يحتار الحليم في تردد المجتمع الدولي بوصف المجازر التي ترتكب في سوريا من قبل قوات الأسد وحلفائه الروس وميليشيات إيران الطائفية بحق الشعب السوري الثائر بأنها جرائم حرب، وأقصى ما سمعناه من ممثلي الدول الكبرى والمنظمات الدولية في هذا وصف هذه المجازر المتواصلة منذ أكثر من خمس سنوات أنها “قد ترقى” لتكون جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، فلماذا هذا التردد الذي يثبت تواطؤ هذه الجهات مع منفذي جرائم المقتلة السورية التي لم يشهد لها العالم مثيلاً في بشاعتها ووقاحة مرتكبيها منذ الحرب العالمية الثانية!
يعلل بعض السياسيين والخبراء القانونيين هذا التردد المخزي بأن “التحقيق والتأكد من كل ما جرى في عين المكان” غير متاح للجان التحقيق حالياً، وهو قول صحيح من حيث المبدأ، لكنه عذر أقبح من ذنب، فمن يعيق إجراءات التحقيق والتثبت “في عين المكان” هو طرف معروف ولا يختلف عليه اثنان، فلجان التحقيق التي قررت جامعة الدول العربية، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة تشكيلها للنظر والتحقيق في الجرائم والمجازر المرتكبة في سوريا.
على قلة هذه اللجان، منعت من عملها، بل ومنعت من دخول الأراضي السورية في حالات كثيرة، من قبل نظام الأسد، وفي حالات محددة جرى التلاعب من قبل قوات الأسد في إجراءات عملها، وجرى اصطحاب المحققين العرب والدوليين إلى مناطق غير تلك المستهدفة بالتحقيق، وبمرافقة وضغط وترهيب من قبل قوات أمن نظام الأسد، وما يثير الشك في جدية هذه المهام التحقيقية أن هذه اللجان والمنظمات الدولية التابعة لها مارست سياسة الصمت على كل هذه المحاولات التضليلية والمعيقة لعمل اللجان!
قد يكون من المفيد أن نعود إلى ما يقوله القانون الدولي في وصف هذا النوع من الجرائم التي تنبه لها المشرعون والباحثون في القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي، وأفردوا لها من اهتمامهم حيزاً كبيراً، نظراً لما تشكله من خطر على الأمن والسلام والدولي، فنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية يعرف الجرائم ضد الإنسانية بأنها مجموعة من أعمال ارتكبت في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين، كجزء من خطة أو سياسة عامة، وفي هذا الخصوص فإن إنكار مسؤولية الأسد وقواته عن جرائم قصف واستهداف المدنيين في أماكن سكناهم، وحصارهم ومنع وصول قوافل الإغاثة إليهم في حلب وحمص وإدلب وداريا وغيرها من المناطق السورية يبدو عبثاً بلا طائل، ومن يمارس سياسة تبرئة قوات الأسد الأمنية والعسكرية من هذه الجرائم يبدو كمن يحاول إخفاء الشمس بغربال!
أما المطالبة بالإثباتات والتحقيق في “عين المكان” فإنها مردودة على الجهات الدولية العاجزة عن إنفاذ قراراتها بخصوص حرية حركة لجان التحقيق، كما أن محاولات التعمية على حقائق راسخة في هذا الصراع من قبيل البحث عن اثباتات أن نظام الأسد هو من يقصف مواقع مدنية وخدمية بالطائرات الحربية والبراميل المتفجرة المحمولة على متن الحوامات، يثير الاشمئزاز لدى كل عاقل يعي تماماً ويعرف معه كل من يمتلك نظراً أن فصائل الثورة لا تملك طائرات حربية ولا حوامات!
إن قواعد حماية المدنيين في النزاعات المسلحة التي تنص عليها مواد اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والبرتوكولان الإضافيان لعام 1977، جرى انتهاكها على نحو ممنهج ومتواصل من قبل قوات الأسد وحلفائه طوال سنوات الثورة، كما أن جرائم قتل المعتقلين تحت التعذيب وتجويعهم حتى الموت باتت موثقة بشكل لا يدع مجالاً للشك فيها.
وهذا التوثيق أتى من طرف محسوب على نظام الأسد قبل انشقاقه، والأدلة التي يتضمنها الملف المعروف باسم مستعار للمسؤول في الشرطة العسكرية التابعة لنظام الأسد “القيصر” هي أدلة أثبتت جهات قانونية دولية ذات مصداقية أنها حقيقية، بقدر ما هي صادمة ومفجعة، ولا يستطيع أحد ولا جهة محترمة الادعاء أن الفاعلين في جريمة قتل المعتقلين تحت التعذيب مجهولون، أو مشكوك بأنهم ينتمون لنظام الأسد، ومع ذلك تبدو محاسبة المسؤولين عن هذه الفظائع بعيدة المنال، وتبدو جهود سوقهم إلى العدالة من قبل كل الأطراف المعنية بهذا الملف المفجع مجرد كلام فارغ من أي مضمون، حتى الآن على الأقل!
وإذا كان مجلس الأمن وقف عاجزاً في بدايات جرائم نظام الأسد ضد شعبه بفعل الفيتو الروسي دعماً للأسد، فإن احتمال قيامه الآن بإحالة الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية يبدو صفراً، بعد أن تورطت روسيا بنفسها في هذه الجرائم، واستخدمت في قتل السوريين ذخائر محرمة دولياً، عنقودية وفوسفورية وحارقة، واستهدفت طائراتها المدارس والمستشفيات ومراكز الدفاع المدني على نحو واسع، وهي لا تخفي جرائمها على كل حال، ولا تبدي أي خشية أو قلق من أي تحرك لمحاسبتها، وتعاملت القيادة الروسية بكل استخفاف واستهزاء مع كل التصريحات الدولية، الفرنسية والبريطانية على وجه التحديد، بأن قواتها ترتكب جرائم حرب في سوريا، وفي حلب خاصة.
ولا يبدو التوجه للجمعية العامة للأمم المتحدة مفيداً أيضاً، فالجمعية لا تملك سلطة ذات جدوى نظرا للطابع غير الإلزامي لقراراتها، ورغم أن الجمعية العامة تمتلك مثلاً صلاحية تشكيل قوات لحفظ السلام، كما أن باستطاعتها اتخاذ قرار باستخدام القوة لأغراض إنسانية استناداً إلى قرار “متحدون من أجل تعزيز السلام”، وهو الطريق المتاح للجمعية العامة للتصدي لموضوع من اختصاص مجلس الأمن في حالة فشل المجلس في التصدي له لسبب من الأسباب، فإن ذلك يتوقف على توفر الإرادة السياسية للقيام بخطوة من هذا النوع، وفي الحالة السورية تبدو الأطراف الدولية الفاعلة عازمة على عدم استخدام هذا الحق، بل ومن الواضح أنها تعارض أي جهد دولي يعمل على التحرك باتجاه الجمعية العامة، وسبق لها أن أعاقت كل خطوة في هذا الاتجاه، وللأسف وقفت أنطمة دول عربية، مثل نظام الانقلاب في مصر، في خندق إحباط المساعي السعودية والقطرية للعمل على “تحرك ما” من خارج مجلس الأمن عبر الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وما دام العجز الدولي عن إيقاف جرائم الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين ومليشيات الولي الفقيه الطائفية متعددة الجنسيات مستمراً، فإن من المتوقع أن يكون العجز فاضحاً أيضاَ في ملف محاسبة المجرمين، ولأن المحاسبة شرط حتمي للعدالة، وبالعدالة وحدها يقصى الانتقام والثأر، فلا يلومنّ أحد من يعتقدون أن العدالة الوحيدة المتاحة تحققها فوهات البنادق، وهذا ما لا يرغب فيه أحد، حتى أولياء دم الشهداء، ولكن.. !؟
* “مدونات الجزيرة”
عذراً التعليقات مغلقة