الموسيقى واللاعنف

فريق التحرير18 نوفمبر 2016آخر تحديث :

naser.shama نصير شمه

*نصير شمة

على الرغم من أن العنف بدأ يجتاح العالم أجمع بطرق وأساليب مختلفة، إلا أن حركات وأحزابا وتجمعات كثيرة قامت في المقابل حاملة رسالة مضادة للعنف، وفيما يتبوأ العنف المكانة الأولى في التغطية الإعلامية، تغيب الحركات الهادفة إلى الوقوف ضده عن الاهتمام الإعلامي.
وتقف الموسيقى في مقدمة الأدوات التي يستخدمها المضادون للعنف في العالم، فالموسيقى تعتبر أكثر الفنون قدرة على الوصول إلى الجماهير، وبالتالي تحريك الناس، وبناء فكر إنساني محرض على الجمال.
وفي أنحاء كثيرة من العالم، خصوصا في بلدان عرفت الثورات والسجون والقمع، قامت حركات موسيقية، بل تأسست أساليب جديدة في الأداء الموسيقي كانت قد استخدمت في البداية لتطبع مجموعات بشرية معينة بشخصية واحدة، وأغلبنا يعرف على سبيل المثال موسيقى الجاز التي كانت بدايتها مع الزنوج، الذين يعملون كعبيد قبل تحررهم، وكانوا يعبرون عن أنفسهم بالجاز، وعندما تحرروا تحرر معهم الجاز ليصبح تيارا موسيقيا يغنيه ويشارك في عزفه السود والبيض على حد سواء.
الهتافات والأغاني والأناشيد في الثورات، كانت طريقا جميلا للناس إلى الحرية، وهي أكثر الطرق التي تقض مضاجع ديكتاتوريي العالم، لهذا يحاربونها
مستغلين كافة الطرق لدفع أي مبادرات تحررية سلمية نحو العنف والسلاح، لأنهم في هذه المعركة يربحون ما يخسرونه في معركة الموسيقى. وقد قال مارتن لوثر كينغ في هذا الصدد: «أغاني الحرية تمثل روح الحركة، وتقربنا من بعضنا وتساعدنا على السير معًا»، ذلك أن الهتافات والأناشيد تجمع الناس الذين يتشابهون في الأهداف وتقرب المسافات بينهم، والمعروف أن مارتن لوثر كينغ كان قد ألف إحدى أشهر أغاني الثورات التي استطاعت أن تخلق حراكا مدنيا بين صفوف الثوار.
للموسيقى أثرها الكبير والمباشر في مساندة حركات اللاعنف وتقف في مقدمة الفنون المحرضة، على الرغم من فاعلية الفنون الأخرى في هذا الإطار.
وذكر مارتي براناغان في إطار أطروحته للدكتوراه التي اختصت بموضوع اللاعنف أن «ثمة العديد من الأساليب التكتيكية التي يمكن من خلالها للفن أن يخدم
قضية اللاعنف، فكما أوضح سبينسر (1990، ص 84) يمكن للموسيقى أن تلهم الناشطين وأن تشجعهم، إذ يمكن لها، عند فتح مجال لهم للتنفيس عن غضبهم وعن
طاقتهم العصبية أن تبقي الاحتجاجات سلمية، بدلاً من إفسادها عبر الدخول في مهاترات مع الخصوم، كما يمكن أن تعزف الموسيقى لتهدئة الحشود الغاضبة كما حدث عام 2001 خلال المسيرة التي قام بها بعض الأستراليين في مقاطعة آرميديل ضد وحشية رجال الشرطة، عندما عمد أحد الرجال المسنين إلى غناء أغنية هادئة فكان لها أثر كبير في منع حالة من الشغب، وغالبًا ما تقوم الفنون بأشكالها بأداء أدوار متعددة في آن، كما يحدث حينما يتم وضع عدد من اللافتات الملونة عند القيام بمحاصرة الطرقات وذلك لتحذير السيارات والمركبات من المرور ونقل رسائل معينة للحكومة ولإعلام الجميع، بأن الحصار هو عبارة عن عمل جماعي غير عنيف بدلاً من إظهاره بمظهر عدواني.
تستطيع الموسيقى في الحقيقة توصيل رسائل عميقة بطرق غير مباشرة، وقد أثبتت التجارب على طلاب المدارس أن الموسيقى نجحت في تحويل بعض منهم من طلاب عنيفين يلجأون إلى إثارة الشغب في كافة المناسبات إلى أشخاص يعرفون كيف يتعاملون مع الآخر بطرق أكثر سلمية وتحقيق أهدافهم بوسائل أسرع.
فقد يلجأ مؤمن بالعنف إلى الظن أن الكفاح المسلح مثلا هو الطريق الأقصر لتحقيق السلمية والديمقراطية، لكن في الحقيقة أن هذا الطريق طويل جدا، ويجر خلفه
عنفا أكبر، فما أن يبدأ السلاح بالكلام حتى تغيب لغة العقل، والعنف يجر إلى المزيد منه فالمقتول بالسلاح له أهل يريدون الانتقام، والانتقام يجر الانتقام، كما أن الموت لا يجر خلفه سوى المزيد منه، في حين أن طريق اللاعنف مهما طال سيظل أقصر بكثير من طريق العنف، فما أن تسقط الديكتاتورية حتى تسطع الحياة من دون وزر العنف.
الفنون عامة تحرض على اللاعنف، فالرياضة وهي أيضا واحدة من أكثر الفنون شعبية تستطيع تهذيب النفس وإطلاق المشاعر الأكثر إنسانية فيها، طبعا هناك من
الرياضات ما يتعارض مع هذا الكلام، والأمر أيضا يخص الموسيقى وبقية الفنون، إلا أن الرياضة بوجه عام تطلق عبر الحماس والتشجيع المشاعر السلبية وتخفف من فوران النفس، مثل الرقص.
ولعلنا نلاحظ أن الدول التي اعتمدت على تدريس الفنون في مدارسها، استطاعت أن تحقق دعما حقيقيا للاعنف، عكس تلك الدول التي لم تنتبه إلى أهمية الفنون ليس بوصفها أداة للعمل في المستقبل، بل بوصفها الطريق الأقصر والأكثر تعبيرا عن الإنسان بوصفه إنسانا قبل أن يستحوذ عليه الشر.
الموسيقى سواء كانت مشاركة فعلية أو سماعا تشجع المجتمعات على الانخراط بأفعال اجتماعية تتصل بالآخر الذي دائما ما نجد أنفسنا في مواجهته، سواء بالمحبة أو بالكره، الفارق مع الموسيقى أن المواجهة ستكون خطا أقرب من الإنسان في بداية خلقه قبل أن تتشكل مشاعره.
في المحصلة الموسيقى الطريق نحو استعادة ما نفقده عندما نكبر من براءة مواجهتنا الأولى مع العالم، لأن تلك المواجهة تجعلنا نقف متربصين ونحن لا ندرك إن كان
الآتي سيئا أو جيدا، والتربص بوسعه أن يغير الكثير من دواخلنا..
استعيدوا سحر الإنسانية بالموسيقى، وعبرها أيضاً نكتشف عالم اللاعنف الذي نتمناه ونريده ملاذاً لأرواحنا التي طالها العنف بكل أشكاله.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل