- ياسين الحاج صالح
أن يُكتب عن عام مضى لمناسبة انقضاء عام لاحق أمر يحتاج إلى تسويغ، يحاول توفيره مضمون هذه المقالة التي ينبغي القول أنها متمركزة سورياً، وبمقدار ما شخصياً.
أنتقي من وقائع كثيرة شهدها عام الانعطاف ذاك سلسلة وقائع ينتسب إليها حاضرنا برابطة بنوة قوية. أولاها إعلان تدخل «حزب الله» اللبناني في سورية بعد وقت أطول من أشكال أقل ظهوراً من التدخل. جاء التدخل العسكري للحزب الموالي لسلطة الولي الفقيه في قم بأمر إيراني، وبدأ ببلدة القصير المحاذية للحدود اللبنانية. وقتذاك قال حسن نصرالله أن ميليشياته تدخلت في سورية حين كان المعارضون على وشك أن يعلنوا انتصارهم في دمشق. كان هذا ممكناً بالفعل في رأيي في أواخر 2012 ومطلع 2013، وتدخلت لمنعه الولايات المتحدة عبر أتباعها الإقليميين من «أصدقاء الشعب السوري». تدخُّل الحزب الشيعي الذي لم يواجه باعتراض يذكر من أحد من أعدائه المعلنين جاء في هذا الإطار. وليس من طبائع النظام الشرق أوسطي أن يكون وقع من وراء ظهر لاعبي الإقليم الكبار، الإقليمين والدوليين، ومنهم إسرائيل التي ما انفكت تضرب بين حين وآخر في سورية، من دون أن يكون هدف ضرباتها في أي وقت قوات الحزب الإلهي.
بعد التدخل أتى التوسع في سورية في خدمة المشروع الإيراني، وتم الانتقال من حجج دفاعية من النصف الذي سوغ الحروب الصليبية، تتكلم على حماية «مراقد آل البيت»، إلى استعادة حرفية للذريعة الأميركية وقت احتلال أفغانستان والعراق: نضربهم في أرضهم كيلا يضربونا في أرضنا! مع صدقية أكبر للزعم الأميركي الذي سبقته رضّة 11 أيلول (سبتمبر) 2001.
في حقيقته، يندرج التدخل في تطلع إيران إلى توسيع سيطرتها في المجال العربي، ويتمّ توسل السنّية والشيعية كذاكرات محتقنة ومنابع رمزية وأيديولوجيات مشرعة.
ولا تطرح إدارة هذا الصراع الجديد على الأميركيين والشريك الإسرائيلي تحدياً مغايراً للاحتواء المزدوج الذي سبق أن اعتمدته الإدارة الأميركية حيال الحرب العراقية – الإيرانية.
الواقعة الثانية هي صعود «داعش»، أو تمخض رحم «القاعدة» الولود عن كائن أشد مسخية حتى من دولة العراق الإسلامية، وحاكمها أبو مصعب الزرقاوي الذي كان يذبح ضحاياه بيديه. بعد ظهوره بتسعة شهور، انفرد «داعش» بالاستيلاء على الرقة ومناطق أخرى من سورية، وبعد شهور قليلة أخرى استول على الموصل في العراق. وأثناء ذلك حقق مستويات عالية من الاستيلاء على المجتمعات المحلية والموارد العامة في مناطق سيطرته، وأظهر قدرة مذهلة على القتل المتفنن. «داعش» لا مستقبل سياساً له، لكن مجرد ظهوره وعيشه في زمننا يثير أسئلة قاسية عن تحول خير المسلمين العام إلى قوة للشر والعنف والكراهية، وانقلاب سلطان الغيب المهزوم إلى شيطان، مما هو متواتر في تاريخ الأديان والعقائد.
يثير هذا الصعود أيضاً أسئلة على المسلمين ومجتمعات المسلمين عن قدرتها على مواجهة منابع الشر فيها، وعلى مساءلة النفس. «داعش» يمكنه أن يكون صيغة قصوى للإسلامية المعاصرة، تضمر في جوفها أشكالها الأخرى، وتؤول الإجابة عن السؤال القاسي الذي تطرحه عليها إجابة عن هذه الظاهرة ككل، أو يمكنها أن تكون نقطة كسر وتحلل لمجتمعاتنا لا التئام بعد ذلك. ليس غير ثورة في الدين يمكن أن تكون رداً على «داعش».
ليس هناك ارتباط سببي مباشر بين تدخل الحزب الشيعي المسلح، التابع للولي الفقيه، وظهور «داعش» وصعوده، لكن دلالة الحدثين المتزامنين تتمثل في إدارج الصراع من أجل التغيير وطي صفحة الأبد في سورية، في الصراع السنّي – الشيعي، وهو صراع بالغ الرجعية وهائل الكلفة، ومرشح لدوام طويل.
الواقعة الثالثة هي انقلاب السيسي في مصر على كتف احتجاجات شعبية قوية على حكم «الإخوان المسلمين». كان العمل على «أخونة» الدولة يثير شعوراً بالمهانة بين مصريين كثيرين، ويحفز إلى مقاومات متصاعدة. هناك عنصر وطني في مقاومة الأسلمة في مصر (وفي غيرها) لا يبدو الإسلاميون قادرين على تبينه: دولنا، ومصر من أكثرها، أقل إسلامية مما يعتقدون، وأكثر «وطنية» ودنيوية. لكن تمّ تسخير المقاومة الوطنية للأممية الإسلامية لمصلحة انقلاب فرض حكماً عسكرياً، ومنح نفسه تفويضاً غير مقيد في مواجهة مجتمع المصريين، وليس الإسلاميين وحدهم. طويت صفحة الثورة بسرعة بتواطؤ واسع من جانب الطبقة الوسطى المصرية المذعورة. ولم يستطع الحكم الجديد أن يربط نفسه بأية قضية عامة مصرية، أو يضع مصر في وضع أفضل لمعالجة أي من مشكلاتها الاجتماعية والاقتصادية. ألحق الحكم السيسي هزيمة بـ «الإخوان» حقاً، لكنه اجتهد في طي صفحة الثورة وذاكرتها. وعلى المستوى الإقليمي، كان الانقلاب نقلة كبيرة لمصلحة الثورة المضادة على نحو كان مناسباً جداً للحكم الأسدي في سورية.
الواقعة الرابعة هي المجزرة الكيماوية في غوطة دمشق، والصفقة الكيماوية المشينة التي أعقبتها. يصعب أن تكون هناك واقعة أكثر خسة في تاريخ النظام الدولي المعاصر. بعد مقتل 1466 إنساناً خلال ساعة، وانتهاك خط أوباما الأحمر، عمد الرجل ذاته إلى استصدار ترخيص أممي للقاتل بالاستمرار في القتل بوسائل أخرى. إلهام الصفقة التي رتبها الأميركيون والروس جاء من إسرائيل كما هو معلوم، الأمر الذي يُذكِّر من يحتمل أنه نسي بأن لدينا منبعاً فياضاً للشر، عمل طوال تاريخه على خفض حياتنا واستباحتها، وشكل نموذجاً قياسياً للإباحة والإبادة من جانب متطلعين محليين إلى محاكاته، من أبرزهم دولة الأسديين.
والمعجزة العجيبة التي حققتها سياسات الصفقة الكيماوية تتمثل في أن السلاح الكمياوي ذاته كان بين الأسلحة الأخرى التي رخص كيماويو العالم للكيماوي المحلي استخدامها. كان لسان حال الصفقة يقول: تسلم دولة الأسديين أسلحتها الكيماوية المحظورة دولياً، ولا شأن لنا، نحن «العالم»، مقابل التزامها بذلك، باستخدامها ضد محكوميها المتمردين أية أسلحة أخرى، بما فيها السلاح الكيماوي المحظور الذي نزعناه منها! بعد تجريدها من سلاحها الكيماوي، استخدمت دولة الأسديين فعلاً أسلحة كيماوية عشرات المرات، لكن على نطاقات لا تخدش حياء الأوبامية ولا تبلغ عتبة تضرج خدودها (أو خطوطها) بالأحمر.
قبل عقد من المذبحة الكيماوية الأسدية تم احتلال بلد وتحطيمه بذريعة سلاح كيماوي غير موجود. وبعد عقد يتجدد انتداب طغمة على محكوميها على رغم استخدامها السلاح الكيماوي ضدهم. «الشرق الأوسط» عالم تحكمه آلهة متقلبة المزاج.
كان 2013 هو أيضاً عام الإجهاز على جذع الثورة السورية الديموقراطي، من جانب إسلاميين متنوعين أكملوا عمل الدولة الأسدية في هذا الشأن. «داعش» في الرقة ودير الزور وبعض مناطق حلب، و «جبهة النصرة» في مناطق من حلب وإدلب، وجيش الإسلام في الغوطة الشرقية. الواقعة الأكبر والأكثر تمثيلية في هذا الشأن هي اختطاف سميرة الخليل ورزان زيتونة ووائل حمادي ونظام حمادة في ليل 9/ 12/ 2013، عل يد تشكيل «جيش الإسلام» السلفي في دوما في الغوطة الشرقية، المنطقة التي كانت شهدت المجزرة الكيماوية، وكانت سميرة ورزان شاهدتين عليها، وعلى الصفقة التالية لها. العام ذاته هو عام تحطيم التنسيقيات، أشكال العمل الثوري الجديدة، المبتكرة التي جمعت بين النشاط الاحتجاجي والإعلامي، والسياسي، والإغاثي، وكانت «لجان التنسيق المحلية» أبرزها.
قبل 2013 وطوال ما يقرب من عامين، كان الكلام على ثورة وحرب أهلية في سورية. انتهت حربنا الأهلية، ولم تبدأ، في القصير في ربيع 2013. وتدشن على المستوى السوري زمن محاربي الكراهية الدينيين، السنّيين والشيعة. ومنذ التدخل الأميركي في أيلول 2014 ثم الروسي بعده بعام، اندرج زمن محاربي الدين في زمن المتحكمين الإمبرياليين الجدد.
المشترك بين الوقائع الخمس هو الخسة الخارقة المميزة لجميعها: مشاركة الحزب التابع لإيران قتل السوريين الذين كانوا احتضنوا لاجئيه وساندوه مساندة صلبة في مواجهة إسرائيل طوال الوقت، والخسة الخارقة المميزة لعنف «داعش» ونموذجه الاجتماعي والسياسي، وهو مزيج إجرامي من استعمار استيطاني وتنظيم إرهابي وحكم شمولي، وخسة انقلاب السيسي على ثورة المصريين وطي صفحة الثورة، والخسة الاستثنائية للصفقة الكمياوية والشريكين الروسي والأميركي فيها، وأخير خسة المجموعات السلفية التي شكلت استمراراً لتحطيم الدولة الأسدية كفاح السوريين الديموقراطي.
2013 كان عام الانعطاف.
Sorry Comments are closed