دمشق، عاصمة التاريخ، وسيدة المدن، والمدينة العتيقة التي تبوأت مكانةً مرموقة في سجلّ الحضارة الإنسانية، وعلى أرضها اِلتقت أمم وثقافات وحضارات شتى؛ من الآراميين إلى الرومان، وصولًا إلى الأمويين والعباسيين والسلاجقة والزنكيين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين، لتتداخل ثقافاتهم في نسيج عمراني وثقافي متفرد. واحتفظت المدينة على مدى قرون بمقوماتها الأصيلة، فأزقتها الضيقة، وأسواقها العريقة، ومآذنها الشاهقة تقف شاهدًا على عراقتها، حاملةً في طياتها تراثًا غنيًا من الفنون والعلوم والعادات والأفكار والإبداعات الإنسانية. وتسير في أزقتها الضيقة، فتأسرك تفاصيلها؛ تفوح منها روائح التوابل العتيقة والبخور، وترتفع حولك جدران البيوت الشرقية العتيقة، وكأنها تحرس أسرار ماضٍ طويل. وتضج أسواقها القديمة، بأصوات الباعة، وقوافل التجارة التي مرت منها، في حين تشمخ أسوارها وبواباتها لتروي فصولاً من تاريخ إنساني وثقافي لا ينتهي.
الجمال المعماري الدمشقي
دمشق مدينة تتميز بتراث معماري يروي فصولًا متعاقبة من حضارات متنوعة، تتناغم فيها لمسات الطراز الإسلامي مع تأثيرات الحضارات الآشورية والفينيقية والسلوقية والرومانية والبيزنطية. ويأتي المسجد الأموي الكبير ليعبر عن هذا التنوع الفريد، بفضل زخارفه الفسيفسائية ونقوشه المعقدة التي تجسد قمة الإبداع والرقي الفني الذي بلغته الحضارة العربية الإسلامية.
أما البيوت الدمشقية التقليدية، فتجسد صورة واضحة للعمارة المحلية، إذ تبدو بسيطة في واجهاتها الخارجية، لكنها تكشف خلف جدرانها أفنية هادئة تزينها النوافير وتحيط بها النباتات، مكونةً واحة من السكينة وسط المدينة الصاخبة. ومن خلال تنوع الطرز المعمارية، بدءًا من القصور الشرقية إلى المساجد والمدارس العريقة، تعكس دمشق تكاملًا فريدًا بين الأصالة والتنوع، لتظل عمارتها مصدر إلهام مستمر لكل من يتأملها.
أسواق دمشق: إرثٌ تاريخي وفسيفساءٌ ثقافية
الأسواق القديمة في دمشق تمثل القلب النابض للمدينة القديمة، حيث تتداخل فيها ملامح التاريخ والحياة اليومية للدمشقيين في مشهد متكامل يجمع بين التجارة والتراث. فالأسواق الدمشقية تُعد مزيجًا من العراقة والحرفية، إذ تعكس بوضوح طابع دمشق التاريخي والاجتماعي والاقتصادي. وكانت هذه الأسواق منذ القدم ملتقى للتجار والمسافرين من شتى أنحاء العالم، فبقيت اليوم بمنزلة متحف مفتوح يتنفس عبق الماضي.
ويعد “سوق الحميدية” الأشهر بين أسواق دمشق التاريخية، يمتد من بوابة الصالحية إلى المسجد الأموي، ويشتهر بسقفه المقوس، وواجهاته التي تجسد طرازاً معمارياً عريقاً. وهنا، تتنوع البضائع المعروضة، من السجاد اليدوي والأقمشة الدمشقية المطرزة، إلى التوابل والعطور التي تملأ المكان برائحة الشرق العتيقة. وقد كان السوق عبر العصور رمزًا للتبادل الثقافي والتجاري، إذ تداخلت فيه المنتجات المحلية مع ما يأتي به التجار من بلدان بعيدة.
أما “سوق مدحت باشا” أو “السوق الطويل”، الذي يعود تاريخه إلى العصر الروماني، فيشهد على مراحل تطور التجارة بدمشق، حيث تصطف المحلات المخصصة للأقمشة الحريرية والمشغولات النحاسية، لتعرض المنتجات التي تعكس حرفية المهارة الدمشقية المتوارثة عبر الأجيال. ويعد “سوق الصاغة” مكانًا مميزًا لعشاق الحلي والمجوهرات التقليدية، فهو يضم ورشًا صغيرة لصياغة الذهب والفضة، ويمتاز بجمال الحرفية والإتقان، ما يجذب إليه الزوار والسياح من كل مكان.
بعض الأسواق الدمشقية تحمل أسماء ترتبط بالمهن مثل “سوق الحدادين” و”سوق الخياطين”، في حين يشير “سوق الحرير” و”سوق القطن” إلى نوع البضائع التي عرفت بها هذه الأماكن. بجانب هذه الأسواق الكبيرة، تتفرع أسواق أصغر مثل “سوق الجزماتية” المختص بالأحذية التقليدية، و”سوق القباقبية” لصناعة القباقيب، و”سوق المسكية” حيث تباع الكتب القديمة والجديدة، ما يجعل هذه الأسواق لوحة واقعية تُعبر عن التنوع والتميز في التراث المحلي.
ولا تكتمل أبهة وروعة هذه الأسواق من دون البيوت الدمشقية الأصيلة التي تفتح أبوابها للزوار، مثل “مكتب عنبر” و”بيت السباعي”، مما يعزز تجربة الزيارة ويتيح للزوار اكتشاف روعة العمارة التقليدية. تجمع أسواق دمشق بين النشاط التجاري وأصالة التراث، لتظل رمزاً حياً لمدينة عريقة ومركزاً ثقافياً واقتصادياً يروي حكايات الماضي والحاضر.
أسوار دمشق وأبوابها: صروح تاريخية
تمثل أسوار دمشق وأبوابها رموزًا أصيلة لقوة المدينة وعراقتها، فقد ظلت هذه الأسوار والأبواب شاهدًا على تجارب وأحداث تاريخية كبرى، إذ بنيت هذه الأسوار منذ العهد الروماني لحماية دمشق من غزوات الأعداء، واختير موقع المدينة بعناية ليكون محاطًا بحصون طبيعية من جبال ووديان، ما جعل من هذه الأسوار خط دفاع إضافي يعزز مناعتها عبر العصور. ومع تطور دمشق عبر الفترات الإسلامية، ظلت هذه الأسوار والأبواب حامية للمدينة، صامدة أمام تحديات الزمن وشاهدة على أحداث وتحولات سياسية واجتماعية متنوعة.
تنتشر على طول الأسوار التاريخية للمدينة أبواب عديدة، يبلغ عددها عشرة، سبعة منها تعود للعهد الروماني، وأضيفت إليها في العهد الإسلامي أبواب أخرى لدعم التحصينات وتلبية حاجات النمو الحضري. لكل باب من هذه الأبواب طابعه الخاص وقصته المميزة؛ فالباب الشرقي، مثلًا، الذي يرتبط بكوكب الشمس، يضم ثلاث بوابات، استخدمت حجارته لاحقًا في تبليط أرضية الجامع الأموي، وهو أحد الأبواب الباقية حتى اليوم. باب كيسان، الذي يقع في الجهة الجنوبية الشرقية، يُعتقد أن اسمه يعود إلى مولى معاوية بن أبي سفيان، ويُرمز إليه بكوكب زحل، وقد جُدد في العهد المملوكي ليبقى صامدًا في وجه الزمن.
أما باب توما، الذي يُنسب إلى القديس توما، فيتميز بجمال زخارفه المعمارية التي تعكس مزيجًا رائعًا بين الفن الروماني والإسلامي، ويرمز لكوكب الزهرة، وقد تم تعزيز بنيانه في العهد المملوكي لإضفاء مزيد من القوة. من الجهة الغربية، يقع باب الجابية، نسبة إلى قرية الجابية، وكان يشكل منفذًا للقوافل التجارية المتجهة غربًا. ويُرمز إليه بكوكب المريخ، ويعكس في تصميمه الصلابة التي كانت تحمي المدينة.
أضاف المسلمون أيضًا أبوابًا جديدة خلال العهد الزنكي، منها باب السلامة وباب الفرج، وقد أُنشئ باب السلامة شمالي المدينة في عهد نور الدين زنكي، وسمي بذلك تفاؤلًا بكونه خاليًا من المعارك. وأما باب الفرج، الواقع أيضًا في الشمال، فقد سمي تيمنًا بالفرج والتيسير، وأعيد ترميمه مرات عدة، ليكون وجهةً للتجارة والصناعة.
وهكذا، أصبحت أسوار دمشق وأبوابها مع مرور الزمن صمام أمان للمدينة؛ فقد كانت تُغلق عند الضرورة، وتُفتح في أوقات السلم والتجارة، وأضحت تحفًا معمارية تنطق بقصص مجد وعراقة. وإن زخارف هذه الأبواب وتفاصيلها الغنية تعكس براعة الحرفيين الذين صمموها، إذ يتميز كل باب بزخارفه الدقيقة وأقواسه العالية وأعمدته المتينة. وباب الفراديس، على سبيل المثال، يمتاز بنقوشه الدقيقة التي تعكس ثقافة المدينة وتاريخها، في حين يروي باب توما حكايات تمازج بين العمارة الرومانية والإسلامية، ليبقى كل باب وأساسٍ في سور دمشق شاهدًا على عصور المجد وصمود شعبها.
رحلات الرحالة والمستشرقين إلى دمشق: انبهار بتراثها وأسواقها
دمشق، درّة الشرق، وعنوان الحضارة؛ مدينة لا يمرّ بها الزائر مرورًا عابرًا، بل يجد نفسه مفتونًا بسحرها، وتأخذك المدينة في رحلة آسرة بين أزقتها العتيقة، وأسواقها الصاخبة وحكاياتها التي لا تنتهي. ولقد أسرت هذه المدينة قلوب الرحالة والمستشرقين على مر العصور، فاكتشفوا فيها أسرارًا لا حصر لها من الحضارة الإنسانية، وسجلوا إعجابهم بطابعها الفريد، وكرم أهلها، وعمرانها المهيب، لتظل دمشق مدينةً ملهمةً لكل من وطأ أرضها..
دمشق، بجمالها الأصيل وثرائها الثقافي، كانت دائمًا محط اهتمام الرحالة والمستشرقين الذين جذبتهم بجاذبية استثنائية، فلم تكن مجرد مدينة عادية، بل “جوهرة الشرق” ومقصدًا لكل من أراد استكشاف أسرار الحضارة الإسلامية. عبر العصور، سجل الرحالة إعجابهم العميق بهذه المدينة الساحرة، بدءًا من عمرانها وأسواقها وصولًا إلى كرم أهلها وأوقافها التي تضمنت جوانب إنسانية واجتماعية وثقافية عميقة.
يصف ابن بطوطة، أحد أبرز الرحالة، دمشق بأنها المدينة التي “تفضُل جميع البلاد حسنًا، وتتقدمها جمالًا”، معترفًا بأنه مهما حاول وصفها، فإن الكلمات تبقى قاصرة عن محاسنها. زار ابن بطوطة دمشق مرتين، وتزوج فيها، وارتبط بها بشكل خاص حتى بعد مغادرتها، إذ كانت حاضرة في ذاكرته وعاطفته. عندما عاد إليها بعد عشرين عامًا من الغياب، كان يتمنى لقاء ابنه، ليكتشف بمرارة أن ولده قد وافته المنية قبل اثنتي عشرة سنة.
ولم تكن دمشق بالنسبة له مجرد مدينة يقيم فيها، بل كانت منارة علمية وثقافية؛ إذ منحته إجازات علمية متعددة من علماء بارزين، ومن بينهم السيدة زينب بنت الكمال المقدسية. ويصف ابن بطوطة أهل دمشق بأنهم يتنافسون في بناء المساجد والزوايا والمدارس، ويحيطون الغرباء بكرمهم، حيث تتوافر لهم الخيرات من دون عناء. أوقاف المدينة شملت عدة جوانب إنسانية، فقد خصصت لفكاك الأسرى، وتجهيز البنات الفقيرات للزواج، ودعم أبناء السبيل، مما يعكس روح التضامن الاجتماعي العميق الذي كان يميز أهلها.
ولم يقتصر انبهار الرحالة بدمشق على ابن بطوطة، بل امتد إلى مستشرقين آخرين مثل الفرنسي دارفيو الذي انبهر بجمال المسجد الأموي، ووصفه بأنه “درّة تاج المدينة”. وهذا المسجد الذي يعج بأصوات الذكر وقراءة القرآن، ويشهد طقسًا جماعيًا يُعرف بالكوثرية، حيث يتلى القرآن من سورة الكوثر إلى آخره، ما يعكس مكانة الدين في قلوب الدمشقيين.
وفي القرن السابع عشر، لاحظ المستشرق جان تيفينو الحياة الاجتماعية والثقافة الغنية في دمشق، وقد كتب عن المقاهي المحيطة بأسوار المدينة، مثل السنانية والدرويشية، والتي كانت أماكن للتفاعل والالتقاء، مما يعكس أصالة نمط الحياة الدمشقي في تلك الفترة. أما في القرن الثامن عشر، فقد أبهرت الكاتبة الإنكليزية الليدي ماري وورتلي مونتاجو بتناغم سكان دمشق، من مسلمين ومسيحيين ويهود، كما أثنت على كرم الضيافة السورية، مؤكدة على استقبال الدمشقيين للغرباء بترحيب حار.
ومع دخول القرن التاسع عشر، ازدادت جاذبية دمشق، إذ وصفها الكاتب ألكسندر كينغليك بأنها “مدينة التناقضات”، حيث يتداخل فيها القديم مع الجديد. أما في أوائل القرن العشرين، كتب جيسون إليوت في “الطريق إلى دمشق” عن دمشق بوصفها مركزًا لتجربة التحول الشخصي، وتحدث عن أهلها الذين يعيشون بين تحديات السياسة وتوترات الحياة، في حين تبقى مدينتهم رمزًا للتراث والثقافة العريقة.
وفي الختام، ستبقى مدينة دمشق بتراثها العريق متحفًا مفتوحًا يروي حكايات وذكريات وقصص شعوب وثقافات تعاقبت عليها عبر الزمن؛ شوارعها وأسواقها وأسوارها ليست مجرد آثار صامتة، بل شواهد حية على تاريخ عميق ومجد خالد؛ أسواقها التقليدية، كسوق الحميدية ومدحت باشا، وورش الحرف اليدوية التي لم تندثر، تعكس روح التراث وجمال الصناعة الدمشقية، في حين تروي أسوارها وأبوابها قصص الصمود أمام الغزاة والطامعين. ومهما طال عليها ليل الظلام ستعود منارةً شامخة، ومدينة تهدي العالم بصمات حضارية لا تُقدر بثمن، تلهم كل من عرفها ومر بها.
المراجع:
- أحمد البهادلي، أحمد البهادلي، حياة دمشق كما وصفها الرحالة الغربيون، 1 أكتوبر 2024م، رابط: حياة دمشق كما وصفها الرحالة الغربيون | مركز الكوثر الثقافي التعليمي
- سنان ساتيك، أبواب دمشق: أسوار تخفي خلفها الأسرار وتصون التاريخ، 12 يوليو 2015م، صحيفة العربي الجديد.
- محمد شعبان أيوب، وصف أهلها بالكرم والحضارة ورأى فيها ابن تيمية.. هكذا سحرت دمشق عقل ابن بطوطة، 9/3/2020، موقع ميدان، رابط: وصف أهلها بالكرم والحضارة ورأى فيها ابن تيمية.. هكذا سحرت دمشق عقل ابن بطوطة | الجزيرة نت
- محمد عبد الكريم، شهادات ومذكرات: دمشق في كتب الرحالة، صحيفة المثقف، نشر بتاريخ: 31 أيار 2024 . رابط: محمد عبد الكريم: دمشق في كتب الرحالة
- هشام عدرة، في أسواق مدينة دمشق القديمة.. التسوق بين التاريخ والتراث، مجلة العربي، العدد 343.
عذراً التعليقات مغلقة