
التحديات الخارجية: شِباك المصالح المُتعارضة
لا تزال سوريا واقعةً في مرمى أطماع القوى الإقليمية والدولية، فبعضها يَخشى نجاح تجربتها فيتحوَّل إلى “فيروس ثوري” يهدّد أنظمتها، فيُحاول إجهاضها عبر دعم “ثورة مضادة” تُعيد إنتاج الفوضى.
وفي الطرف المقابل، تلوح دولٌ أخرى بمساعدات إعادة الإعمار، لكنها تَربطها بشروطٍ تُحوِّل سوريا إلى ساحةٍ لتصفية الحسابات الجيوسياسية، أو إلى سوقٍ لاسترداد “ديون الحرب” وفرض التبعية الاقتصادية.
ولا يُمكن تجاهل ضغوطات الدول التي تريد إعادة اللاجئين السوريين بأسرع وقتٍ، حتى لو كان الثمنُ تفريغَ التجربة من مضمونها الإنساني.
أما القوى التي ترفع شعارات “مكافحة الإسلام السياسي”، فتُحاول فرض نموذجٍ علماني مُتعسِّف، بينما تَتوعد أخرى بتحويل سوريا إلى “دولة فاشلة” لتبرير استمرار هيمنتها الإقليمية. وهنا يَبرز السؤال المصيري: كيف تُحافظ سوريا على سيادتها دون الوقوع في فخ الاختيار بين “المُحتضِن المُتسلط، والعدو المُتربص”؟
التصدعات الداخلية: إرثٌ من الهشاشة والانقسام
تَحمل المؤسسات السورية إرثاً ثقيلاً من الانهيار: اقتصادٌ مُنهار، وبيروقراطيةٌ فاسدة، وعشرات الآلاف من الموظفين الذين تحوّلوا إلى أعباءٍ إدارية دون فاعلية، ناهيك عن ملايين المتقاعدين الذين يُعانون من انهيار القوة الشرائية لمعاشاتهم.
وفي خضم هذا، تتصارع الهويات الفرعية (الطائفية، القومية، الدينية) على صياغة “العقد الاجتماعي الجديد”، حيث يرى كل مكونٍ نفسه الضحيةَ التاريخية التي يجب أن تنتقم أو تَنهب حصتها من السلطة.
اللافت أن جزءاً من هذه المكونات يَرفضُ الاعتراف بتورطه في دعم النظام السابق، بل يُطالب الآن بـ”محاكمة الآخرين” كشرطٍ للمصالحة، وكأن الوطن وِجهةٌ قابلةٌ للتقسيم إلى ملائكةٍ وشياطين. وهنا يُصبح السؤال: كيف تُبنى دولة المواطنة في ظل انقساماتٍ تَعتبر نفسها “قديسة” بينما تُمارس ذات الخطايا التي تنتقدها؟
المشهد العسكري: فسيفساء الولاءات والرهانات
لا يزال السلاحُ مُشتتاً بين فصائلَ تتبنى أجنداتٍ متضاربة: فبعضها يَرى في الدين مِظلةً للحكم، وآخرون يَطمحون إلى فيدراليةٍ قوميةٍ (كالأكراد) أو إقليميةٍ (كالدروز)، بينما يَختبئ “تجّار الأزمات” خلف شعارات الثورة، مُستعدين لبيع الولاءات بأعلى سعرٍ. ولا يُمكن نسيان أولئك الذين يَخزنون السلاحَ في الظل، منتظرين لحظة الضعف لفرض شروطهم.
محاولات توحيد الجيش تحت قيادةٍ واحدةٍ تواجه تحدياتٍ جذرية: فكيف تَدمج فصائلًا تَرفض التخلي عن هويتها الأيديولوجية؟ وكيف تُقنع الأقلياتَ بأن “الجيش الوطني” ليس غطاءً لهيمنةِ مجموعةٍ واحدة؟
متطلبات الحاكم الجديد: معادلةٌ مستحيلة؟
يُطلب من القيادة الجديدة تحقيق المُعجزات: إعادةُ ملايين اللاجئين إلى مدنٍ مهدمةٍ حيث تُعاد الخدماتُ من العدم، وبناءُ منزلٍ بتكلفةٍ تعادل 200 ضعف الدخل الشهري للمواطن. كما عليها استيعابُ آلاف المنشقين والموظفين الذين تَشبَّعوا بثقافة الفساد، مع ضمان معاشاتٍ كريمةٍ لمَن أنهكهم التضخم.
هذا بالإضافة إلى إعادة هيكلة المؤسسات من “السالب” – أي اجتثاث الفساد أولاً قبل البناء – وتحويل السلاح من أداةٍ للصراع إلى ركيزةٍ للأمن لكن التحدي الأكبر يَكمُن في شرعية الحاكم نفسه: فمهما فعل، سيبقى جزءٌ من الشعب يَراه خائناً، أو مُستفيداً من تضحيات الآخرين، أو عدوًا لـ”ثورتهم المقدسة”.
الأمل: قيادةٌ جريئة تُحوِّل التحديات إلى فرص
لا مكان للتشاؤم في معادلةٍ بهذه التعقيدات، فسوريا تحتاج إلى قياداتٍ تجمع بين الحكمة والجرأة، والنزاهة والواقعية. قياداتٍ تَرفض أن تكون أداةً في يد الخارج، وتَستطيع تحويل التنوع إلى مصدر قوةٍ بدلًا من الانقسام.
إذا وُجدت هذه القيادات، وقادت البلاد إلى شاطئ الكرامة عبر مصالحةٍ حقيقيةٍ وعدالةٍ انتقاليةٍ، فستكون “النخبة الذهبية” التي تَستحق أن يُخلّدها التاريخ. عندها فقط، ستتحول سوريا من ساحة حروبٍ إلى نموذجٍ للخروج من الظلام إلى نور الدولة المدنية.
خاتمة:
سوريا ليست مجرد جغرافيا، بل هي فكرةٌ عن صمود الإنسان أمام أعاصير التاريخ، والنجاح هنا ليس ضماناً، لكنه اختيارٌ يتطلب إرادةً جمعيةً تُحوِّل اليأس إلى فعلٍ، والدمار إلى بدايةٍ جديدة. فهل يُولد “الفينيق السوري” من رماد الحرب؟ الجواب يَكتبه السوريون أنفسهم.