* علي العبد الله
بدأت العسكرة، كما التظاهرات التي عمّت أرجاء سورية، بلا قرار مسبق وخطة محددة، حيث ظهرت أسلحة بسيطة في الشوارع التي تحيط بساحات التظاهر لإعاقة عناصر المخابرات والشبيحة لدى مهاجمتهم التظاهرات ومنح المتظاهرين الوقت اللازم لمغادرة المكان، ولم تتسع الظاهرة وتتعزز إلا بعدما أنزل النظام الجيش واستخدم الأخير كل صنوف الأسلحة في قتل المتظاهرين والمسلحين الذين تطوعوا لحمايتهم وبدء الانشقاقات في جيش النظام احتجاجاً على زجه في مواجهة المتظاهرين السلميين وتشكّل كتائب مسلحة تحت اسم الجيش السوري الحر.
ترتبت على الانشقاقات وتشكّل كتائب الجيش السوري الحر تحركات محلية وإقليمية ودولية ميدانية وسياسية، أولها تواتر تشكيل كتائب مسلحة في معظم المدن والبلدات والقرى التي انخرطت في الاحتجاجات والتظاهرات، كتائب محلية تحت العنوان نفسه لكن من دون أن يكون بينها ارتباط أو تنسيق أو حتى تعاون، اعتمدت في انطلاقتها على الإمكانات والخبرات الأهلية المحلية. ثانيها تبني «المجلس الوطني السوري» الظاهرة وتبريرها والدفاع عنها. ثالثها تسابق شخصيات وقوى سلفية ودول عربية وإقليمية للاتصال بهذه الكتائب والسعي لإقامة علاقات عمل معها عبر عمليات ترويج إعلامية، خصصت برامج على فضائيات سلفية خاصة لهذا الغرض، والتمويل والتسليح. ارتبط هذا التسابق باعتبارات عقائدية ومصلحية، حيث وجدت الشخصيات والقوى السلفية، بخاصة الخليجية، في الظاهرة فرصة وساحة «جهاد» للترويج لرؤاها الفكرية والسياسية وتنفيذ خططها وبرامجها، ووجدت فيها أنظمة عربية فرصة للاستحواذ على ورقة الثورة السورية وسحبها من يدي تركيا وقطر، اللتين رعتا تأسيس «المجلس الوطني السوري»، أول محاولة تمثيل مؤسسي للثورة، وأثرتا في صياغته وتوجهاته السياسية، وبدء عملية دعم واسعة لتعزيز مواقع التيار السلفي على حساب تيار «الإخوان المسلمين» الذي تبنته تركيا وقطر، والاستثمار في الثورة برعاية تشكيل فصائل سلفية مسلحة (أحرار الشام، جيش الإسلام، صقور الشام)، تبين أن قادتها كانوا في سجون النظام وقد أطلق سراحهم بُعيد انفجار ثورة الحرية والكرامة في ضوء تصور لدور ما سيلعبونه فيه خدمة لخطته في إدارة الصراع، وتوظيفها في الصراع من أجل إخراج إيران، التي وقفت إلى جانب النظام ودفعته إلى التشدد واستخدام القوة ضد المتظاهرين منذ اليوم الأول للتظاهر وزجت بثقلها التسليحي والمالي والبشري (مستشاريها العسكريين والأمنيين وتقنيي الاتصالات ومقاتلي «حزب الله» بداية، وحرسها الثوري والميليشيات الشيعية العراقية والأفغانية والباكستانية تالياً) من سورية وضرب نفوذها الإقليمي وإجبارها على التخلي عن خططها في تصدير الثورة وكسب نفوذ في الفضاء العربي ودفعها للعودة إلى حدودها الوطنية.
رابعها دخول جماعات السلفية «الجهادية» من دعاة «الجهاد العالمي» على الخط بتشكيل «جبهة النصرة لأهل الشام»، ذراع سورية لتنظيم «القاعدة»، وتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» «داعش» الذي أعلن قيام «دولة الخلافة»، ما منح النظام ورقة اتهام المعارضة بالإرهاب. خامسها تدخل الولايات المتحدة للتحكم والسيطرة على عمليات التسليح وتحديد نوعية الأسلحة والكمية المسموح إرسالها لاعتبارات تتعلق برؤيتها لطبيعة الصراع ونهايته المتوخاة، وتقويمها للكتائب وخلفياتها العقائدية وخياراتها السياسية. سادسها عودة التحالف بين النظام وحزب العمال الكردستاني (التركي) على خلفية تقاطع مصالح في صراعهما مع النظام التركي، دخلت إيران طرفاً في هذا التحالف، وتشكيل «وحدات حماية الشعب» و «وحدات حماية المرأة»، تشكيلين مسلحين لحزب الاتحاد الديموقراطي (الكردي)، فرع حزب العمال الكردستاني في سورية، وقيامهما بدور مزدوج: منع الكرد من المشاركة في الثورة، منع الجيش السوري الحر من دخول محافظة الحسكة وأحياء يسكنها الكرد في مدينة حلب. وهذا فتح له طريق تنفيذ رؤية الحزب الأم لما يسميه «الأمة الديموقراطية»، وتشكيل إدارة ذاتية في ثلاثة كانتونات: الجزيرة، عين العرب/كوباني، عفرين.
أججت التطورات الميدانية وتحقيق كتائب الجيش السوري الحر والفصائل السلفية المسلحة مكاسب جغرافية، بطرد قوات النظام من مساحات شاسعة من الأراضي، بما في ذلك إخراجه من مدن وبلدات رئيسة، التنافس بين الدول العربية والإقليمية على استقطاب كتائب الجيش السوري الحر والفصائل السلفية المسلحة (استفادت من نشاط الدعاة السلفيين في الأحياء الشعبية والأرياف فحققت حضوراً بين المواطنين واستقطبت متطوعين كثر)، كمدخل للنفوذ وتحقيق المصالح، ما خلق مصالح خاصة لهذه «الكتائب» و «الفصائل» وقادتها، وأحدث شرخاً بينها وبين «المجلس الوطني السوري» بداية و «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة» لاحقاً، كما رتب انتقال التنافس على الولاء للحصول على الدعم المالي والتسليحي إلى هذه «الكتائب» و «الفصائل» وقاد إلى انفجار مواجهات مسلحة ودامية بينها (كتائب الجيش السوري الحر والفصائل السلفية، بخاصة «داعش» و «النصرة»)، وبين الفصائل السلفية (أحرار الشام، جيش الإسلام، صقور الشام، وجبهة النصرة) و «داعش» على خلفية الشرعية وتمثيل الإسلام، وبين الفصائل السلفية وجبهة فتح الشام (النصرة سابقاً) على خلفية قبول هذه الفصائل التفاوض مع النظام، واحتمال مشاركتها في محاربة «داعش» وجبهة فتح الشام «جفش»، في ضوء تصنيفهما كمنظمتين إرهابيتين من جانب الأمم المتحدة، وقبولها بتسوية سياسية بشروط النظام وحلفائه.
وهذا أدى إلى إضعاف التحرك المدني وتوقف التظاهرات السلمية، والى تلاشي كتائب من الجيش الحر وتراجع دوره، ومبايعة كتائب محلية صغيرة لـ «داعش» و «النصرة»، لتأمين الأسلحة والأموال والحماية من الفصائل السلفية الأخرى، ومبايعة فصائل إسلامية صغيرة لـ «الأحرار» لحمايتها من «هيئة تحرير الشام»، التي تشكلت باندماج «جفش» والجناح المتشدد من «الأحرار» وعدد من الفصائل السلفية الصغيرة، ناهيك بمقتل وجرح الآلاف في هذه المواجهات البينية.
صبت هذه الصراعات في طاحونة النظام وحلفائه الإيرانيين، وميليشياتهم الطائفية، والروس، ما جعل تحقيق أهداف الثورة بعيد المنال.
* نقلاً عن: الحياة
عذراً التعليقات مغلقة