إسراء الرفاعي – حرية برس:
يبدو المشهد كأي عائلة سورية عادية، الأم “سكينة الجباوي، حامل في شهرها الثاني، 34 سنة”، تقوم بتحضير الإفطار، الطفلة الكبرى “نور الجباوي، 4 سنوات” تخرج لشراء بعض الحاجيات من المحل المجاور لمنزلها.
وفي تاريخ 8/8/2018 وقعت الواقعة.. “المكان محاصر ما في داعي للمقاومة” من هنا بدأت القصة عندما داهمت قوات النظام منزل “سكينة الجباوي” وقامت باعتقالها مع زوجها وابنتها هبة الجباوي (سنتان)، ونجت ابنتها الكبرى من الاعتقال باعتبارها كانت خارج المنزل. تم اقتياد العائلة مع أربع عائلات أخرى من “برقا” في ريف درعا الشمالي الغربي إلى فرع الجوية في المزة. وتم إيداع “سكينة” وابنتها في الزنزانة في حوالي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل بعد الانتهاء من أخذ معلوماتهم وتصويرهم.
“الزنزانة ما كان فيها أي شباك أو ضو، والولاد كانوا خايفين وعم يبكوا! السجانين كانوا يخبطوا ع البواب ويسبونا مشان نسكّت الولاد! كنا أكثر من 6 نسوان بالزنزانة والأكل ما بكفي لشخص واحد! وأني كنت حامل واضطر أعطي الأكل لبنتي وأظل بلا أكل..كانوا يسمحولنا نفوت ع الحمام بس 3 مرات باليوم، بس الولاد ما بقدروا يصبروا، صرنا نستخدم قصعات الأكل مشان ولادنا يقضوا حاجتهم ونفضيها بالوقت المخصص للحمام!” هكذا وصفت سكينة ليلتها الأولى في السجن.
عملية فصل الأطفال عن ذويهم في السجن
بعد مرور عشرين يوماً على اعتقال “سكينة”، بدأ السجانون بالطرق على أبواب الزنازين ومطالبة النساء بتسليم الأطفال لهم، متوعدين بأشد العقوبات لكل من تخالف الأمر أو تقاومه! وتم إخبار المعتقلات بأنهم سيأخذون الأطفال إلى قرى الأطفال (SOS) وعند خروج الأهل من السجن يمكنهم استلام الأطفال من المتيم.
قالت سكينة “وحدة من النسوان بالزنزانة يلي جنبي تمسكت بابنها، ضربوها وأخدوها هيي وابنها وما رجعت أبداً”.. هذا هو الخيار المتاح في حال تغلّبت مشاعر الأمومة على غريزة البقاء..
خرجت سكينة من السجن بعد ستة أشهر، ولدت ابنها “محمد” في منزل عائلتها، وكانت تعاني من رهاب اجتماعي ونوبات هلع عند رؤية أي عنصر من عناصر النظام، “كنت أخاف أطلع من البيت، بخاف إذا شافوني يرجعوا يوخدوني”..
عملية البحث عن الأطفال المفقودين ومحاولة استرجاعهم
بدأت سكينة بالبحث عن ابنتها “هبة” عقب شهرين من خروجها من المعتقل، وكلفت أخاها “أحمد” بموجب وكالة عامة بالبحث عن ابنتها في ملاجئ الأيتام في دمشق.
“ما عنا هالاسم” كان هذا الجواب الوحيد الذي تلقاه “أحمد الجباوي، طالب في كلية الهندسة بجامعة دمشق” بعد زيارته للعديد من دور الأيتام في دمشق، وتحديداً بعد عدة زيارات لقرى الأطفال (SOS)، وهي سياسة متبعة لإخفاء أي أثر لأطفال المعتقلين.
بعد عدة محاولات فاشلة لإيجاد “هبة”، التقت سكينة أحد العائلات التي تم اعتقالها معها، وعلمت أنه ينبغي عليهم تقديم طلب للفرع الذي كانت محتجزة فيه، ثم الذهاب بهذا الطلب إلى القاضي العاشر في محكمة الإرهاب ليصادق على براءة الأم، ثم العودة إلى السجن!
وأخيراً بعد إتمام هذه العملية الطويلة، قام فرع الجوية بجلب “هبة” لخالها، مع التحفظ على ذكر المكان الذي كانت فيه الطفلة، والمنع التام لمعرفة أي تفاصيل عن مكان تواجدها.
محاولة طمس معالم الجريمة
عادت “هبة” إلى والدتها بعمر الثلاث سنوات بعد غياب حوالي السنة. عادت بجسد يحمل آثار حروق في أسفل الظهر والقدمين وحالة نفسية لم تستطع الأم وصفها، توضح “ظليت أكثر من سنة لحتى عرفت أتعامل مع هبة، وكلما أجيب سيرة الميتم تبلش تبكي أو تحاول تخبي علي وتقلي ما بعرف أو مش متذكرة”.
وأشارت الأم أن ادعاء “هبة” بعدم تذكّر ما جرى في الميتم كان محاولة للهروب من الإجابة، لأنها قالت “ماما” عندما رأت والدتها لأول مرة، وقامت بالسؤال عن شقيقتها الكبرى “نور”، مما يعني أن ذاكرتها تعود لأكثر من سنة.
بدأت “سكينة” تتلقى اتصالات ورسائل واتساب من أرقام مجهولة، ادعى أصحاب هذه الأرقام بأنهن مربيات “هبة” في الميتم (عرفت المربيات الثلاث عن أنفسهن ب باسلة، ابتسام، براءة الأيوبي)، ورفضن بشكل قطعي التصريح عن اسم الميتم الذي يعملن به، وأشرن إلى أنّ التواصل بحجة الاطمئنان على “هبة” وإرسال صورها في الميتم لأمها. وعند سؤال سكينة لأحد هذه المربيات عن آثار الحروق على جسد ابنتها أجابتها: “كنت برا المتيم وهبة كبت ع حالا قهوة”، كانت الإجابة غير منطقية بحسب قول الأم، لأن الحروق موجودة في عدة مناطق من جسد “هبة”.
وأكدت سكينة دعمها وتأييدها لكل ما قيل عن ملاجئ الأيتام في سوريا وكل الضجة التي أثارها الناشطون حول وحشية هذه المراكز، مشيرة إلى تغيير نسب الأطفال بكل سهولة، إذ يحمل الطفل في الميتم ذات الرقم الذي تحمله والدته في السجن ولكن مع إضافة عدد الأطفال التابعين للأم، وفي حالة “سكينة” كان رقمها في فرع الجوية 9530 ورقم “هبة” في قرى الأطفال (SOS) 9530/1. أي أنها عملية ممنهجة لطمس نسب الأطفال في هذه المياتم.
تروما ما بعد الاعتقال وتغييب الأطفال
عند سؤالها عن شعورها بعد سقوط النظام وهل اختفى القلق من قلبها، أجابت سكينة: “لحد اليوم عندي خوف وما بنسى شو صار، صحيح فرحت إنه سقط، بس ما عم بقدر أعيش عادي”..
وجاءت على ذكر واحد من أكثر المواقف المحفورة في ذاكرتها بالسجن، حيث قضت عيد الأضحى هناك وكانت المعتقلات يغنين:
يا عيد مهلاً إنّني خلف الحديد
سجونٌ قد ذاق مرّاً من بطش العبيد
يا عيد مهلاً بالثكالى بيننا
يا عيد رفقاً بالثكالى وأم الشهيد