أسئلة “الثورة المستحيلة” في سوريا

ماجد كيالي21 نوفمبر 2016آخر تحديث :
أسئلة “الثورة المستحيلة” في سوريا

majed.kayali ماجد كيالي

  • ماجد كيالي
ربما لم توجد ثورةٌ واجهت من المشكلات والمعضلات بقدر ما واجهت ثورة السوريين، فهي طويلة جداً بالقياس للثورات المماثلة، أي التي تتوخّى إسقاط نظام سياسي. وهي ثورة مستحيلة لأنها انطلقت من نقطة الصفر تقريباً، من زاوية التحضير أو التمهيد السياسي، إذ لا وجود سابق في سوريا لحركات سياسية، بمعنى الكلمة، ولا لتجارب ثورية، بحكم الحرمان من الحياة الحزبية والافتقاد للمشاركة السياسية، وغياب مكانة المواطنة، مع نظام قمعي يحتل الفضاء العمومي بالوسائل الناعمة والخشنة؛ هذا مع الاحترام لتجربة المكتب السياسي وحزب العمل والاتحاد الاشتراكي وإعلان دمشق وغيرها.
فوق هذين فهي ثورة يتيمة، أيضاً، إذ لم يتوفّر لها الدعم المناسب، لا من محيطها ولا من البيئتين الإقليمية والدولية، وضمن ذلك ما يسمى “أصدقاء سوريا”. أي أن السوريين تُركوا لمصيرهم، تحت قصف البراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية والقنابل الارتجاجية، والحصار، ومع مئات ألوف الضحايا، وملايين اللاجئين او المشردين، ودمار أحياء كاملة في عديد من المدن، وتدخلات دولتين (العراق وروسيا)، لذا فهي عرفت، إضافة لكل ما تقدم، بأنها الثورة الأبهى ثمناً من كل النواحي.
بيد أن كل هذه المشكلات والمعضلات لا تحجب حقيقة أساسية مفادها أن ثورة السوريين عانت على الصعيد الذاتي من ثلاث مشكلات أساسية: أولها، الافتقاد لكيانية سياسية جامعة، وضمن ذلك تعثّر قيام طبقة سياسية تدير مسارات العملية الثورية، أو توجّهها، وتحظى على رضى غالبية السوريين؛ مع كل التقدير للجهود المبذولة في “المجلس الوطني” و”الائتلاف الوطني” و”الهيئة العليا للمفاوضات”. وثانيها، اضطراب الخطابات السياسية تبعا للكيانات السياسية والعسكرية التي تصدرت مشهد الثورة السورية، الأمر الذي قوض صدقيتها كثورة ضد الاستبداد ومن اجل الحرية والكرامة والمواطنة. وثالثها، قصور الإدراكات السياسية التي تحكمت بمسارات هذه الثورة ورسمت خطاباتها، وهذه المشكلة بالتحديد هي موضوع هذه المادة.
سأحاول هنا أن أوضح وجهة نظري من خلال طرح مجموعة من الأسئلة التي أعتقد أنه لم يتم إدراكها تماماً، أو لم يتم تمثّلها في الممارسة السياسية للفاعلين في الثورة السورية، ليس كأشخاص وإنما ككيانات سياسية أو عسكرية أو مدنية، مع محاولة مناقشتها.
السؤال الأول: هل تستطيع المعارضة السورية إسقاط النظام بقواها الخاصة؟

طبعاً نحن هنا إزاء إجابتين: الأولى، كانت تعتقد أنه بالإمكان ذلك. والثانية، كانت تعتقد أن ذلك ممكنٌ لكنه يتطلب تدخّلاً دولياً. والحال، فنحن في كلا الإجابتين إزاء موقف رغبوي وعاطفي في وضع يتطلّب موقفاً واقعياً وعقلانياً، إذ لا يوجد أي تناسب في القوى بين المعارضة والثورة، لا من ناحية التنظيم والإدارة والإمكانيات، ولا من ناحية القوى العسكرية التي يعتمد عليها النظام ولم يتورّع عن استخدامها بصورة وحشيةٍ ومفرطة. من جهة أخرى، ما كان يفترض بالمعارضة أن تراهن على تدخّل خارجي، لأن هذه المراهنة أدت إلى ما يمكن تسميته بحرق مراحل ثورية، بالانتقال إلى العمل العسكري وتحرير مناطق، بدون مقدمات أو امكانيات، كما دفعت إلى طرح أقصى المطالبات السياسية (إسقاط النظام)، بدلاً من التدرّج للوصول إلى هذا الهدف.

السؤال الثاني: ينبثق من السؤال الأول، وهو: هل كان ينبغي على الثورة الذهاب نحو الحد الأقصى، في الهدف وأشكال العمل، دفعة واحدة ومن دون تدرّجات وإمكانيات؟

لا أقصد من هذا السؤال التشكيك بمشروعية هدف إسقاط النظام، أو أنه لم يكن صحيحاً؛ وإنما أقصد أنه ربما كان الأجدى طرح مطالب ملموسة أكثر بدايةً بحيث تستقطب أوسع قطاع من الشعب حولها، وتُحرج النظام، وتعطي المجال لتطور الحراكات الشعبية وتصاعدها بدل قطعها. أتفهم طبعًا أن الثورات لا تسير على المسطرة، ولا تأتي على طريقة الوصفات النظرية المنمطة، وأنها تأتي كانفجارات، وهذه لا يمكن هندستها ولا التحكّم بالتداعيات الناجمة عنها. لكنني أقصد أن ثورة السوريين سارت في هذه السبل ليس بطريقة عفوية، وإنما بفعل ضغوط أو تشجيعات أو مراهنات خارجية، سواء في التحوّل من الثورة الشعبية إلى الانحصار في الصراع المسلح، أو في طرح مطلب إسقاط النظام مرّة واحدة، أي أن ما حصل من مسارات وخطابات لم يأت نتاج تطور في الإمكانيات والقدرات وفي مسار الثورة.

وقد كان من شأن إدراكات أنسب وانتهاج أساليب أنجع في مواجهة النظام، وضمنه الحذر من الاستدراج السهل نحو العسكرة، التقليل ما أمكن من الخسائر، والحفاظ على البيئات الشعبية الحاضنة للثورة، بدل التسهيل على النظام إخراجها من معادلة الصراع، عبر تشريد ملايين السوريين، و فرض الحصار عليهم وقصفهم، فيما بات يُعرف بالمناطق “المحررة”.

وكان من شأن كل ذلك معرفة كيف يمكن التقدّم وكيف يمكن التراجع، ولو باعتبار الثورة بمثابة مرحلة أو تمرين أو محطة تنقل الشعب من حالة إلى حالة، سيما أن خروج السوريين إلى الشوارع، ونزع الخوف من قلوبهم، هو ثورة في حدّ ذاتها، بدلاً من ترك الأمور تصل إلى ما وصلت إليه. أي أن ثورةً بوتائر صراعية أقل، وحتى مع شعارات غير نهائية او مطلقة مع بقاء الشعب أو معظمه في دائرة الصراع أفضل بكثير، في المنظورين الآني والاستراتيجي، من ثورة بوتائر عالية جداً وشعارات حدية، لكن من دون شعب، وبوجود فصائل عسكرية مختلفة المرجعيات وترتهن بوجودها للدعم الخارجي. وهنا، اعتقد أن الشجاعة الأخلاقية تقتضي الاعتراف بأن ما حصل، بالشكل الذي حصل عليه، أضرّ بالثورة، بل وأضر أكثر بمجتمع السوريين وبمستقبلهم.

السؤال الثالث: وماذا لو بقيت الثورة سلمية وشعبية إذاً؟

بديهي ألا أحد عاقلاً يمكن أن يتصوّر أي إمكانية لإسقاط نظام مثل النظام السوري بالمظاهرات أو الوسائل السلمية، لكن هذا لا يعني أنه يمكن إسقاطه بالوسائل المسلحة على نحو ما ذكرنا سابقا، أي أن الأمر يفترض توافر مجموعة عوامل حتى يسقط النظام، ضمنها عوامل خارجية مناسبة. هكذا فإن افتراض بقاء الثورة في حيّزها الشعبي والسلمي سيفضي بدون أي شك إلى انقطاعها أو توقّفها أو إجهاضها. لكن ذلك كان يمكن اعتباره كمحطة أو مرحلة تمهد لما بعدها، أي لثورة قادمة بعد أن يكون السوريون تحسّسوا حريتهم ووجودهم وقوتهم، ودخلوا السياسة. أيضا، في هذه الحال ربما كان يمكن تجنبت سوريا الكارثة المتمثلة بتشريد ملايين السوريين، والتسهيل على النظام وحليفته إيران القيام بالتغيير الديمغرافي في بعض المدن، ثم ما كان ظهر لا داعش ولا النصرة ولا اخواتهما. وعليه فإن المفاضلة في هذا السؤال هي بين بقاء الأسد لسنوات أخرى (وهو بقي كما نرى)، أو حصول الكارثة التي عشناها من دون أن نرى أفقاً من ورائها، وبالنهاية بتنا مع خضوع المعارضة لمطلب رحيل الأسد، مع بقاء النظام، لكن بثمن باهظ جداً.

السؤال الرابع: هل تعتقد المعارضة أن الظروف المحيطة، العربية والدولية والإقليمية، تتيح لها صوغ سوريا المستقبل بحسب ما تريده؟ أم أن الوضع يتطلب المواءمة والتكيف مع هذه الظروف؟

واضح كما قدمنا أن إسقاط النظام لا يمكن أن يحدث بدون قرار دولي وإقليمي، ولاسيما بدون توافق أمريكي روسي، وهذا يعني أن تقرير مستقبل سوريا، سيما بعد تشريد الملايين، وإخراج الشعب من دائرة الصراع، بات في أيدي الدول الكبرى، وهذه لا يمكن ان تسمح لفصيل ما، مهما كان حجمه، أن يقرر مصير سوريا. ولعل هذا يفسر القرارات الدولية التي تؤكد على الحرية والمواطنة والديمقراطية والعلمانية والمشاركة السياسية وحماية الأقليات وتمكين المرأة كعناصر مهمة لتحديد سوريا المستقبل، وهو الأمر الذي اخذت به المعارضة في الرؤية التي قدمتها الهيئة العليا للمفاوضات مؤخراً في مؤتمر لندن. والمعنى أن المعارضة السورية حتى تصل إلى هدف إسقاط النظام معنيةٌ بتكييف خطاباتها مع المجتمع الدولي، لكسب تعاطفه واسناده، سيما أن العناصر المذكورة هي تأكيد على المقاصد الأساسية التي اندلعت من أجلها الثورة السورية (اذار 2011)، وهي تشكل النقيض للنظام الاستبدادي الذي حكم وفق نهج نزع الحرية ونزع المواطنة ونزع الدولة ونزع السياسة طوال حكمه سوريا، وفقا لشعاره: “سورية الأسد إلى الأبد”.

السؤال الخامس: ما هي رؤية المعارضة لمستقبل سوريا: دولة دينية طائفية، أم دولة مواطنين مدنية وديمقراطية؟

في الواقع لا يمكن لأي قوة أو كيان سوري، سياسي طائفي إثني أيدلوجي مناطقي عشائري، أن يطالب بفرض وجهة نظره دونا عن الأخرين لاعتقاده بمظلوميته او أحقيته أو أكثريته أو أقليته. والقصد أن الحديث عن وحدة سوريا لا يعني شيئا بدون الحديث عن وحدة السوريين كشعب، أي أن أية رؤية ينبغي أن تنطلق من أن سوريا لكل السوريين، مواطنين وأحرار ومتساوين. والحديث عن الحرية والمواطنة والمساواة والديمقراطية تعني أن مستقبل السوريين لا يمكن أن ينبني على أساس أقليات واكثريات وفقا لعصبيات طائفية او إثنية، أو وفقا لانقسامات عمودية، وأن الأمر يقتضي تحرير السياسة من هذه العصبيات، الدينية والطائفية والإثنية، في نظام ديمقراطي يكفل الحرية والمساواة للجميع أفرادا وجماعات.

السؤال السادس: يتعلق بالتجربة العسكرية، فهل سارت بالطريقة الأنجع والأقل كلفة، أم بالطريقة الخطأ والأكثر كلفة؟

في الحقيقة، وطوال الفترة الماضية، انصبّ النقد على المعارضة السياسية، وهي تستحق، لكن النقد كان يجب ان ينصبّ ايضاً على الفصائل العسكرية، فهذه تبنّت استراتيجية (إن جازت تسميتها كذلك) تتأسّس على: أولاً، جيش مقابل جيش بدون إمكانيات وإدارة ووحدة قرار. وثانياً، “تحرير” مناطق دون أن يحصل ذلك حقا، إذ تحولت إلى مناطق محاصرة، ما عرّض السوريين إلى كارثتي الحصار واللجوء، فضلا عن أن هذه المناطق لم تقدم نموذجا أفضل عن النظام، بل تكشّفت عن فشل ذريع في الإدارة وفي هيمنتها وفرض تصوراتها بالقوة على السوريين، فضلا عن أنها حررت النظام من عبء السيطرة على هذه المناطق، وتوفير قواته لمناطق أخرى. وثالثا، إن معظم هذه الفصائل تبنى خطابات دينية وطائفية، ما أضر بصورتها وبصدقية ثورة السوريين وبإجماعاتهم. ورابعا، ظلت هذه الفصائل تشتغل كل لوحدها، جيش الاسلام في الغوطة، واحرار الشام في حلب وادلب، والجبهة الجنوبية لوحدها. ولذلك حصلت انسحابات من القصير والضمير، وتركت داريا لمصيرها، وقبلها اليرموك والزبداني، واليوم المعضمية وقدسيا والهامة وحلب. خامسا، معظم هذه الفصائل استند إلى دعم خارجي، وبالتالي ارتهن لأجندة خارجية، عسكريا وسياسيا.

المهم ينبغي إدراك أنه في السياسة لا تقديس لأحد ولا للعمل العسكري، فهذا ما أوصلنا إلى ما يحدث اليوم في حلب، وإلى الشروط الدولية لوقف القتال. عموماً لم تستفد الثورة السورية وخاصة الجماعات العسكرية من تجربة الفلسطينيين (مثلما لم يستفد الفلسطينيون ذاتهم من تجربتهم الطويلة والمريرة). فالكل يظن ان الثورة، سيما إذا تضمنت العمل المسلح، مسألة مزاج أو مجرد تعبير عن رغبة أو إرادة أو تمرد، في حين أن هذه تحديدا تحتاج إلى دراسة وتبصر وموازنة الكلفة بالمردود وحسابات الاستثمار السياسي. كما تحتاج لإدراك أن العمل المسلح يتطلب اموالا أكثر وسلاحا أكثر وذخيرة باستمرار وخطوط امداد، أي يحتاج الى دول، وهذا كله يفضي الى الارتهان الى هذه الدولة أو تلك. وكلما ضعف الطابع الشعبي للثورة وزاد منسوب العمل المسلح فيها، كلما زادت ارتهاناتها لهذه الدولة او تلك إلى الدرجة التي يغدو فيها إرضاء هذه الدول او خدمة سياساتها أهم من الأهداف التي قامت من اجلها الثورة او العمل المسلح. هكذا تصبح الجماعات العسكرية غاية في ذاتها، أو تتحول إلى سلطة وإلى لعبة في الصراعات الدائرة.

السؤال السابع: ما رأي المعارضة بجبهة النصرة، أو جبهة فتح الشام، وأخواتها؟ هل هي عبء على الثورة والسوريين أم أنها قوة مضافة لهم؟ هذا سؤال يتبعه سؤال استدراكي مفاده: هل يمكن لهذه الجبهة ومثيلاتها أن تسقط النظام؟

واضح أننا نتحدث اليوم ونحن نعرف الإجابة عن ذلك. إذ أن اسقاط النظام، سيما بعد التدخل الروسي، بحاجة إلى توافقات دولية، والتوافقات هذه لا يمكن أن تأتي في ظل وجود جبهة تُعتبر جزءاً من منظمة القاعدة، ومحسوبة على الإرهاب، وتنتهج تكفير الغرب، إذ لا يمكن للغرب أن يدعمك وأنت تتهمه بالتكفير وتعتبره عدوا لك وفق منطلقات دينية فات أوانها في عصرنا اليوم. طبعا، واضح أن الجبهة لم تحقق فرقا في معادلات الصراع العسكرية مع النظام، بل إنها اشتغلت أساسا على إزاحة الجيش الحر، كما انشغلت بمصارعة الفصائل العسكرية الأخرى لفرض ذاتها، فضلا عن أنها ازاحت الخطاب الأساسي لثورة السوريين، وقوضت صدقيتها في العالم، وحتى إزاء شعبها، باعتمادها تصورات دينية وطائفية، بحيث بتنا الآن أمام واقع أن تركيا وقطر والسعودية تتخلّى عن جبهة النصرة، وتطالب المعارضة بالتخلي عنها، هذا فضلا عن الدول الكبرى. المهم أن هذا بمثابة درس للمعارضة بكياناتها السياسية والعسكرية، ينبغي استنتاج العبر منه، فأولا، جبهة النصرة كانت عبئا على ثورة السوريين، وشوهت مقاصدها، وحملتها أكثر ما تحتمل، ولا أحد يمنّن أحد، إذ ان الشعب السوري هو الذي دفع ثمن النهج السياسي والعسكري للنصرة واخواتها. ثانيا، هذا يعني أن الدول لا تشتغل كجمعيات خيرية، وهي تدعم بقدر ما تستفيد وبقدر ما توظف هذا الفصيل أو ذاك خدمة لأجندتها. ثالثا، الارتهان للمساعدات الخارجية يضر بالثورة ويأخذها بعيدا، ويجعلها رهن هذا الدعم بالتصعيد أو بالتخفيف بالسياسة وبالعسكرة.

أسئلة كثيرة تحتاج إلى نقاش وإلى إجابات والمهم أن تحسم المعارضة أمرها في ذلك.

المصدر : معهد العالم للدراسات
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل