضبة على ما يُعدّ تحريضاً خفيّاً أو عنصرية إزاء السوريين. ثم بعد ذلك تأتي صور مداهمات الجيش اللبناني في مخيمات النازحين في عرسال، ليتلوها حريق مخيم الرائد في البقاع، فيبدو كأن هناك ما هو ممنهج في استهداف النازحين، حتى إذا لم نأخذ في الحسبان تغريدة وزير الخارجية اللبناني الذي يصرح بأن النزوح هو مصدر الإرهاب والقضاء على الأخير يستلزم التصدي للأول.
لكن، لنفترض أن ما حدث في مدة قصيرة لا تحكمه سوى المصادفة حقاً، وأن كل تفصيل مما سبق منفصل عن الآخر بالمعنى الإجرائي. هذا لا ينفي ترابطاً من حيث وقوع هذه التجاوزات ضمن مناخ عام، مناخ يستهدف اللاجئ السوري بلا تورية أو حياء، ويستقوي بصمت يشمل النخبة السياسية كلها، إن لم يكن يستقوي بتواطؤها على اصطناع عدو يتحد إزاءه اللبنانيون وينسون استحقاقات داخلية لبنانية تفوق إلحاحاً ملفَّ اللجوء السوري الذي يُرمى به كجوكر بين الحين والآخر.
أيضاً، ثمة تفسير وجيه يطرحه أصدقاء لبنانيون حول استهداف السوري، مفاده ما يشي به الاستهداف من عنصرية لبنانية بينية يتم تصريفها نحو الآخر السوري، بعد تعب اللبنانيين من تصريفها داخلياً في جولات الحرب الأهلية وما تلاها من انقسامات. ويسعنا القول بأن هذا التحليل قد يقدّم معرفة للبنانيين، أو يدفعهم إلى طرح تساؤلات ضرورية على أنفسهم، أكثر بكثير مما يقدّمه من عزاء لسوريين متضررين مباشرة أو بشكل غير مباشر من مظاهر العنصرية اللبنانية تجاههم. فضلاً عن أن إلحاح هذه القضية وراهنيتها لن ينتظرا تشكل وعي لبناني أفضل لها، بقدر ما ينبغي أن يكون التطلع إلى تحرك فعلي يضع كافة أشكال العنصرية تحت طائلة القانون، وإذا لم يكن هذا ممكناً يكون قد وضعها تحت طائلة الانكشاف الأخلاقي الذي لا لبس فيه.
قد يستدعي حال المثقفين اللبنانيين التضامن أيضاً بسبب قلة حيلتهم، إنما ليس من قبل سوريين مستضعفين في بلدهم أو في الشتات، وليس بالتأكيد من قبل سوريين يُقتلون يومياً بسلاح ميليشيا لبنانية تعبّد بأجسادهم طريقها المزعوم إلى القدس. هذا الضعف اللبناني هو بالأحرى جرس إنذار للّبنانيين أنفسهم؛ فأن لا تستطيع سوى قلة رفع أصوات متفرقة، جلّها على وسائل التواصل الاجتماعي، ضد انتهاكات موصوفة لحقوق الإنسان؛ هذه ليست بشرى عن المستقبل اللبناني أولاً، ولن تكون بشرى حتى عن المستقبل القريب جداً لبلد طالما طرح نفسه كبلد للحريات في محيط استبدادي.
وأن تنبري أقلام لبنانية، تستقوي بتواطؤ ومزاج عنصري، إلى تخوين القلة المتضامنة مع اللاجئين السوريين، تحت ذريعة مكافحة الإرهاب، فهذا أيضاً حال لا يبشر إلا بمزيد من القمع، بحيث لا تترك أية مساحة حرية إلا للذين يستظلون بحماية من أحد مراكز القوى القادرة على تأمينها. ومن المعيب لأي سوري تنبيه لبنانيين لا تنقصهم الفطنة إلى أن شعارات من نوع تنزيه الجيش عن النقد لا تبشّر عادة بتحولات إيجابية للبلد ككل، وفي كافة التجارب المماثلة جرى استغلالها لمزيد من قضم الحريات العامة، ولا داعي للمقارنة مع دول ديموقراطية لا توجد فيها أية جهة فوق النقد حتى في حالات الحروب الشديدة، أو في حالات الطوارئ.
ولعل أكثر الفئات رياء تلك التي تتشدد في الدفاع عن الجيش وواجبه في حماية لبنان وحدوده مع سوريا، دون أن تتذكر واجبه في حماية السوريين من ميليشيا حزب الله التي تتدفق إلى سوريا باستمرار عبر الحدود نفسها. ولكي لا تبدو هذه فئة قليلة تنبغي الإشارة إلى طبقة سياسية مزقت ما يُعرف ببيان بعبدا، على رغم كونه محض حبر على ورق، وتحللت بذلك من أدنى التزام أخلاقي أمام مأساة السوريين. الأهم أن هذا يضع الطبقة الحاكمة ومشايعيها في موقع شراكة حزب الله في عدوانه على السوريين، وتكون هذه الطبقة بمجملها مسؤولة عن العدوان على السوريين وعن التعديات المتواصلة عليهم في لبنان.
لقد سبق في العديد من المناسبات أن انفضحت تعديات تعبر عن العنصرية إزاء السوريين، وأخذ بعضها طريقه إلى الإعلام لأنه لم يكن صادراً عن مؤسسات لبنانية بل عن أفراد. رغم ذلك، وخلال سنوات من محنة اللجوء السوري، لم نسمع عن حكم قضائي في حق أي لبناني ارتكب جريمة من هذا القبيل. هذا يعني أنه بإمكان أي لبناني استهداف أي سوري كما يشاء دون محاسبة، والبرهنة على هذه الحال لا تتطلب من كل منا سوى استرجاع عشرات الحوادث التي يحصل ما يشبهها يومياً، ولا يتكلف ضحاياها السوريون عناء الشكوى وإشهار أنفسهم طالما أن ذلك لن يرد لهم حقوقهم.
وأن تكون العنصرية أكثر حدة تجاه الأكثر فقراً ممثلاً بنازحي المخيمات فهذا سلوك لا يستبطن فقط عنصرية مركبة، بل يستبطن انتهازية المصالح التي تتغاضى عن سوريين تساهم أموالهم في عجلة الاقتصاد اللبناني، وعن سوريين قادرين على استئجار تلك الشقق التي باتت فارغة منذ شح السياحة الخليجية قبل أكثر من عشر سنوات لأسباب تخص ممارسات حزب الله. كما أن هذه العنصرية تستثني عمالاً سوريين يقطنون في الضاحية الجنوبية، طالما أنهم موجودون برضا الحزب ويذهبون بمواكبته إلى السفارة السورية لينتخبوا بشار الأسد.
إلقاء المسؤولية على الآخرين لا يُحتسب بدعة لبنانية بالطبع، إلا أن تصريحات من نوع إلزام اللاجئين بشراء وأكل فائض موسم التفاح لا بد أن تُزكّى كنباهة خاصة. كذلك الأمر مع اعتبار الهجرة اللبنانية، في بلد معروف تقليدياً بكثرة جالياته حول العالم، نتيجةً للنزوح السوري الحالي، بلا أي انتباه لأولئك الذين يعلنون على وسائل التواصل الاجتماعي ضيقهم بالعيش في جمهورية حزب الله وعزمهم على الهجرة، أو الذين نفذوا إعلانهم فعلاً. اللبنانيون يتناقصون؛ هذا خبر مؤسف حقاً. وما هو مؤسف أكثر أن يتناقص عدد الذين يمثلون لبنان بوصفه بلد الحريات ضمن محيطه، هؤلاء هم لبنان الذي يُدعس على جسده أيضاً.
عذراً التعليقات مغلقة