المطلوب في سورية سلطة الدولة لا دولة السلطة

عبد الباسط سيدا16 أكتوبر 2025آخر تحديث :
المطلوب في سورية سلطة الدولة لا دولة السلطة

يلاحظ المتمعّن في تطوّرات الشأن السوري ومتغيّراته أن الأمور ما زالت، رغم مرور أكثر من عشرة أشهر على مجيء الإدارة الجديدة، عائمةً متداخلةً، لا توحي بإمكانية حدوث انفراجاتٍ تكون بمثابة بارقة أمل تطمئن الناس بأنهم في طريقهم نحو الأمن والاستقرار، اللذين لا يمكن في غيابهما الحديث عن أيّ نهوض، فما بالك بالتقدّم على صعيد الأفراد والجماعات والمناطق، رغم الوعود الكثيرة والتطمينات المستمرّة من الإدارة، ورغم الاحتفالات والمهرجانات والهدوء النسبي للأوضاع في مختلف المناطق، وإعلان خريطة الطريق الخاصّة بالسويداء، وديمومة الحوارات رغم تعثّرها بين الإدارة و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)… رغم ذلك كلّه، لا يزال الوضع السوري الداخلي هشّاً، يسودُه التوجّس والترقّب في ظلّ استمرارية الخطاب الاستعلائي من ناشطين في الموالاة، وحملات التشكيك والاتهام من ناشطين في المعارضة، وذلك يؤدّي إلى مزيدٍ من التمزّقات في النسيج المجتمعي السوري، الذي يعاني اليوم حالةَ اغترابٍ غير مسبوقة، فالحكومة المؤقّتة ألغت عملياً الحياة السياسية التي كانت أصلاً مشلولةً، ولم تفسح المجال رسميّاً أمام حياة سياسية نشطة تنسجم مع احتياجات السوريين، وتجسّد تطلّعاتهم التي لا تتوافق مع الخطاب التحريضي التجييشي، وسياسة الاقتصار على اللون الواحد، وغياب الشفافية والوضوح في السياسات، وعدم وجود جدول زمني لمهام المرحلة الانتقالية وعناوينها.

الحكومة السورية المؤقّتة لم تفسح المجال أمام حياة سياسية نشطة تجسّد تطلّعات السوريين

الجدير ذكره في هذا السياق، أنه إثر الحوادث الأليمة (المؤسفة) التي كانت في الساحل والسويداء، هيمن على السوريين شعور بالقهر مفعم بالخشية من المجهول المحتمل. وما يضفي المزيد من القتامة على هذا الوضع الحالك عدم وجود أحزاب سياسية وطنية من شأنها طمأنة أعضائها ووسطها، بغضّ النظر عن خلفياتهم المجتمعية، عبر برامج سياسية. أحزاب كان من المفترض أن تدخل في حواراتٍ سياسيةٍ معمّقة مع السلطة، ومع الأطراف السياسية الأخرى، بهدف حلّ الخلافات بالطرق السلمية، والعمل المشترك من أجل طمأنة الجميع بخطواتٍ واقعيةٍ ملموسة.
تميل الغالبية العددية ضمن مختلف المكوّنات المجتمعية السورية، في وقتنا الراهن، إلى العودة للولاءات ما قبل الوطنية، تحت وطأة الإحساس بعدم وجود سلطة دولة وطنية جامعة، دولة على مسافة إيجابية واحدة من جميع مواطنيها. وفي المقابل، يعيش أولئك الذين يرون أنه لا خلاص للسوريين من دون المشروع الوطني الجامع اغتراباً مزدوجاً في مواجهة الخطاب الاستعلائي لبعضهم، ممّن أعلنوا أنفسهم ناطقين باسم الأغلبية العددية، ودعوات من يتحدّثون باسم الأقليات العددية إلى التزام حدود الانتماء الفرعي، وعدم اللهاث خلف سراب الوطنية والمواطنة، الذي لا يراه سوى الحالمين المتفائلين أكثر من اللازم.
يهيمن اليوم على ميادين الجدال البيني السوري ومساحاته تعمّد واضح في تحوير دلالات المصطلحات، فهناك خلط لافت مقصود وظيفي من العارفين بالأبعاد النظرية للمصطلحات ودلالاتها المعرفية وتبعاتها الواقعية، وهو خلط يُراد به إنتاج لغة تجييشية تعبوية ضمن أوساط الجمهور الذي لا يدقّق، ولا ينقد، ولا يتحقّق كثيراً في أجواء الاضطراب، بل يردّد ما يقوله “العلماء”، ويقتدي به، فجميعنا نعلم أن السلطة الحالية وصلت إلى دمشق بقيادة هيئة تحرير الشام، والفصائل المتحالفة معها، ومؤسّسات الدولة متهالكة متآكلة. وتعرّضت هذه المؤسّسات لمزيد من الانهيارات في عهد السلطة الجديدة، التي أخفقت في إدارة التنوّع السوري الديني المذهبي والقومي والمجتمعي والفكري، وحتى المناطقي، كما ينبغي. وذلك كلّه أصبح خطراً على الجغرافيا السورية، ويهدّد وحدة الشعب الذي قد يتحوّل، إذا ما استمرّت المقاربة الراهنة، طوائفَ تعيش في حاراتها وزواريبها، تبتعد عن المركز الذي يبشّر بالوعود التسويفية، ولكنّه لا يطمئن على الصعيد الواقعي.
فالدولة، وفق سائر المصادر المتخصّصة، جهاز إداري يتكوّن من مؤسّسات وهيئات تتقاسم سلطات الحكم، والدولة تمتلك السيادة في مساحة جغرافية مرسومة بحدود دولية معترف بها، يعيش فيها شعبٌ يتشارك أفراده وجماعاته في الجغرافيا والثقافة، والرغبة في العيش المشترك، والقدرة على ذلك. أمّا السلطة، فتستمدّ في الأنظمة الديمقراطية شرعيّتها من إرادة مواطنيها الأحرار، وهي حصيلة التداول السلمي للسلطة بموجب آليات ديمقراطية، واستناداً إلى قواعد متوافق عليها بناء على حوارات وطنية معمّقة بين ممثّلي سائر المكوّنات المجتمعية والتوجّهات السياسية. ولا يمكن لهذه العملية السياسية في جوهرها أن تتم من دون وجود أحزاب ومنظّمات سياسية فاعلة، قادرة على ممارسة نشاطها بصورة رسمية علنية، وتشارك في الانتخابات ببرامج سياسية مُعلَنة، وتمتلك الحقّ في استخدام وسائل الإعلام العامّة والخاصّة، من أجل التواصل مع الناخبين. وهذه الانتخابات لا بدّ أن تكون انتخاباتٍ حقيقيةً نزيهةً، يشارك فيها الجميع بصورة مباشرة مواطنين يفوّضون أمورهم إلى نواب يمثّلونهم في السلطة التشريعية، التي ستُكلِّف من جهتها الحزب أو التكتّل الفائز تشكيل الحكومة/ السلطة.
السلطة بهذا المعنى إدارة مؤقّتة (مرحلية) للدولة التي تبقى المظلّة الأوسع والأشمل. وقد توصّلت سائر المجتمعات، بعد صراعات وتجارب قاسية، إلى التسليم بضرورة خصّ الدولة بمهام استثنائية لا يجوز لأيّ جهة أخرى خارجها أن تُكلَّف (أو تقوم) بها، وذلك حفاظاً على الأمن والاستقرار والسيادة لصالح جميع المواطنين. وقد تناول فلاسفة ومفكّرون كثيرون طبيعة الدولة ومهامها، سلبياتها وإيجابياتها، وتوصّل الجميع تقريباً إلى حكم مفاده أن الحلّ الأمثل لتجنّب شرور السلطة الحاكمة في الدولة توزيع الصلاحيات بين المؤسّسات ومراقبة عملها، ومساءلة المقصّرين ومحاسبتهم من نظام قضائي مستقلّ نزيه. أمّا أن تعلن الإدارة الجديدة، وهي سلطة مؤقّتة ما زالت تفتقر إلى الشرعية الشعبية الصريحة التي تظهر عبر الانتخابات الحرّة الشفافة المباشرة، أنها تمثّل الدولة، أو أن يصرّ مؤيّدوها على أنها كذلك، فهذا مؤدّاه قطع الطريق أمام أيّ تفاهم سوري وطني مطلوب للتوافق على إعادة هيكلة مؤسّسات الدولة وإنعاشها، وتحقيق المصالحة الوطنية، بالتوازي مع العدالة الانتقالية وفق إجراءات واضحة محدّدة أمام مرأى ومسمع الجميع، خصوصاً أمام ذوي الضحايا وأصحاب المعاناة، فمثل هذه المصالحة، بالإضافة إلى التوافقات الوطنية، هي التي ستمكّن الدولة السورية المنشودة من استعادة مجالها الجغرافي المعترف به دولياً، وإنقاذ ركنها البشري من التفتّت والتذرر، ليُصبح شعباً يلتزم حدوده الوطنية، ويحافظ عليها، ويتجاوز محدودية الانتماءات الطائفية بأسمائها المختلفة، بما فيها القبلية والعشائرية والجهوية، انتماءاتٍ رغبوية مستلهمة من سرديات تاريخية لم تعد منسجمةً مع روحية العصر ومقوّماته وموجباته.

أعطوا الأولوية للدولة لا للسلطة، فالأولى تطمئن الجميع، والثانية إذا استحوذت على الدولة تحوّلت غاية في ذاتها

علينا أن نأخذ في حسابنا أن المستقبل على المستوى العالمي، وعلى مستوى منطقتنا، وفي سورية على وجه الخصوص، هو للدولة الوطنية التي تكون بكل (ولكل) مواطنيها الأفراد، وبكل (ولكل) جماعاتها الوطنية، دولة وطنية قادرة على إدارة التنوّع والاستفادة منه في عملية التمازج الثقافي، والتفاعل الحضاري بين سائر شعوب المنطقة، واعتماد سياسة الحوار ومدّ الجسور، لحلّ الخلافات ومعالجة القضايا والمشكلات على مختلف المستويات (الداخلية والإقليمية والدولية). المنطقة لن تستقرّ من دون سورية، وسورية لن تستقرّ من دون التوازن المجتمعي الداخلي. وهذا الأخير لن يتحقّق من دون المشاركة العادلة في الإدارة والفرص والموارد، الأمر الذي يوجب تجاوز عملية الخلط بين مصطلح المحاصصة السلبي الوَقْع، ومصطلح المشاركة الذي يجسّد حقّاً مشروعاً يمتلكه سائر شركاء الوطن والمصير.
الدولة في أساسها حصيلة ثقافة مدينية، والمدينة في حدّ ذاتها تستوجب وجود إدارة قادرة على ضبط الأمور، وتوزيع المهام، وحلّ الخلافات بروحية الاعتدال والاستيعاب والقدرة على احترام الآخر المختلف، فالإدارة حاجة مجتمعية لا تكتمل، ولا تعمل كما ينبغي من دون وجود مؤسّسات مستقرّة متوازنة تعمل بشفافية وفق قوانين تسري على الجميع. وهذا فحواه أنه لن تكون هناك دولة سورية متوازنة من دون مشاركة فعلية من سكّان المدن السورية الأساسية، وفي المقدّمة منها دمشق وحلب. أمّا الاستمرار في أسلوب اعتماد العصبية الجهوية للتحكّم بالسلطة بالقوة العسكرية والأمنية، فهذا سيكون مؤدّاه استمرارية التوتّرات أفقياً وعمودياً في المجتمع السوري، خصوصاً في أجواء تفجّر العصبيات بكل أسمائها وأبعادها، والعصبيات بصورة عامّة تضع العراقيل أمام التوجّه الوطني العام.
لن تكون الدولة المتوازنة من دون فتح المجال العام أمام جميع السوريين، وإعطاء الأولوية للدولة لا للسلطة، لأن الأولى تمثّل الحاضنة التي تطمئن الجميع، بينما الثانية (السلطة) إذا ما تمكّنت من التحكّم بمفاصل الدولة والمجتمع، فستتحوّل لدى أصحابها غايةً في ذاتها، الأمر الذي سيؤدّي إلى استمرارية التجارب الفاشلة التي كانت (وما زالت) في عدة دول عربية، وفي مقدّمتها سورية، في المرحلة الأسدية المتوحّشة الفاسدة المُفسِدة.

المصدر العربي الجديد

اترك رد

عاجل