“أفغانستان سوريا”، “معقل الإرهابيين”، “البقعة السوداء”، مفردات سمعتها عدة مرات قبل سقوط النظام لوصف محافظة إدلب!
طوال السنوات الأخيرة حاول النظام وشبيحته تكريس فكرة الإرهاب في إدلب، وزعمهم بتأييد أهالي إدلب لهذا اللون الجديد في سوريا. طوال سنوات كنت أعتقد أنّ الأمور معقدة بالفعل في إدلب، وحتى أن أهلها أصبحوا مختلفين عنا نحن السوريون في نمط الحياة والمعتقدات. وفي الواقع أعتقد أنّ الأمر شخصي للغاية وكل إنسان لديه الحق في اعتناق ما يناسبه من أفكار ومذاهب. في السنوات الأخيرة تكوّنت لدي فكرة أنّ التعامل مع أهالي إدلب قد يكون صعباً قليلاً، وأنّه يتوجّب علي معاملتهم بطريقة خاصة تعكس احترامي المطلق لهم ولمعتقداتهم!
كان هذا انطباعي عن كل أهالي إدلب إلى حين تم إضافة مصور من إدلب إلى فريقنا الصحفي. كان أول موعد عمل بيني وبين زملاء مصورين صحفيين من إدلب في دمشق، وكان حديثنا عاماً ومتنوعاً عن الثورة والسياسة وظروف الحياة في إدلب!
أثناء هذا الموعد كنت أشبه بطفلة في عالم العجائب ! أشعر بالصدمة من طريقة تعاطي زملائي مع الشأن السوري واتفاقنا المطلق في جميع تفاصيل المشهد السوري المقبل! كنت أكرر “يالله انتو نفس جونا..!!
أدهشتني قدرة زملائي على العمل والوصول للاحترافية في ظروف كارثية، وأبهجتني روح الثورة التي كان ينبض بها حديثهم، في الواقع شعرت بالفخر بالانتماء لهذا الشعب السوري الذي يلد الأبطال!
ومع ذلك، اعتبرت أن زملائي ربما مختلفون عن محيطهم، وتخيلت أن يغلب السواد على صورة إدلب العامة، لكن عند زيارتي لإدلب كانت الصدمة الكبرى !
المدينة خضراء بالمطلق، علم الثورة يرفرف في كل مكان عام وحتى خاصمن مداخل إدلب وحتى مخارجها، صوت أهل إدلب أعلى وأقوى من أي صوت آخر..
وكانت حركتي طبيعية جداً بالنسبة لامرأة غير ملتزمة باللباس الشرعي وزميلتي غير المحجبة حتى! على عكس ما كان يُشاع سابقاً طبعاً!
بالطبع من السخيف أن نستهجن هذا التفصيل في سوريا أو نتعامل مع إدلب ك”بعبع”، ولكن هذه هي الصورة القائمة حتى عند زملائي الصحفيين الأجانب. زميلتي الفرنسية التي رافقتني إلى إدلب كانت تريد ارتداء لباس شرعي وحجاب بسبب خوفها من أن تكون حياتها مهددة! استفزتني هذه الفكرة جداً، ومنعتها من ارتداء الحجاب أو تغيير هويتها، “نحنا صرنا بلد الحرية هسع” كانت هذه كلماتي الحرفية لها ولكن بالطبع باللغة الإنكليزية.. وبالفعل كانت الأمر أقل من طبيعي ولم نتعرض لأي مضايقات سواء من الأمنيين أو من الأهالي، ولم نتعرض حتى لأي نظرة سلبية. ما حصل هو العكس تماماً، لاحظ الأهالي أننا ضيوف في إدلب وأكثروا من الترحيب بنا.
وبالعودة إلى ديسمبر الماضي والاستياء الكبير الذي أبداه الكثيرون من نوع الأغاني التي تم بثها على الفضائيات السورية عقب التحرير، والخوف من سيطرة هذا الفكر الدخيل وهذا النمط على سوريا، إلا أنه في الواقع أثناء تنقلنا في إدلب وريفها، كان صوت أغاني الثورة وأغاني صباح فخري يعلو من سيارتنا طوال الطريق وأمام الحواجز الأمنية، ولو استمر عملنا لمدة أطول في إدلب كنا سنستمع إلى “المجوز الحوراني” أيضاً..!
لاحظت أنّ أهالي إدلب، وبعد سنوات من القصف المستمر والخطر والإنهاك، كانوا أكثرنا سعادة بسقوط النظام، وكانت الثورة السورية محور أحاديثهم، حتى النساء والفتيات منخرطات بالثورة بشكل أو بآخر، لكن حديثهم لم يكن أبداً حديث إنسان مكسور أو منهك، كان حديث انسان شامخ حرفياً ..
هل لك أن تتخيل عزيزي السوري أنّ إدلب لديها منظمة نسوية؟! بالنسبة لي لم أكن أتخيل في أكبر أحلامي أن يكون هذا الامر حقيقة!
“عدل وتمكين” منظمة نسوية أسسها شباب وشابات إدلب منذ أربع سنوات بظروف صعبة وخطرة أحياناً، ولكنها مستمرة في العمل وتقديم الخدمات للمجتمع المحلي حتى اليوم. تعرّفت على جزء من فريقها، كانت الثقافة العالية والطموح والروح الثورية والوطنية العالية هي سماتهم المشتركة، والجدير بالذكر أنّهم قائمون على تقديم خدمات حقيقية وليست مجرد غطاء لجلب دعم مادي! الأثر الإيجابي والوعي العام الذي تضيفه هذه المنظمة واضح جداً..
أما بالنسبة لأصحاب القرار في المحافظة والمسؤولين، كان الحديث معهم سلسلاً لطيفاً، وكانوا يجيبون على أسئلتي كصحفية مهما كانت محرجة وتستدعي إجابة حذرة جداً، كأي حديث طبيعي أو حتى عائلي، دون أي نوايا سلبية مسبقة أو تحفّظ..!
أسعدني حواري مع أحد المسؤولين هناك من أعماق قلبي لمجرد أني الآن في بلاد حرة أستطيع فيها توجيه أي سؤال أو عتاب أو مناقشة خطأ مع رجل في السلطة، وغالباً ما كان يبدأ إجابته بابتسامة ثم جواب متصل في السياق دون أي محاولة فرض رأي أو إقناع بالإكراه!
بعد تخويفنا من “الإسلاميين” وتكرار جملة “والله رح تترحموا ع أيام بشار”، يصبح هذا الحوار مدعاة للدهشة والفرح بآن!
وحديثي هنا ليس تمجيداً بإدلب أو أهلها، لكنه إعجاب بهذه النفوس الحرة التي لم تتخلّ عن الثورة طوال سنواتها، ولم ترضخ لأي قوة أو خطر ..!
من الغريب أني كسورية أتحدث عن إدلب وكأنها دولة أخرى! لكن في الواقع هذا ما خلّفه النظام المخلوع من تقسيم لسوريا وللسوريين!
لكن بعد سقوط النظام، أثبت الشعب السوري انتماءه المطلق لبعضه! أصبحت المعارضة السورية في الداخل أو المنفيين منها كعائلة كبيرة!نلتقي صدفة في أحد شوارع دمشق، نتبادل الأحاديث حول الثورة أو نغني أغاني الثورة دون ترتيب أو ميعاد!
وحتى علاقة المحافظات مع بعضها أصبحت أكثر قوة! عندما كنت أُعرّف عن نفسي في إدلب “أني من درعا” لم أكن أشعر بأي غربة لأن درعا وإدلب محافظات ثائرة ومرتبطة بالضرورة برابط الثورة المقدس!
إدلب التي توهمنا سوادها واعتدنا أن نسميها “إدلب الخضراء” هي في الواقع خضراء أكثر مما نتوقع. إدلب اختصرت حكايتها بما كُتب في ساحة مظاهراتها “سوريا لكل السوريين”..