مذ دخل القائد أحمد الشرع إلى قصر الشعب في دمشق، والعيون العربية والدولية لا تُفارق عاصمة الياسمين. وُضعِت سورية تحت المجهر، وبدأت ديناميات العمل السياسي في تدافع ملحوظ، وفود أميركية وأوروبية وعربية، اتصالات ورسائل متبادلة في مشهد أعاد إلى أذهان السوريين حقبة سورية الذهبية في أربعينيّات القرن الماضي وخمسينياته، حينما كانت دمشق مقصدَ الجميع لمدّ جسور وصل بين الشرق والغرب، ومطبخاً سياسياً وطنياً بامتياز، خرجت منه قامات سورية وطنية، كأديب الشيشكلي وآل الأتاسي، وزعماء وقادة تحرّر أعيد استحضارهم اليوم في مشهديّة الانتصارات السورية على عائلة الأسد، وتحطيم أصنام الاستبداد، التي جثمت على صدور السوريين نحو 55 عاماً.
لمع نجم قائد هيئة تحرير الشام، أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، في الساحة الدولية، ليس لأنه قدّم نموذجاً في تحرير سورية أبهر العالم وحسب، بل لأنّه أيضاً فرض نفسه على اللاعبين الدوليين، عبر استغلاله لحظةً تاريخيةً فارقةً في صراع الإرادات الدولية على الأراضي السورية، فاستلم زمام الأمور بعدما كانت مسلوبةً من جميع السوريين، ومضى من دون توقّف حتى وصل العاصمة دمشق معلناً إسقاط النظام السوري. مثل حدث عالمي ودولي كهذا لا يحدث كثيراً في التاريخ إلّا من قادة تميّزوا بمقوّمات وصفات ذاتية خاصّة، استطاعوا من خلالها جذب أنظار الحلفاء والخصوم معاً.
يواجه أحمد الشرع اختباراً صعباً في إعادة وحدة السوريين، ورأب الصدع المجتمعي، وإنهاء الانقسامات بين المكوّنات السورية
الصدمة التي أحدثها الشرع، ومن معه من رفاق دربه، وفصائل سورية، أجبرت الدول الكبرى على إعادة حساباتها في سورية من دون إعطائها كثيراً من وقت، إذ كانت تلك الدول تعمل لإعداد صفقة دولية تعيد دمج الأسد في المنظومة العربية والدولية بعد طرد إيران من كامل المنطقة، وإزالة العقوبات الاقتصادية، بل إن مخطّطاً كان يُطبَخ على عجل من بعض دول عربية داعمة للأسد مع الغرب والكيان الإسرائيلي من أجل تقسيم سورية بين ثلاثة أو أربعة أقاليم على أساس عرقي، وفق تقرير لصحيفة فايننشال تايمز، في مقال تحت عنوان “المعارضة السورية أحبطت مخطّطاً لتقسيم سورية”، ليفرض الجولاني واقعاً جديداً بخطاً واثقةٍ، وإرادة قوية.
وقد عوّل على رصيده السابق مع الدول الكُبرى، التي تعامل معها خلال فترة وجوده في إدلب (2016 – 2023) في ملفّات مكافحة التنظيمات الجهادية، كالتعاون في اغتيال قائد تنظيم الدولة الإسلامية، أبو بكر البغدادي (في ريف إدلب)، واغتيال سلسلة قادة آخرين، إضافة إلى ذلك الجهد الذاتي في مواكبة متغيّرات الواقع السوري المرتبطة بالمزاج الدولي العام، وهو الأمر الأكثر أهمية، الذي قاد الجولاني إلى إحداث تغييرات جذرية في هيئة تحرير الشام على مستوى البنية والشكل والخطاب والمنظومة الفكرية والأيديولوجيا، لينتقل اليوم إلى المرحلة النهائية من التحوّلات، وهي الانتقال من عقلية الفصائلية إلى عقلية الدولة. إذاً نحن أمام رجل استثنائي في تاريخ سورية الحديث، استطاع أن يثبت للجميع أنّه قائد المرحلة الجديدة، حاملاً معه نموذجَ الإسلام المُعتدِل، وهو النموذج الذي يمثّل هُويَّة سورية عبر التاريخ، ومجمع عليه من المكوّنات السورية كلّها.
ما سبق إيجاز نظري عن القائد الغامض. وعملياً، أمام الرجل تحدّيات واختبارات عديدة في حديثنا عن بناء الدولة السورية. على المستوى الداخلي الشعبي، وبالرغم من نجاحه في كسب ثقة شرائح كبيرة من المكوّنات السورية، من خلال تركيزه في هموم السوريين، إلّا أنّ الاختبار الصعب لم يأتِ بعد، وهو مدى قدرته (مع حكومة تصريف الأعمال) في إعادة وحدة السوريين، ورأب الصدع المجتمعي، وإنهاء الانقسامات بين المكوّنات السورية، التي شرذمها نظام الأسد. فحتى اليوم لا يزال الساحل السوري قابعاً على فوهة بركان، والأصوات والبيانات الصادرة من بعض متصدّري المشهد هناك غير مبشّرة بالخير، وفي شمال شرقي سورية، البيئة غير مستقرّة بسبب الصراع الطويل مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تتحكّم بمصير الأكراد. والأكثر أهمية، هناك طيف واسع من السوريين منقسم بين يسار ويمين، وقد ظهرت ارتداداته في مظاهرة خرج بها قبل أيّام قبالة دار الأوبرا في العاصمة دمشق أشخاص محسوبون على النظام البائد، ومن شبّيحته، حاولوا تأجيج الشارع السوري، وزيادة حالة الشرخ والانقسام بين المكوّنات السورية، بفرض حالة اجتماعية حملت شعارات ومطالب محقّة في وقت غير مناسب تمرّ فيه البلاد.
كما ظهرت موجة انتقادات لحكومة الشرع من شريحة سورية، من كُتّاب ونقّاد، اتهتمته باستئثاره بالسلطة بإقصاء بقيّة الأطياف السورية، وهذا إلى حدّ كبير صحيح، بالنظر إلى سلسلة التعيينات التي أجراها في حكومته المؤقّتة، فالشخصيات التي استلمت وزارة الخارجية والدفاع والداخلية والإعلام والصحّة وشؤون الإدارة السياسية، جميعها كانت تشغل مناصبَ في حكومة الإنقاذ بإدلب. لكن، في المقابل لا يمكن النفي بأنّ المرحلة الحالية تتطلّب أشخاصاً يثق بهم الشرع، اختبرهم سابقاً، لإدارة المرحلة المؤقّتة بهدف ضبط الأمن، وقطع الطريق على المتربّصين بثورة السوريين، كفلول النظام البائد وبعض الدول التي امتعضت من الواقع الجديد في سورية، والرافضة عمليات تغيير تنقل سورية إلى دولة الحرّيات والمؤسّسات والقانون بدلاً من نظام العسكر ورموز الاستبداد.
هناك رهان على أنّ مؤتمر الحوار الوطني المرتقب سيكون حلّاً للمشكلات الداخلية كلّها، إذ من المفترض أن يشمل جميع الأطياف والمكونات السورية، ممثّلين للشرائح كافّة، وفي حال نجاحه ستكون سورية قد دخلت المرحلة الثانية ما بعد الأسد، أي تشكيل لجان سورية منبثقة من مؤتمر وطني سوري سوري، ستعمل لإعداد دستور، وتهيئة البلاد للمرحلة الثالثة؛ الانتخابات، لتشكيل حكومة وطنية شاملة. أمّا شكل الحكم في البلاد فسيكون التحدّي الأكبر؛ مدني ديمقراطي، أم علماني، أم إسلامي، لا مركزي إداري؟ ومن المفترض أن الاستفتاء الشعبي هو الآلية الوحيدة لحلّ هذه المعضلة من دون تدخّل دولي أو محاولة فرض إملاءات على السوريين، وهذا تحدٍّ كبيرٍ لا مفرّ منه.
التحدّيات التي تُواجه الشرع داخلياً لا تقلّ أهميةً عن الاختبار الدولي الصعب في قدرته على تحقيق توازن في العلاقات الخارجية، ونجاحه في جلب الدعم الدولي لسورية في المجالات المختلفة، أكثرها أهمية إنعاش الاقتصاد، وملفّ الإعمار، وإعادة صياغة مؤسّسات الدولة، وانتزاع الشرعية الدولية لرفع العقوبات عن سورية، بما في ذلك إزالة هيئة تحرير الشام من لوائح الإرهاب، فماذا في جعبة الشرع لتحقيق هذه الإنجازات؟
يمتلك الرجل أوراقاً كثيرةً لنزع جملة من المكاسب السياسية، في مقدمتها حاجة تلك الدول إلى التعامل معه انطلاقاً من تقبّلها الواقع الجديد الذي يعود له الدور الأبرز في صناعته. ومن ثمّ مصالحهم في سورية، كأمن إسرائيل، والحفاظ على سورية خاليةً من منظّمات إرهابية تهدّد أمنهم القومي، والوقوف سدّاً منيعاً في وجه إيران ومصالحها الاقتصادية، انطلاقاً من موقع سورية الاستراتيجي ممّرَ عبور إلى مشاريع النفط والغاز، إذ أعيد طرح إنعاش مشروع النفط القطري الذي عرقله الأسد في 2009، إضافة إلى مشاريع التجارة الدولية، وطريق الحرير، وحاجة أوروبا إلى البدائل الطاقوية بعدما دخلت في صراع مع روسيا في حرب أوكرانيا، وملفّ إعادة الإعمار، الذي سيفتح الباب أمام حالةٍ من التنافس الدولي لدخول كُبرى الشركات الدولية في سورية. كذلك مصالح الولايات المتحدة الأمنية والاقتصادية، ورغبتها في تحقيق استقرار نسبي في سورية في مقابل اهتمامها بمنافسة الصين وروسيا.
رهان على أنّ مؤتمر الحوار الوطني المرتقب سيكون حلّاً للمشكلات الداخلية، يشمل جميع المكوّنات السورية
ما يُعزّز موقف الشرع في مواجهة المجتمع الدولي، حصوله على دعم لا محدود من الحلفاء كتركيا، التي أعلنت عن تقديمها دعماً لا محدوداً، ظهر ذلك جليّاً من خلال الزيارات السريعة، إذ لم يبقَ غير زيارة الرئيس التركي إلى سورية، بعدما قَدِم إليها وزير الخارجية هكان فيدان، وحازت زيارته اهتماماً عربياً ودولياً واسعين، وما نتج من الزيارة من تصريحات بعد الاستقبال الرسمي أعطى شرعيةً سياسيةً لحكومة الشرع، ودعماً سياسياً ستجعله في موقف قوي في قادم الأيام.
تركيا تكاد تسابق الزمن لتحقيق استقرار في سورية، فهي كانت من أكثر المتضرّرين من الحرب السورية في مسائل الهجرة ومهدّدات أمنها القومي، وما سرعتها اليوم ودعمها اللامحدود لحكومة دمشق، إلّا لإدراكها حجم المخاطر الكبيرة على سورية من المتربّصين بأعداء الثورة السورية، ودعاة الثورات المضادّة، الذين يحاولون خلط الأوراق، ونسف منجزات ثورة السوريين، وهذا يعني عودة المهدّدات إلى تركيا، الجارة الأقرب لسورية. أصبحت تركيا الآن بمثابة الجدار المنيع لسورية، وستعمل على تعزيز دورها بفاعلية لتحقيق مصالحها في إنهاء خطر قوات “قسد”، وعودة اللاجئين، وإنعاش اقتصادها، تتبعها في المسار دولتا قطر والسعودية، في إسناد من الخلف، وتقديم دعم ملحوظ لحكومة دمشق.
في المحصّلة، لدى الشرع أوراق داخلية وخارجية، سيُواجه بها المجتمع الدولي، وأعداء سورية والسوريين. هو اختبار صعب، لكن لن يكون مستحيلاً، بل ما أنجز خلال عشرة أيام مضت، أبعدت سورية من سيناريوهات التقسيم، وأحبطت مشاريع فلول النظام البائد، وما تبقّى ربّما سيكون الاجتياز الأخير لنقل سورية إلى برّ الأمان، وإعادة مكانتها في الإقليم. فعلى السوريين الوقوف وراء قائد المرحلة، في هذه اللحظات الحرجة والصعبة، والتحلّي بالصبر والحكمة، وتأجيل رغباتهم إلى صناديق الاقتراع، حتى ننهض بسورية نهوضاً جماعياً، ولتكن سورية عملياً وفعلياً للسوريين كلّهم.