
سوريا أحد البلدان، التي يمكن قراءة تاريخها كرواية ذات فصول متعددة. وذلك لأنه سلسة من الأحداث، تصلح للتدريس، ليس لجهة التشويق، الذي تحمله فقط؛ بل لغنى المعاني والدروس، التي يمكن استخلاصها مما عاشته هذه الجغرافيا المركزية في قلب العالم، حيث شهدت على أرضها تعاقب امبراطوريات تاريخية، الآشورية، الآرامية، السلوقية، الرومانية، وولادة أول امبراطورية إسلامية على يد معاوية بن أبي سفيان.
أجد هذه المقدمة ضرورية، حين نفكر بقراءة التاريخ القريب على مدى قرن مضى، منذ الانتداب الفرنسي على سوريا. وهي تصلح قبل الدخول إلى نص الحديث الطويل، الثري بالمعلومات، الذي أجراه الكاتب والصحافي صقر أبو فخر مع السياسي السوري نبيل شويري، وصدر منذ حوالي 20 عاما في كتاب تحت عنوان “سوريا وحطام المراكب المبعثرة.. حوار مع نبيل الشويري، عفلق والبعث والمؤامرات والعسكر”.
ما يجعل من قرارة الشويري مهمة دائماً، أنه عاصر تأسيس حزب البعث، وعاش عن قرب مع قياداته التاريخية المؤسسة، ميشيل عفلق، صلاح الدين البيطار، أكرم الحوراني، وجلال السيد، وربطته علاقات حزبية مع قيادات الصف الثاني، منصور الأطرش، نور الدين الأتاسي، حافظ الأسد، محمد عمران، سليم حاطوم. وبعض هذه العلاقات، ذات طابع شخصي كتلك التي قامت بين عائلتي الشويري وعفلق، وكان بيت عائلة شويري مرجعا لعائلة عفلق الصغيرة والكبيرة، ولذلك حين يتحدث عن ميشيل عفلق، فإن ذلك يتم من موقع المطلع على تفاصيل لم يصل إليها غيره، كالعلاقة الغرامية، التي ربطت زعيم البعث بزوجة أحد رفاقه في الحزب، واضطرته لمغادرة دمشق إلى البرازيل لدى انكشافها. والحكاية الثانية المعبرة هي زواج الرفيق البعثي نزيه الحكيم من ماري شقيقة عفلق من دون رضاه. ومقاطعته لها وله من موقع تقليدي، ولم يتصالحا إلا بعد أن حصل الطلاق، وعادت ماري لبيت أهلها.
أهمية المذكرات أنها تعكس جوانب مهمة من البنية النفسية العامة للسياسيين والعسكر من الصف الأول، الذين تصدروا المشهد السياسي، وحكموا البلد بدءاً من الخمسينيات، وفي المقدمة عفلق الذي يرسم له بورتريه يظهر فيه شخصية ذات طابع فردي أناني يهتم براحته الشخصية، لباسه، طعامه، وسكنه، يمتاز بقدرة على قراءة شخصيات الناس، وتوظيفهم من أجل خدمة مصالحه. مراوغ، لا يواجه، كلما حصلت أزمة سياسية حادة، يغادر الى البرازيل. في حين لا يتمتع مساعده صلاح البيطار بشخصية قيادية، لا يمكن له أن ينهض بمهمة الرجل الأول؛ بل هو يختار لنفسه كرسي الرجل الثاني.
الشخصيات التي تبدو ذات حضور خاص، شكري القوتلي، اللاعب الذي لا يكل من حياكة المؤامرات للوصول للسلطة، جميل مردم ألمع شخصية سياسية سورية على الإطلاق، سلطان باشا شخصية وطنية نادرة، فارس الخوري ضد الثورة على فرنسا، عبد الرحمن الشهبندر وطني سوري حليف سلطان باشا من أجل الثورة، وضد القوتلي، تآمر عليه تجار دمشق، الذين كانوا يؤيدون الأمير عبد القادر الجزائري، وليس الأمير فيصل بن الحسين، جلال السيد اقطاعي ضد الاشتراكية، منصور الأطرش نجل سلطان، شخصية استثنائية وكفاءة نادرة، تعلم في أهم الجامعات العالمية ويتقن ثلاث لغات، أمين الحافظ عسكري أهوج، سليم حاطوم عضلات فقط، وخالد العظم وخالد بكداش الوحيدان اللذان عارضا الوحدة معاً، بكل صراحة، ويذكر معلومة مهمة وهي أن القوتلي وجميل مردم أرادا إثارة الانقسامات في جبل العرب من باب إشغال خصومهم السياسيين.
ترسم المذكرات ملامح ساسة وعسكر تلك المرحلة، أولاً، يعتمد هؤلاء على الانقلابات العسكرية وسيلةً للوصول الى السلطة، ويلاحظ الشويري تبدل التحالفات بسرعة قياسية، وذلك تبعاً لتغير المصالح، وإعادة تشكيل مراكز النفوذ، ويعكس ذلك عدم نضج الموقف السياسي لدى القيادات، فليس هناك بينهم من هو حريص على مصلحة البلد أولاً، الكل يهمه وضعه الشخصي ومصلحته، ويتجلى ذلك بالموقف من الوحدة مع مصر وجمال عبد الناصر. ويذكر حادثة زعل أكرم الحوراني من ناصر لأنه جلس وحيداً على كنبة كبيرة تتسع لعدة اشخاص، في حين أجلس مساعديه، ومنهم نائبه أكرم الحوراني، على كراسي فردية.
ثانياً، لا يوجد بين سياسيي وعسكريي الصف الأول أحد أثار قضية فلسطين، أو حصل اختلاف بصدد تكوين الجيش وتأهيله، فالقيادات العسكرية متفرغة لصناعة المؤامرات من أجل الوصول للسلطة، وقد نُظّفت كتل كاملة من العسكريين على هذا الأساس، مما جعله ضعيفاً في حرب حزيران في العام 1967.
ثالثاً، استُخدم حزب البعث في النزاعات التي دارت من أجل الوصول للسلطة، وحافظ الأسد، هو الذي عكس الاتجاه ببناء حزب الدولة، بعد الحركة التصحيحية في العام 1970، محل دولة الحزب التي كانت موضوع النزاع، وكان لديه حزب هو الجيش.
رابعاً، حزب البعث لم يكن حزباً موحداً على الإطلاق، وتشكل من عدة كتل، كتلة عفلق والبيطار، كتلة جلال السيد الخاصة بدير الزور، كتلة وهيب الغانم، التي ضمت اللجنة العسكرية، والتي قامت بحركة 23 شباط في العام 1966 بقيادة صلاح جديد، وأكملت المسار، والكتلة الأخيرة هي التي جاءت مع أكرم الحوراني من حركة الاشتراكيين العرب عند الاندماج مع البعث في العام 1953، وخرجت معه حينما غادر البعث. وبالتالي لم يحكم حزب البعث؛ بل أحد فروعه، وكتلة عفلق والبيطار لم تكن موجودة في السلطة بعد 1966، وبدأ عفلق يعمل على نقل نشاطه للعراق.
خامساً، هناك مسائل تبدو تفصيلية لكنها مهمة، منها إسلام ميشيل عفلق، التي اخترعها صدام حسين، بعد وفاة مؤسس البعث من أجل إسكات أصوات كانت تعارض عفلق من موقع طائفي. وأخيراً، أُلحقت تهمة الانفصال بالضباط الشوام في الجيش، وعلى هذا جرت عملية تصفيتهم من بين صفوفه. وجرى اتهام الوحدة بأنها مسؤولة عن إثارة النعرات الطائفية، وتوجيه دعوات للعلويين والدروز بالتحول إلى الإسلام.
يمكن قراءة كل مرحلة منفصلة عن الأخرى، ولكن الأكثر فائدة هو أن تكون القراءة متصلة، غير منقطعة عن السياق العام، كي يمكن فهم وضع سوريا انطلاقاً من تاريخها القريب، فربما ساعد ذلك على عدم تكرار الأخطاء الفادحة التي حصلت بسبب الصراع على الحكم، وتنازع المصالح الشخصية، ولعبت فيها العوامل الطائفية والمناطقية والذاتية الدور الأساسي، ولم يكن هناك أي اختلاف حول مستقبل البلد أو قضية فلسطين.








