* ميشيل كيلو
الاستحالة الأولى: منذ 30 يونيو/حزيران من عام 2012، حين تم إعلان وثيقة جنيف، وما أفصحت عنه من توافق دولي على حل سياسي في سورية، وقعت مشكلة لم يجد أحد لها حلاً هي تشكيل “الهيئة الحاكمة الانتقالية” التي تقرّر أن تكون أداة تحقيق الانتقال السياسي من النظام الاستبدادي إلى الديمقراطية، لذلك أعطتها الوثيقة صلاحياتٍ تنفيذية كاملة، وشرطت قيامها برضى الطرفين السوريين المتقاتلين، الذي يلزم الأسديين بتجاوز ما تبين أنه محال: إزاحة بشار من جهة، وقبولهم انتقالاً إلى الديمقراطية قتلوا مئات آلاف السوريين، كي يمنعوه من جهة أخرى. وزاد طين الاستحالات بلة استحالة جديدة، هي قصر فترة الانتقال، التي لا تتعدى سنة واحدة، يُراد خلالها تصفية استبداد شمولي نادر المثال، دام أكثر من نصف قرن وإرساء ديمقراطية في مجتمعٍ مزقته الحرب، ودولة مهددة شبه مدمرة.
الاستحالة الثانية: لتجاوز معضلة تشكيل “الهيئة الحاكمة الانتقالية”، اقترح الروس بعد قليل من غزوهم سورية تشكيل “حكومة وحدة وطنية”، ولمّحوا إلى نيتهم استخدام القوة “لإقناع” الثورة بها خلال فترة ثلاثة إلى ستة أشهر، ستكون كافيةً لاحتواء المعارضة داخل النظام الأسدي، الذي لن يستبدل بنظام ديمقراطي، بينما ستمتد الفترة الانتقالية، فترة ولاية الأسد على الدولة، إلى عام ونصف عام، سيكون من حقه أن يرشح نفسه بعدها لانتخابات رئاسية جديدة، وفق قرار دولي جديد رقمه 2254، أبطلت بعض فقراته وثيقة جنيف، وبعض القرارات الدولية الخاصة بآليات تنفيذها.
بفشل الروس في إرغام المعارضة على قبول “حكومة الوحدة الوطنية” بديلاً “للهيئة الحاكمة الانتقالية”، وبتحول فترة الحسم السياسي/ العسكري إلى زمن مفتوح، وجدت موسكو نفسها أمام استحالة ثالثة، أملتها رغبتهم في تغطية فشلهم، وابتكار حلول لإدارة الصراع بما يخدم مصالحهم. هكذا التقطوا مقترحا تقدمت به مؤسسة راند الأميركية، أقنعتهم بتبنيه دلالات الضربة الأميركية لمطار الشعيرات، ورغبتهم في كسر احتجاز خطتهم السورية، عبر إقناع واشنطن بقراءتهم الخاصة لحل تدرجي أميركي المنشأ، يؤسس خمس “مناطق آمنة” في سورية، تنعم بوقف إطلاق نار شامل، في ظل مرابطة قوات روسية وأميركية وتركية وأردنية فيها، مع الإبقاء على الأسد ونظامه في مناطق سيطرته، وتشكيل كياناتٍ إدارية خارجها، تقودها مجالس مدنية، تعيد السوريين إلى بيوتهم، وتنخرط بعد سنواتٍ من الإعمار في التفاوض حول حل شامل، يفيد من وثيقة جنيف.
بدّل الروس نقاطا مهمة من خطة “راند”، لكنهم احتفظوا بفكرتها عن إطالة الفترة الانتقالية، لأنها ستمكّنهم من تخطي مشكلة الأسد، ووجود عسكري إيراني فاعل في سورية، وستتيح لهم ابتداع “قياداتٍ” مقربة منهم، تفاوض على الحل، عوضا عن المعارضة السياسية المعترف بها، وتنشر نفوذهم في سيطرة الفصائل، وتضع أميركا أمام وقائع أنتجتها خطة مركز معتمد لديها، وتلطف، في الوقت نفسه، علاقات الكرملين معها، بتوسيع العمل المشترك مع جيشها، الذي لا يبدي اليوم كبير اكتراثٍ بخطط موسكو السورية، ويواصل إقامة بيئةٍ استراتيجية، تضم شمال سورية والعراق، تضع “درة العالم الاستراتيجية”، حسب وصف بريجنسكي، تحت يدها، بعدما فشلت في الاستيلاء عليها بين عامي 2003 و2006.
بتموضع واشنطن العسكري في سورية والعراق، وإعلانها أنها ستبقى فيهما ثلاثين عاما، وستحجّم وتخرج إيران من سورية، وتضم وحدات من الجيش السوري الحر إلى الحلف المعادي للارهاب، وستواصل وضع روسيا في مواجهة عجزها عن الانفراد بتحديد نمط الحل السوري ونتائجه، لتذكيرها بأنها لن تنال حقوقها من دون التسليم بأولوية (ومرجعية) الدور الأميركي، القادر وحده على انتشالها من التعقيدات السورية، بعد أن يقطع شوطا كافيا في بناء وجوده العسكري شمال سورية والعراق، وتقويض وجود “داعش” فيهما تحديدا، وقطع طرق إمداد إيران إلى سورية، وتسليم مناطق “داعش” إلى مجالس مدنية متعاونة مع الجيش الحر، ستديرها كمناطق آمنة، وليس كمناطق مخفضة التصعيد، تقيمها موسكو اليوم بالتعاون مع إيران: عدو الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، اللدود.
على الرغم من كل شيء، يبدو أن موسكو وواشنطن متفقتان على مسألة خطيرة النتائج هي إطالة الفترة الانتقالية إلى أمد لم يعد محدّدا، وما سينتجه ذلك من إلغاء نهائي لحل جنيف السياسي الذي ترفض موسكو تحقيقه، بينما يواصل جنرالات واشنطن خططهم العسكرية السورية، ويؤجلون أي حلٍّ ريثما يستكمل البنتاغون إخراج “داعش” والنظام من منطقة وجوده الاستراتيجي في سورية والعراق، ويقتنع الروس أن مفاتيح الحل النهائي كانت وستبقى في يده.
- نقلاً عن: العربي الجديد
عذراً التعليقات مغلقة