شهدت الأيام الماضية بعد خسارة الثوار سيطرتهم على أحياء حلب الشرقية جدلاً واسعاً تناول خطر استعادة قوات الأسد ومليشيات إيران الطائفية الداعمة له السيطرة على مناطق كانت محررة مدة طويلة من عمر الثورة، قبل أن يقلب العدوان الروسي ميزان القوى العسكرية.
بداية لا بد من الاعتراف أن استحواذ الثوار على مناطق جغرافية والتحصن فيها والدفاع عنها لم يكن استراتيجية اختيارية، فالتجربة الأولى للثوار في تحرير المناطق وخوض معارك للدفاع عنها ابتداء من تجربة حي “بابا عمرو” في حمص في بداية العام 2012 كانت حالة اضطرارية أجبر الثوار على خوضها تحت ضغط التنكيل والجرائم التي ارتكبتها قوات الأمن والشبيحة بحق مدنيي المناطق الثائرة التي كانت تشهد اقتحامات دموية لضرب الحراك الثوري السلمي، وارتكاب عصابات الأسد تجاوزات مهينة وشائنة بحق الكبار والصغار وخاصة النساء، ناهيك عن تحطيم وسرقة ممتلكات الأهالي، والاعتقالات الواسعة التي لا تميز بين نشطاء الثورة المشاركين في حراكها وغيرهم من المدنيين وزجهم في معتقلات يعلم السوريون بحكم خبرتهم لعشرات السنين مع نظام الأسد مصير من يدخلها، وما يقاسيه من إذلال وتعذيب همجي ينتهي غالباً بفقدان أثر المعتقل، وموته حتى دون أن يحظى ذووه بفرصة تكريم جثمانه بتوديعه ودفنه.
مع بداية تشكيل مجموعات الجيش السوري الحر أخذ الثوار على عاتقهم مهمة حماية المظاهرات السلمية وإعاقة اقتحامات قوات وشبيحة الأسد للأحياء والقرى، دون أن يضعوا في حسبانهم خطط تحرير هذه المناطق من تواجد قوات وموظفي إدارات النظام، وتداعت الأمور بشكل غير متوقع، حيث تعامل نظام الأسد مع هذه الحالات بخبث شديد، فسحب موظفي إداراته الحكومية وقواته، تاركاً وراءه فوضى لم يألفها السوريون.
لم يدم فرح السوريين بتحرير مناطقهم طويلاً، حيث واجهوا لأول مرة تحديات إدارة مناطقهم بأنفسهم، وما نتج عن ذلك من ظهور متنفذين في صفوفهم هيمنوا على شؤون العامة وحياتهم واحتياجاتهم اليومية بالغلبة وقوة السلاح، وظهر تضارب المصالح بين القادة الجدد، في ظل غياب تام لخبرات إدارة مثل هذه الصراعات بمنطق المشاركة والتعاون، لتظهر الانفلاتات الأمنية والصدامات الدموية، التي تحولت لاحقاً إلى صدامات ذات خلفيات عائلية وعشائرية، والأخطر منها الصدامات الناتجة عن اختلاف المرجعيات الأيديولوجية، الدينية خصوصاً.
كان هذا يحصل في ظل انتقال نظام الأسد إلى مرحلة الانتقام بحصار المناطق المحررة وقطع كل سبل الحياة عنها، وتجويعها وقتل أهلها بالقصف الوحشي وتدمير أماكن سكناهم والمؤسسات الخدمية، لتصبح الحياة مستحيلة فيها وضرباً من ضروب الإعجاز التي واجهها الناس لسنوات بصبر وصمود وثبات لا مثيل له، قبل أن تظهر أصوات الاستغاثات والقبول بحلول مذلة عبر الهدن التي أجبرتهم عليها الأوضاع المزرية الناتجة عن سياسات نظام الأسد، متمثلة بشعار وحشي يقول: “الجوع أو الركوع”.
ولأن لكل ظاهرة وجهين، فإن تحرير المناطق لم يكن كله سوءات، فالجغرافية المحررة منحت سكانها فسحة أمل بالخلاص من نظام حكم بلادهم الدموي، وشهدت حراكاً ثورياً ساهم في تعزيز مكاسب الثورة، ودحض دعاية نظام الأسد بأنه يحكم البلاد، ويتمتع بشرعية تمثيل الشعب السوري.
كما شهدت بعض المناطق المحررة حالات حكم محلي أدارها الثوار بالتعاون مع كوادر أهلية بنجاح معقول (بلدة داريا مثلاً)، شكلت حافزاً لثوار مناطق أخرى لخوض معارك تحرير بلداتهم رغم إدراكهم مخاطر هذه التجربة وكلفة تضحياتهم.
مع تحول صراع الثوار ضد نظام الأسد إلى صراع مسلح بشكل واسع، صار تحرير الجغرافية السورية هدفاً أساسياً من أهداف الثوار لتضييق الخناق على النظام وإجباره على خوض مفاوضات تفضي إلى التخلص منه، وفي المقابل دافع النظام وحلفاؤه الإيرانيون ومليشياتهم الطائفية ومن ثم الروس، عن سيطرة الأسد على الجغرافية السورية، لإدراكهم أن هزيمة ثورة الشعب لا تتحقق إلا بالحل العسكري، وأن أي مفاوضات قد يضطرون لخوضها مع قوى الثورة لن تكون لصالحهم ما لم يسيطروا على معظم المناطق السورية ولا سيما مراكز المدن وطرق المواصلات الرئيسية، والمعابر الدولية.
خطة نظام الأسد وحلفائه كانت تتركز على استعادة السيطرة على المناطق التي حررها الثوار أولاً، وترك الجغرافية التي سيطرت عليها التنظيمات الموصوفة دولياً بالإرهاب (تنظيم الدولة الإسلامية، وجبهة النصرة) إلى مرحلة لاحقة، ما دام وجود هذه التنظيمات يخدم ادعاءاتهم ويكسبهم أصواتاً دولية داعمة لهم في الصراع ضد “الإرهاب العالمي”.
وساهم تردد قوى الثورة والمعارضة في تمييز نفسها والابتعاد تماماً عن هذه “التنظيمات الإرهابية” في إضعاف التأييد العالمي للثورة السورية، وانقلاب الرأي العام الدولي لصالح التغاضي عن وحشية نظام الأسد وحلفائه والتأقلم مع ادعاءاته، ولا نغفل حقيقة تداخل وتشابك خيوط صراعات النفوذ والمصالح الدولية والإقليمية ودورها في إطالة أمد الصراع وتحويل الجغرافية السورية إلى بؤرة جذب للمتطرفين وترك الشعب السوري يواجه تحديات مواجهة عدوين في آن معاً، ودفعه للاختيار بين إرهاب الدولة والخضوع للاستبداد الدموي الذي يمارسه نظام الأسد وحلفاؤه، وإرهاب التنظيمات المتطرفة التي تُرك لعناصرها كامل الحرية بالانتقال ودخول الأراضي السورية عبر كل حدود الدول المجاورة وعلى مرأى ومسمع العالم.
الجغرافية السورية غدت مستباحة من عناصر تنظيمات متطرفة، معظمها مصنف على لائحة الإرهاب العالمي، ومليشيات إيران الطائفية، وعناصر المليشيات الكردية التي يشكل غير السوريين معظمها، ومخابرات عشرات الدول، وقوات روسية وبريطانية وفرنسية وأمريكية، وتركية أيضاً، والقادم المجهول قد يكون أخطر وأمرّ.
وحدهم السوريون لا يجدون منطقة آمنة يعيشون فيها على تراب بلدهم، فيما تحظى كل هذه العناصر المسلحة الأجنبية بحرية حكم شعبنا بقوة العنف والترهيب أو قتله وتهجير أبنائه وسرقة وتدمير حاضره ومستقبله.
السوريون اليوم أمام تحدٍ لا خيار أمامهم لمواجهته، وهو تحرير أنفسهم من وهم نصرة الآخرين لهم، كل الآخرين، والعمل معاً على وضع استراتيجيات وخطط لمقاومة كل هذه الاحتلالات، تحفظ ما تبقى من جغرافية سورية محررة من سيطرة نظام الأسد، ومن ثم تحرير هذه المناطق من كل سيطرة للغرباء، وأخطر أنواع سيطرة الغرباء هي سيطرة بعض من يسمى “الأصدقاء” على قرار قوى الثورة.
صحيح أن البشر أهم من كل الحجر، وأن لا أهمية للجغرافية دون شعب يمنحها قدسيتها وعمقها الإنساني، إلا أن الصحيح أيضاً أن التراب السوري استحق ويستحق المزيد من التضحيات ما دام آلاف الأبطال قد سقوه ماء حياتهم وضم رفاتهم.
ولأن الفأس وقع في الرأس، وشئنا أم أبينا، اخترنا أم فرضت علينا معركة الدفاع عن حرية الجغرافية، صار بقاء حلم الثورة وأهدافها مرتبطاً ببقاء مناطق تحفظ لحاضنة الثورة حرية التعبير والعمل لتحقيق حلمها.
والسوريون لم ينسوا أبداً أن نظام حافظ الأسد أجهز بالقتل والاعتقال على كل قوى المجتمع السوري الحية ونخبه وأخضع الشعب بالعنف وقضى على كل آماله بالخلاص منه بعد تمكنه من القضاء على مقاومة جماعة الأخوان المسلمين المسلحة في الثمانينات من القرن الماضي.
لكل هذا.. فإن الحفاظ على القليل المتبقي من الجغرافية المحررة ليس ترفاً، وخسارتها ليست مجرد “كر وفر”، ونخشى أن خطر نهاية الثورة بالخسارة المفجعة، وضياع تضحيات شهدائنا ومعتقلينا ومهجرينا يرتبط تماماً بخسارة آخر موطئ قدم لثائر حر على أرض سوريّة قادر على الصراخ: حرية!
عذراً التعليقات مغلقة