العمالة السورية تضع تركيا أمام خيارات مفتوحة لإنقاذ الاقتصاد

عائشة صبري10 مايو 2025Last Update :
عائشة صبري
حركة الشارع في منطقة الميزتلي بمدينة مرسين 24/04/2025- عدسة عائشة صبري حرية برس

في مدينة غازي عنتاب التركية، التي احتضنت آلاف الصناعيين والتجار السوريين، يلاحظ حسين المرندي، عضو غرفة التجارة في المدينة وصاحب شركة المرندي لصناعة وتجارة الأدوات المنزلية، عودة الكثير من العمال السوريين إلى بلدهم، ما “خلق فراغاً في المصانع والمحلات التجارية”.

منذ سقوط نظام الأسد، في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الماضي، عاد مئتا ألف سوري من تركيا، بحسب تصريح للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في 28 نيسان/ أبريل 2025، فيما تراجع عدد السوريين الخاضعين للحماية المؤقتة (كملك) إلى نحو 2.8 مليون شخص، وفق دائرة الهجرة.

عودة العمالة السورية، التي تتمتع بـ”الكفاءة، والمثابرة دون غياب، وتتقاضى أجوراً أقل مقارنة بالعمالة التركية، ناهيك عن متطلباتها القانونية، تخلق حالة من التخوف في سوق العمل التركي”، كما قال المرندي لـ”سوريا على طول”.

لذلك، يحاول التاجر التركي التأقلم مع الواقع الجديد بـ”توظيف العامل التركي ورفض توظيف العامل السوري الجديد خوفاً من مغادرته، ما قد يؤثر على استمرارية العمل”، بحسب المرندي، الذي تضم شركته 20 موظفاً سورياً عاد منهم ثلاثة وينوي آخرون العودة بعد عيد الأضحى.

بالنسبة للمرندي، يمكن الاعتماد على الموظف التركي في الوظائف الإدارية، أما الوظائف الخاصة بالإنتاج، بما في ذلك تحميل البضائع، تنحصر بالسوريين، مشيراً إلى أن شركته التي تعمل في السوق التركي منذ أكثر من عشر سنوات لها فرع آخر في إدلب، وينوي توسيع عمله هناك لذا “الخيار متاح للعمال السوريين العائدين لمواصلة عملهم ضمن الشركة في سوريا”، كما قال.

عودة الشركات

في جولة بمدينة مرسين، رصدت “سوريا على طول” العديد من المحلات السورية، التي يقوم أصحابها بتصفية بضائعهم من أجل العودة إلى بلادهم بعد انتهاء العام الدراسي الحالي، كما قال العديد منهم، ومنهم: محل ماسة للمجوهرات، ماركت البحر، وبعضهم ينوي العودة قبل ذلك.

سبقهم في ذلك، علي حجازي، الذي انتقل إلى سوريا بعد أن كان يعمل في تجارة المواد الغذائية بمدينة غازي عنتاب، وكانت مؤسسته تضم 12 عاملاً سورياً، لكن بعد سقوط النظام تراجعت تجارته بنسبة 95 %، كون تجارته مخصصة للمستهلك السوري، لذا قرر مطلع العام الحالي “تصفية البضاعة، وفي غضون أسبوع انتقل إلى حلب”، كما قال لـ”سوريا على طول”.

في سوريا، قرر حجازي العودة إلى مهنته الأساسية -قبل اللجوء- في تجارة الأدوات الكهربائية المنزلية، مشيراً إلى أنه أسس “شركة ورد” في سوريا بعد عودته، وهي متخصصة في مجال استيراد المواد الكهربائية من الصين وتركيا ودبي وطرحها في السوق المحلية، بالإضافة إلى بيع بعض المنتجات الكهربائية محلية الصنع.

شركة الورد التجارية لبيع الأدوات الكهربائية في حي السكري بمدينة حلب، 01/ 04/ 2025، (علي حجازي/ صورة خاصة لـ”سوريا على طول”)

عندما قرر حجازي العودة إلى سوريا اصطدم بالعديد من التحديات، أبرزها “ارتفاع تكاليف النقل، والرسوم الجمركية التي تقدر بألف دولار على الطن الواحد، صعوبة التنسيق مع الموردين في تركيا بسبب خوفهم من الأوضاع الأمنية، وغياب التسهيلات الرسمية لنقل الأعمال الصغيرة والمتوسطة إلى الداخل السوري”، ناهيك عن “البنية التحتية السيئة، إذ إن معظم الطرق التي تربط تركيا بسوريا تحتاج إلى تعبيد”.

توقع حجازي أن تؤثر العمالة السورية بشكل كبير على سوق العمل التركي، حال عودتها، لأن “عدداً كبيراً من السوريين دخلوا سوق العمل، خصوصاً في قطاعات مثل البناء، الزراعة، والخدمات، وأدى تواجدهم إلى منافسة شديدة مع العمالة المحلية، ما أدى إلى انخفاض الأجور في بعض المهن”، وأيضاً كان لهم دور “في تحريك بعض القطاعات الاقتصادية وإحياء مناطق تجارية معينة”، لذا فإن عودتهم ستترك فراغاً في الأماكن والقطاعات التي شغلوها طيلة السنوات الماضية.

وبينما أغلق حجازي تجارته في تركيا، يحاول آخرون تأسيس مشاريع تجارية في سوريا مع الاحتفاظ بأعمالهم في تركيا، كما هو حال مجموعة نور موزاييك التجارية، التي تسعى إلى “تعزيز الربط التجاري بين تركيا وسوريا من دون الاستغناء عن أحد الطرفين”، كما قال محمد محناية، مدير فرع المجموعة في مرسين.

ورأى محناية في حديثه لـ”سوريا على طول” أن نسبة العائدين قليلة، لذا فإن تأثير عودة السوريين على السوق التركي محدود حتى الآن، لافتاً إلى أن “أغلب العائدين هم من العائلات التي أجبرتهم ظروف المعيشة الصعبة في تركيا وارتفاع التكاليف على العودة”.

تأثيرات اقتصادية واسعة

حتى قبل سقوط نظام الأسد، تعاني تركيا من نقص العمالة في بعض القطاعات، خاصة في مجال الزراعة والبناء والمصانع التي يشغلها الكثير من السوريين، وبالتالي فإن عودة العمالة السورية إلى بلادها بعد سقوط النظام من شأنها أن تزيد من التأثير على الاقتصاد التركي.

في صيف العام الماضي، تأثرت بعض القطاعات الصناعية التركية، بالتزامن مع موجة العنف وخطاب الكراهية ضد اللاجئين السوريين. ومثال ذلك، ما حصل مع مصنع “بالبن تكستيل” في اسطنبول، الذي انخفض إنتاجه بنسبة تتراوح بين 40 و50 بالمئة العام الماضي، بسبب مغادرة عدد كبير من العمال السوريين، الذين يتعرضون للملاحقات والضغوط الاجتماعية.

ورغم تأثر الاقتصاد التركي مجدداً بعودة السوريين، قال وزير العمل التركي والضمان الاجتماعي، فيدات إيشيخان، في شباط/ فبراير الماضي، إن البيانات الأولية تشير إلى أنه لن يكون هناك تغييرات جدية خاصة في سوق العمل، مشيراً إلى أن عدد السوريين قد يزداد مع انتهاء العام الدراسي في حزيران/ يونيو القادم، وأنهم يراقبون ما إذا كانت هذه العودة ستخلق نقصاً في العمالة.

وفي نيسان/ أبريل الماضي، أطلقت وزارة العمل والضمان الاجتماعي دراسة ميدانية على مستوى البلاد بمشاركة واسعة لقياس أثر عودة السوريين إلى بلادهم على سوق العمل في تركيا، ومن المفترض أن تعتمد الدراسة على لقاءات مع 16 ألف شركة تمثل 17 قطاعاً في سوق العمل التركي.

ولكن، حتى الآن لم تقدم الحكومة التركية رؤية واضحة من أجل “بقاء السوريين أو تسهيل بقائهم حتى الآن”، رغم تأثير عودتهم على الاقتصاد التركي، وإنما اتجهت إلى تسهيل عودتهم، كما قال الخبير الاقتصادي رضوان الدبس المقيم في إسطنبول لـ”سوريا على طول”، مضيفاً: “لو أرادت الحكومة التركية بقاء السوريين فعلاً، لسهلت عليهم تحديث بياناتهم ومنحتهم أذونات عمل، وقدمت تسهيلات لهم بشأن التنقل والسفر”.

وأشار الدبس إلى أن “أصحاب شركات البناء وصناعة الملابس والجلود في تركيا يشتكون من نقص حاد في اليد العاملة، ما اضطرهم إلى تخفيض عدد الموظفين ومستوى الإنتاج، فيما أغلقت العديد من المصانع في اسطنبول”.

يبلغ عدد اللاجئين السوريين العاملين في السوق التركي بشكل قانوني 109,370 عاملاً، بحسب أرقام وزارة العمل التركية، فيما تشير التقديرات إلى أن عدد الذين يعملون بطرق غير نظامية يصل إلى 500 ألف عامل، وهؤلاء “يعملون في قطاعات البناء والمقاولات والزراعة وتربية الحيوانات، من دون ضمانات قانونية تحفظ حقوقهم”، بحسب الخبير الاقتصادي رضوان الدبس المقيم في اسطنبول.

يشكل السوريون نحو 20 بالمئة من إجمالي العاملين في قطاع المنسوجات التركي، البالغ عددهم 1.5 مليون عامل، وبالتالي فإن ارتفاع عدد العمالة المغادرة في المستقبل سيؤثر سلباً على صناعة النسيج في تركيا، بحسب مظفر جفيزلي، رئيس مجلس إدارة شركة “غييمكنت” التركية للمنسوجات.

وأيضاً، يشكل السوريون والأفغان نحو 80 بالمئة من القوى العاملة في قطاع الزراعة، وخاصة تربية المواشي ما قد يؤدي إلى انهيار هذا القطاع بسبب مغادرة العمال الأجانب، كما قال عضو مجلس إدارة اتحاد الغرف الزراعية، أيوب أوغلو، في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي.

لم يتأثر سوق العمل فحسب، وإنما تأثر العقار أيضاً، إذ “تراجعت أسعار الإيجارات فيما ارتفع عدد الأبنية الشاغرة” في بعض أحياء إسطنبول، كما أن “المدارس الخاصة شعرت بالارتباك بعد انخفاض عدد الطلبة السوريين الذين يشكلون نسبة كبيرة في هذه المدارس، ما دفع بعضها إلى إغلاق بعض فروعها”، بحسب الدبس.

وتوقع الدبس تعرض بعض القطاعات إلى خسارات بنسبة 20 بالمئة بسبب عودة السوريين، وهذه النسبة قابلة للزيادة مع انتهاء العام الدراسي. ورغم أن العمالة التركية حلّت مكان بعض المغادرين، إلا أن “تكاليف تشغيلها أعلى بنسبة تتراوح بين 20 و50 بالمئة ما يعني زيادة الضغوط على أصحاب العمل والمستهلكين على حد سواء”، وفقاً له.

مستقبل السوق بعد عودة السوريين

قدّر علاء حمامي، الباحث في الشؤون الاقتصادية واستشاري تطوير الأعمال، متوسط العائدين يومياً إلى سوريا بنحو 11 ألف شخص، مستنداً إلى اطلاعه على البيانات الحكومية المنشورة، وقد زادت الطاقة الاستيعابية للمعابر الحدودية استجابة لهذه الأرقام، كما قال لـ”سوريا على طول”.

ونظراً لعدد العمالة السورية الكبير في تركيا، إضافة إلى الشركات السورية، التي “يتجاوز عددها عشرة آلاف شركة، فإن عودة اللاجئين السوريين لها آثار مباشرة على سوق العمل التركي، منها: “نقص العمالة في بعض القطاعات، ارتفاع الأجور في بعض المهن، إذ اضطر أصحاب بعض المصانع زيادة الأجور من أجل جذب العمال”، بحسب حمامي، مشيراً إلى أن رواتب بعض الوظائف في قطاع النسيج والخدمات ارتفعت من 20 إلى 30 بالمئة.

وكذلك، أثرت عودة السوريين على “تراجع نشاط بعض المحلات التجارية والمطاعم، خاصة في بعض الولايات مثل: إسطنبول وغازي عنتاب وأورفا، وتباطؤ الإنتاج في مصانع النسيج بغازي عنتاب وبورصة بسبب نقص العمالة”، وفقاً لحمامي.

وعن التأثيرات بعيدة المدى لعودة السوريين، توقع حمامي “إغلاق من ألفي إلى ثلاثة آلاف شركة سورية خلال العام المقبل، وزيادة تكاليف الإنتاج والتضخم، ما ينعكس على ارتفاع أسعار المنتجات الغذائية بسبب انخفاض الإنتاج المحلي”.

من جانبها، نشرت الحكومة التركية استراتيجية التوظيف الوطنية لتحديد الأهداف المتعلقة بسوق العمل حتى عام 2028، وتتضمن الاستراتيجية تحديد المجالات التي تحتاج إلى عمالة أجنبية وتعويض النقص الحاصل بسبب مغادرة السوريين، وتعزيز “الهجرة العكسية للعقول” من خلال استقطاب الأتراك العاملين في الخارج، بالإضافة إلى زيادة دعم العمالة المحلية وتشجيع العمل المرن لضمان استمرارية الإنتاج في القطاعات المتأثرة.

وبالتوازي مع ذلك، تبحث الحكومة التركية عن بدائل للعمالة ومن المتوقع أن “تبدأ في استقدام عمالة من دول آسيا الوسطى وأفريقيا لتعويض الفجوة الناشئة عن مغادرة السوريين”، بحسب حمامي.

ولا يستبعد حمامي أن تطلق الحكومة التركية “منح أذونات عمل طويلة الأمد للعمالة السورية الماهرة، وإطلاق برامج إقامة دائمة للسوريين تجعل حياتهم أكثر استقراراً، بالإضافة إلى تسهيل حركة تنقلهم بين تركيا وسوريا دون قيود صارمة”، من أجل المحافظة على اليد العاملة من اللاجئين.

يأمل حسين المرندي ألا تتأخر الحكومة التركية في اتخاذ إجراءات تضمن بقاء شريحة من السوريين، الذين أثبتوا تأثيرهم الإيجابي في تركيا.

لكن إن لم يحصل ذلك “سوف ينجح السوريون في استئناف عملهم في بلادهم بعد عودتهم”، كما نجحوا في “التأقلم بسرعة والمساهمة في الاقتصاد التركي”، كما قال علي حجازي واتفق معه محمد محناية.

Source سوريا على طول

اترك رد

عاجل