

زار رئيس الآلية الدولية المحايدة والمستقلة روبرت بيتي مكتب الشبكة السورية لحقوق الإنسان وقدّم لي نسخة ورقية من الترجمة العربية للتقرير الموسَّع (نحو 300 صفحة) الذي أعدّته الآلية عن منظومة الاحتجاز والتعذيب لدى نظام الأسد، وقد ساهمنا في الشبكة بكمّ كبير من الوثائق والبيانات الداعمة.
وللأسف، تزامن صدور النسخة الإنجليزية في كانون الأول/ديسمبر 2024 مع سقوط النظام، فحال ذلك دون نيله التغطية والنقاش اللذين يستحقهما رغم أهميته والجهود الكبيرة المبذولة فيه. ومع صدور النسخة العربية مؤخرًا، عزمت على الكتابة عن هذا التقرير المهم، فجاء هذا المقال المكثّف.
حصيلة مفزعة للاختفاء القسري وضحايا التعذيب
صدرت أخيرًا النسخة العربية من تقرير الآلية الدولية المحايدة والمستقلة المتناول لجهاز الاحتجاز الحكومي السوري، استنادًا إلى 501 مقابلة وتحليل بنيوي لـ 128 مركز احتجاز في مختلف أنحاء البلاد. تكشف النتائج كيف جرى تحويل بنية الاحتجاز السورية من منظومة عدالة جنائية إلى آلية متطورة للعنف السياسي. ويحلّل التقرير دلالات هذه النتائج على فهم قمع الدولة، وأحكام القانون الدولي، وبنية الانتهاكات المنهجية لحقوق الإنسان في النزاعات المعاصرة. وقد تضمّن التقرير إحصاءات الشبكة السورية لحقوق الإنسان ضمن الفترة التي يشملها، أي قبل تحديثها عقب سقوط الأسد. فقد وثّقت الشبكة منذ عام 2011 اعتقالَ النظام وإطلاقَ سراح ما يقارب 1.2 مليون مواطن، فيما بقي ما لا يقلّ عن 135,253 شخصًا، بينهم 3,691 طفلًا و8,473 امرأة، رهن الاعتقال و/أو الاختفاء القسري حتى آذار/مارس 2023؛ كما وثّقت الشبكة 15,038 حالة وفاة تحت التعذيب على يد قوات النظام بين آذار/مارس 2011 وآذار/مارس 2023، بينهم 190 طفلًا و94 امرأة، مع التأكيد دائمًا أنّ هذه الأرقام تمثّل الحدّ الأدنى الممكن توثيقه.
من العدالة الجنائية إلى القمع السياسي
يمثّل نظام الاحتجاز الأسدي انحرافًا جوهريًا عن مقاصد السلطة العامة؛ فما كان يفترض أن يكون أداة لإنفاذ القانون والإجراءات القضائية أُعيد تشكيله عمدًا ليغدو أداة للضبط السياسي. تكشف أنماط الاعتقال والنقل والاستجواب وممارسات الاحتجاز في مرافق نظام الأسد عن استراتيجية متماسكة: استخدام الاحتجاز لا لمقاضاة الجرائم وفق معايير قانونية، بل لقمع المعارضة عبر عنفٍ ممنهج. ويتجلّى هذا التحوّل من خلال الاتساق التشغيلي بين المراكز، واستمرارية الممارسات عبر الزمن، والتنسيق البيروقراطي بين الأجهزة. يعمل النظام على مبدأ الفرز السياسي لا على أساس العدالة الفردية؛ حيث يُصنَّف المواطنون تحت مسمّيات فضفاضة من قبيل «معارض» أو «إرهابي»، ثم يُخضعون لاستراتيجيات احتجاز مصمَّمة لانتزاع الاعترافات، وجمع المعلومات الاستخبارية، وفرض إرهاب الدولة. وهكذا يغدو جهاز الاحتجاز الناقلَ الرئيسي الذي تمارس عبره الدولة السورية إيقاع الألم، وانتزاع الامتثال، وتوسيع نطاق قدرتها على العنف ليشمل شريحة أوسع من المجتمع.
ويوفّر إطار قانون الإرهاب الصادر عام 2012 ومنظومته القضائية المتخصّصة الغطاء القانوني لهذا الجهاز القمعي؛ تُطمِس هذه البُنى عمدًا الحدود بين حوكمة الطوارئ ومكافحة الإرهاب، لتُنشئ ولاية شبه استثنائية تُدار بالإكراه. وتؤدي صلاحيات النيابة العامة في تمديد الحبس الاحتياطي بدواعٍ أمنية إلى أجل غير مسمّى، إلى جانب المحاكم الميدانية العسكرية المعفاة من القواعد الإجرائية المعتادة، والقبول الروتيني بالاعترافات المُنتزعة تحت الإكراه، مجتمعةً إلى خلق بيئة قانونية يُصبح فيها العنف مشروعًا إجرائيًا. هذا ليس مجرّد إخفاق في استقلال القضاء أو انهيارٍ لسيادة القانون، بل هو تشييدٌ واعٍ لعالَم قانوني موازٍ تُستبدل فيه الضمانات الإجرائية على نحوٍ منهجي. تعمل محاكم مكافحة الإرهاب والمحاكم العسكرية كأحزمة ناقلة للاضطهاد السياسي، تُوفّر غطاءً من الشرعية الشكليّة لعنفٍ دولتي منظّم. حقوق الدفاع قائمةٌ اسميًا فحسب؛ ولا تُفضي مزاعم التعذيب إلى تحقيقات جادّة؛ ويُصدّق القضاة الاعترافات المنتزعة في ظروفٍ تنتهك كل مبادئ الشهادة الطوعية.
يتّبع الضرر داخل مراكز الاحتجاز السورية أنماطًا متوقّعة تكشف تصميمًا متعمّدًا لا وحشيةً عشوائية.
التنسيق المؤسسي كسياسة دولة
تنبع فاعلية منظومة الاحتجاز السورية كأداة للقمع من تكاملها المؤسسي. فالأجهزة الأمنية، ووزارة الداخلية، والسلطات القضائية المتعدّدة، والميليشيات الموالية للحكومة تعمل كوحدةٍ منسّقة لا كمؤسساتٍ مستقلّة. ويتجلّى هذا التنسيق عبر توجيهاتٍ مركزية، وقوائم “مطلوبين” مشتركة موزّعة على الحواجز، وحملات اعتقال متزامنة تجوب المجتمعات المستهدَفة.
تكشف الأدلة الوثائقية عن اجتماعاتٍ وتعاميم صادرة عن هيئات تنسيق مركزية تُوجّه العمليات بين الأجهزة؛ تُقسّم هذه التعليمات القطاعات، وتُعيد ترتيب أولويات الاعتقال، وتضمن ممارسات موحّدة على امتداد شبكة الاحتجاز. وتُرسّخ وزارة الداخلية الجانب المدني للجهاز عبر تشغيل السجون ونقاط التفتيش والتعاون السلس مع فروع المخابرات. وبهذا التزامن المؤسسي تُغلق الحلقة بين الاعتقال الميداني والحبس الاحتياطي والاستجواب ثم الإجراءات القضائية، بما يُنشئ دائرةً مكتملة من عنف الدولة. وتبرز عمليات النقل بين المرافق هذا التنسيق بصورةٍ أوضح؛ إذ يُرحّل المحتجزون مصحوبين بتفويضاتٍ وملخّصات استجواب تُمكّن من استجواباتٍ متسلسلة وإكراهٍ متكرّر في مواقع متعددة. ولا يُعدّ كلّ نقلٍ ضرورةً إدارية، بل فرصةً لتجديد العنف؛ إذ تستخلص جهاتٌ مختلفة معلوماتٍ إضافية، وتحدّد أهدافًا جديدة، وتُفاقم الصدمة الواقعة على المحتجزين.
ويتّبع الضرر داخل مراكز الاحتجاز السورية أنماطًا متوقّعة تكشف تصميمًا متعمّدًا لا وحشيةً عشوائية. يبلغ الاكتظاظ حدودًا تعوق التنفّس؛ ويقود الحرمان من الغذاء والماء الأجساد إلى أقصاها البيولوجي؛ وتنهار شروط النظافة إلى حدّ توطّن الأمراض؛ وتُحجب الرعاية الطبية على نحوٍ منهجي حتى في الحالات المهدِّدة للحياة. ليست هذه الظروف نتاج نقص مواردٍ أو ضرورات حرب، بل أدواتٍ مُعدّلة لإنتاج المعاناة.
وتظهر أساليب التعذيب الجسدي والنفسي في المرافق المختلفة متطورةً وموحّدة؛ تُنتقى بناءً على قدرتها على كسر المقاومة مع ترك أدنى أثرٍ ظاهري، أو على العكس لإحداث أذًى مرئيٍّ أقصى بوصفه رسالة ردع. ويُحيل اتّساق هذه الممارسات عبر المكان والزمان إلى التدريب والإشراف وضبط الجودة، وهي سمات سياساتٍ مؤسسية لا تجاوزاتٍ فردية.
كما تكشف ممارسات الاستجواب غايتها الحقيقية من خلال أساليبها وأهدافها: فهي لا تركز على إثبات وقائع جرائم محدّدة بقدر ما تستهدف انتزاع اعترافات بتهمٍ مُعدّة سلفًا، وتحديد أهداف إضافية للاعتقال، وكسر إرادات المعارضين المُفترضين. وغالبًا ما تخلو
المعلومات المطلوبة من قيمةٍ تحقيقية؛ إذ تُستعمل جلسات الاستجواب لتوريط آخرين، ونسج شبكاتٍ من الشك، وتوليد مادة خام لمزيدٍ من الاضطهاد.
ويبرز الموت في الحجز نتيجةً متوقّعة لتصميم هذه المنظومة؛ فمزيج التجويع، والأمراض غير المعالَجة، والإهمال الطبي، والعنف المباشر يُنتج وفيّاتٍ واسعة النطاق. ومع ذلك، لا ينهي الموت سيطرة الدولة؛ إذ تنخرط المستشفيات العسكرية في الإخفاء وتزوير شهادات الوفاة والتخلّص من الرفات بطرائق تحرم العائلات من الحقيقة وتُموّه ملابسات الوفاة. ويجسّد هذا العنف الإداري، المحو البيروقراطي لوقائع الموت، تأكيدًا أخيرًا لسلطة الدولة على الأحياء والأموات معًا.
ويتجاوز حجم الوفيات داخل مراكز الاحتجاز المأساة الفردية إلى عنفٍ ديموغرافي؛ إذ تفقد مجتمعاتٌ بأكملها أعدادًا كبيرة من البالغين، فتتكوّن فراغاتٌ اجتماعية ممتدّة عبر الأجيال. إنّ منهجية هذه الوفيات وقابليتها للتوقّع في ظلّ شروط الاحتجاز، إلى جانب جهود الدولة لإخفائها، تُشكّل قرائنَ متضافرة لا على الإهمال، بل على القصد، أي القبول المدروس بالموت الجماعي كأداةٍ للسيطرة السياسية.
وتستحق مشاركة المؤسسات الطبية في هذه المنظومة إدانةً خاصة؛ فقد تحوّلت المستشفيات العسكرية، التي يُفترض أن تكون مراكز علاج، إلى عقدٍ محورية في جهاز الإخفاء، تُنتِج وثائق مزوّرة وتُسهّل اختفاء الجثامين. أما المتخصصون الطبيون، المكلَّفون أخلاقيًا بصون سلامة المرضى، فيشاركون في التعذيب عبر الحرمان الانتقائي من العلاج وإضفاء طابعٍ طبيّ على العنف.
يتجاوز هذا التواطؤ حدود الإخفاقات الأخلاقية الفردية إلى فسادٍ مؤسسيّ ممنهج؛ إذ ينسّق مديرو المستشفيات مع الأجهزة الأمنية، وتُزوَّر السجلات الطبية بصورةٍ روتينية، وتعمل البنية التحتية الصحية برمّتها داخل منظومة الاحتجاز وفق مقتضياتٍ سياسية لا علاجية.
الآثار القانونية الدولية
يتحدّى نظام الاحتجاز الأسدي الافتراضات الأساسية بشأن سيادة الدولة وحدود سلطتها على مواطنيها. إن تحويل البنية التحتية للعدالة الجنائية إلى أداة قمعية ينتهك أحكامًا عدة في القانون الدولي لحقوق الإنسان، كما يمتد ليطال الإطار الكامل للحكم الشرعي بموجب القانون الدولي. وحين ينفصل الاحتجاز عن أي غرضٍ قضائي حقيقي ويغدو آليةً للعنف فحسب، يفقد صفته كممارسةٍ مشروعةٍ لسلطة الدولة. وترقى الطبيعة المنهجية لهذه الانتهاكات، بما في ذلك تنسيقها بين الأجهزة، واستمراريتها الزمنية، واتساع نطاقها الجغرافي، إلى معايير الجرائم ضد الإنسانية.
يعمل نظام الاحتجاز كهجومٍ واسع النطاق ومنهجيٍّ على السكان المدنيين، مع توافر العلم والنية كما تشي بهما البنية البيروقراطية وتوثيق السياسات؛ فكل اعتقالٍ ونقلٍ وجلسة استجواب ووفاةٍ مُخفاة ليست وقائع معزولة، بل حلقاتٌ متكاملة في حملة اضطهادٍ ممنهجة.
وقد تغذت منظومة الاحتجاز الأسدية على إفلاتٍ شامل من العقاب على جميع المستويات. فالحُرّاس الذين يمارسون التعذيب لم يواجهوا أية ملاحقةً قضائية؛ والمسؤولون الذين يُدبّرون عمليات نقل المحتجزين لمزيدٍ من الانتهاكات يعملون داخل بيروقراطيات روتينية؛
والقضاة الذين يُصدّقون الاعترافات المنتزعة تحت الإكراه يمضون في مساراتهم المهنية؛ والأطباء الذين يزوّرون شهادات الوفاة يزاولون أعمالهم دون مساءلة. ليس هذا الإفلات عرضيًا، بل ضرورةٌ وظيفية؛ إذ إن تعطيل المساءلة يحوّل العنف إلى حالةٍ قابلةٍ للاستدامة. وعليه، ينبغي أن تركز آليات العدالة الدولية على القيادة العليا، وأيضا على شبكة المشاركة بأكملها.
ينبغي أن تدفع الأدلة المستقاة من مراكز الاحتجاز السورية نحو إعادة نظرٍ جذرية في كيفية تصوّر القانون الدولي للعنف الممنهج القائم على الاحتجاز وكيفية الاستجابة له.
خاتمة
يمثّل نظام الاعتقال الأسدي نموذجًا صارخًا لكيفية تسليح الأنظمة الاستبدادية لمؤسسات الدولة ضدّ مجتمعاتها. فإعادة توظيف البنية التحتية للعدالة الجنائية كآلةٍ للعنف السياسي ليست فشلًا في عمل الدولة، بل تصميمًا واعيًا لها، أي اختيارًا مُتعمدًا للحكم بالإرهاب بدلًا من الشرعية. إن تعقيد هذه المنظومة وتنسيقها البيروقراطي واستمراريتها عبر الزمن تكشف علاقةً جوهرية تُقيمها الحكومة مع مواطنيها: لا كسلطةٍ ذات سيادةٍ تحمي شعبها، بل كقوةٍ قمعيةٍ تتصرّف بوصفها سلطة احتلال على مجتمعٍ مُخضَع.
ولممارسي القانون الدولي والسياسة، تُقدِّم هذه المنظومة دروسًا بالغة الأهمية حول الارتباط بين التصميم المؤسسي والعنف الممنهج. فعندما توفّر الأطر القانونية غطاءً للتعذيب، وتُسهّل الإجراءات البيروقراطية الإخفاء، وتشارك المؤسسات الطبية في التستّر، تتراكم الفظائع الفردية لتتحوّل إلى عنفٍ هيكلي.
وينبغي أن تدفع الأدلة المستقاة من مراكز الاحتجاز السورية نحو إعادة نظرٍ جذرية في كيفية تصوّر القانون الدولي للعنف الممنهج القائم على الاحتجاز وكيفية الاستجابة له. فالأطر الراهنة، المُصمَّمة أساسًا للتعامل مع الحرب التقليدية والإبادة الجماعية، تُعاني في استيعاب فظاعة دولةٍ تُحوّل منظومتها الاحتجازية برمّتها إلى أداةٍ للاضطهاد السياسي. وكما تُظهر الحالة السورية بجلاء، حين يصبح الاحتجاز سلاحًا في الحرب، تنهار الحدود التقليدية بين المقاتلين والمدنيين، وبين ساحة المعركة والسجن، وبين الحرب والحكم، لنبلغ واقعًا موحّدًا من إرهاب دولةٍ ممنهج.