

سقوط نظام الأسد حُلمٌ عظيمٌ قد تحقَّق، ولكن كثيراً ما يترك تحقيقُ الاحلام العظيمة فراغاً واسعاً في الحياة كان يشغَلُه فعلُ الحُلمِ نفسه، والسعي إليه ليلَ نهار.
هذا النوع من الفراغ الواسع لا يملؤه إلا أمران: إمَّا الموت، أو ابتكارُ حُلمٍ عظيمٍ آخر والسعي إلى تحقيقه من جديد.
أمَّا الموتُ فينتظر التوقيع على كلِّ شيء، وأمَّا الأحلامُ العظيمةُ الجديدةُ فلا يبتكرُها إلا المبدعون، ولا يُهندِسُها إلا الناجون من طغيان القطيع، الذين يُقدِّرُون قيمة التفكير في ابتكار الأحلام وتحقيقها؛ ولذلك فإنَّ التابعين، وغيرَ المُبدعين، والطائفيين الكارهين للانفتاح والتفكير، يموتون إنْ تحقَّقت أحلامُهم.
في هذه الأيام أتذكَّر كثيراً سيناريو الزير سالم لممدوح عدوان، وهذا العمل تصويرٌ درامي مُبدعٌ لمشكلة العصبية، أتذكَّره لأنِّي أعتقد أنَّ العنوان العام للمشهد السوريّ هذه الايَّام هو العصبيَّة، وما يتفرَّع منها من مفهومات مثل “الثأر” و”الحميَّة” و”النعرة” و”الغنيمة” و”الظَّفر بالبغية”، وكلُّها مضادةٌ للأحلام، طاردةٌ للإبداع؛ لا إمكان للحُلم فيها إلَّا بالعزلة والتصعلُك.
إن دَلَّت الرغبةُ في الانفصال على شيءٍ، فإنَّها تدلُّ على نقصٍ في مَلكَة الحُلم، وإن دلَّ وصف الانفصاليين بالحالمين على شيءٍ، فإنَّه يَدلُّ على نقصٍ في ملكة الحُكم..
في السيناريو، حين شعر امرؤ القيس، صديقُ الزير الأقرب إليه، أنَّ الزيرَ أوغل في سفك الدماء، وأنَّ ثأرَ كُليبٍ قد تحقّق ولم يعد إصرارُ الزير على استمرار الحرب مفهوماً، قرَّر تركَ الحرب واستئناف تجارته في قافلةٍ إلى الهند، وعرض على العبد “ياقوت” أن يرافقه ليحقِّق له حُلمه الكبير بالذهاب إلى الهند. تحمَّس ياقوت في البداية، ولكن عندما صار وحيدًا وفكَّر في الأمر، قرَّر ألّا يذهب، وكان بينهما الحوار الآتي:
قال ياقوت: يخافُ الرجالُ من مواجهة الحياة خاليةً من الأحلام التي اعتادوا إن يملؤوا حياتهم بها.. بماذا سأحُلم بعد الذهاب إلى الهند؟
ردَّ امرؤ القيس: معك حق.. لماذا سيعيش الزير سالم إذا حقَّق ثأرَه؟
تخيلوا أنَّ الشرع وصف الانفصاليين بأنَّهم حالمون! يا ليتهم حالمين، ويا ليته يصير حالماً، لكان كلاهما يتشاركان الحُلمَ بوطنٍ واحدٍ حديثٍ جميلٍ كريم، ولكانا مُختلفَين معاً، سدًاً أمام الموت الذي لا يزال يوقِّعُ كلَّ اختلاف.
إن دَلَّت الرغبةُ في الانفصال على شيءٍ، فإنَّها تدلُّ على نقصٍ في مَلكَة الحُلم، وإن دلَّ وصف الانفصاليين بالحالمين على شيءٍ، فإنَّه يَدلُّ على نقصٍ في ملكة الحُكم، والنقص الحاد في هاتين المَلكتين هو جوهر المشكلة في السويداء، وفي سوريا كلّها: ملكة الحُلم، ومَلكة الحُكم.
مرةً في هذا الزمان، حرق محمد البوعزيزي نفسه، لأنَّه لم يعد قادراً على الحُلم، فاختار طريقةً ثورية مدهشة في التعبير عن واقعة الحياة التي اختطفها الموت، ووقّع الموتُ حياتَه في طقسٍ ابتكره هو بنفسه.
لكنَّ طقس التوقيع الجديد هذا حرَّض الجميع في حينها على الحُلم، أو على الجرأة على الحُلم بوصفة أداةً في مواجهة الموت من خلال تدريب ملكة الحُكم والتشارك في الحُكم، حينها بدأت ظاهرة كانت تُسمى “الربيع”، وبدأت أيضاً ظاهرة يمكن أن نسميها “مقاومة الربيع”، وكأنّ الظاهرتين صراعٌ بين من تجرأ على الحُلم وبين من لم يجد في نفسه الرصيد الكافي من “حُبِّ التفكير” الذي يؤهله للحُلم، أو من رصيد المروءة والإباء التي تحيل على “الكرامة” بوصفها مفهوماً سياسياً.
ولأنَّ حبَّ التفكير، والمروءة، أفكارٌ لا تجتمع معاً إلا في الناجين من العصبيات، كان الشبابُ في حينها عنوانَ الربيع، بوصفهم خاماتٍ تُربي الأملَ والطموح، ولديها ما يكفي من الحيوية اللازمة لتحقيقهما؛ فما الذي يعنيه أن نكون امتدادًا لهذا الربيع؟ أو ماذا يعني أن ننفي هذا الامتداد عن أنفسنا كما نفاه الشرع، وألَّا نكون امتداداً له؟
ما يُحدِّد الإجابةَ عن هذا السؤال هو مفهوم الحُلم في السياسة؛ فمن يرى الانفصاليون حالمين، لا يستطيع أن يكون امتداداً للربيع؛ فالحُلم في الربيع حريَّةٌ، واندماجٌ وطني، وكرامةٌ، وعدالةٌ اجتماعية، وهذه لا تحتملها العقول الذي تمُدُّ أصاحبَها بموادٍ أزليةٍ مثل “الرسالة الخالدة”، و”إلى الأبد”، و”إقليمٌ درزي مفصلٌ إلى أبد الآبدين”، و”دمشق لنا إلى يوم القيامة”؛ فهذا العقول جميعها امتدادٌ لعقلٍ العصبيات، وليس لعقلِ الربيع العربي، وقد صدقَ الرجل مع نفسه في قولِه.
وللأمانة، إن الشرع متصالحٌ مع نفسه، وله خطٌ متناغمٌ يعبِّر عن أسلوبٍ في التفكير واضح، وهذه تُحسب له في زمن النفاق، فهو يفهم الحُلم بالطريقة نفسها التي يفهم الربيع العربي؛ ولكنَّه لن ينجح في سؤال الحُكم، ولا في امتحان التاريخ، ما لم يغيِّر أسلوب التفكير هذا ومنهجيته من أساسها.
المشكلة الكُبرى لا تكمن في الفخِّ المُدبّر، لكنَّها تكمن في الفخّ الأصعب الذي يتكرر، أي في الفخّ غير المُدبَّر، وهذا الفخّ ينصبه العقلُ لنفسه في كل مرةٍ، ولا حلَّ معه إلا في تغيير أسلوب التفكير القابل للتفخيخ..
لا ندري إلى أي حدٍ يكون هذا التغيير مُمكناً، ولكننا نعرف أنّه إن لم يكن مُمكناً، فكلُّ مرةٍ سيقع صاحبُه في فخٍّ مثل الذي قال إنّه وقع فيه في السويداء، ووصفه بأنّه مُدبَّر؛ فالوقوع في الأفخاخ لا يعني ضَعفاً في البصر، بل ضعفاً في البصيرة يُسببه خللٌ منهجيٌ عميقٌ ينبغي تداركه قبل أن يتمدد الفخّ إلى ما هو أكبر من طاقتنا جميعاً على النجاة، لأنّ البصيرة تعمل على تدبير النجاة، أكثر ممّا تعمل على تشخيص الأفخاخ المُدبَّرة بعد الوقوع فيها.
المشكلة الكُبرى لا تكمن في الفخِّ المُدبّر، لكنَّها تكمن في الفخّ الأصعب الذي يتكرر، أي في الفخّ غير المُدبَّر، وهذا الفخّ ينصبه العقلُ لنفسه في كل مرةٍ، ولا حلَّ معه إلا في تغيير أسلوب التفكير القابل للتفخيخ، والذي لا يرى السياسة إلا نصباً للأفخاخ، كما لو أنَّها حربُ عصابات.
والفخّ المُدبَّر الذي وقع فيه الشرع في السويداء، لم يكن مُحكماً ولا مُوجعاً، ولكن المُوجع كان الفخّ غيرُ المُدبِّر الذي وقع فيه هناك، وهو غيابُ القدرة على التفكير في ما نفعل، وغياب الحُكم وتقدير التفكير بوصفهما فعلين سياسييَّن بامتياز، هو الوقوع في فخّ العصبية وغياب السياسة، وهذا كلّه لم يدبِّرُه أحدٌ إلا عقلُ الضحية نفسها لنفسه.