أفقنا في سجن صيدنايا صباح أحد الأيام بدايات عام 1990، لنرى أن السجانين قد تخلّوا عن “الكرباج” الذي اعتادوا حمله على مدار الساعة والضرب به على الجدران إرهاباً، أينما تجولوا في السجن! بعد أيام جاء سجّان برتبة رقيب ليسأل بلغة إنسانية لم نألفها، عمَّن لديه أمراض في جهاز الهضم، ويحتاج لمادة الحليب كحمية طبية!
أيام أخرى، ودخلت جرائد النظام الثلاث إلى السجن، ووُزِّعت على الأجنحة، بشكل يومي. كل ما حدث كان أمراً غير مسبوق ولا قابلا للتصديق، بالنسبة لسجناء اعتادوا قسوة التعامل لإرهابهم في حياتهم اليومية. بعدها بعامين تم تحويل معظم معتقلي الرأي من اليساريين والديموقراطيين إلى محكمة أمن الدولة العليا، بعد أن كانوا موقوفين عرفياً لسنوات من دون محاكمة، حتى لو كانت شكليّة. ما الذي يجري؟ وما الذي تغيّر؟
في التاسع من تشرين ثاني/نوفمبر من العام الذي سبق، انهار جدار برلين، وتدحرجت الديمقراطية سريعاً في معظم بلدان ما كان يدعى “المعسكر الاشتراكي”.
لاحقاً وبعد شهر تقريباً أُعدم نيقولاي تشاوشيسكو ديكتاتور رومانيا وزوجته بعد محاكمة شكلية وسريعة. ثم ليسقط تالياً حكم الحزب الأوحد في الاتحاد السوفييتي، الذي تفكّك بعد عامين إلى عدّة دول. إزاء كل ما حدث، كان على حافظ الأسد أن يعيد تموضعه سريعاً، بعد فقدان واختفاء الحلفاء الأقرب. اعتقدنا (توهمنا) أن تغييراً جوهرياً سيطول نظام الأسد، فهو في نهاية الأمر، حسب ما كان يجول في أذهاننا، لن يكون عصيّاً على حركة التاريخ التي اجتاحت الكثير من نظم الاستبداد في تلك الحقبة.
يجب أن تبقى هذه الأنظمة التي تراعي المطلوب دولياً من أجل أمن إسرائيل على حالها، وليس مهماً إن كانت ديكتاتورية أو حتى فاشيّة.
لكن رويداً رويداً، ومع مرور الشهور، هدأنا واقتنعنا مُحبَطين، بأنه كان “ممنوع على الديموقراطية أن تمرّ من هنا”. فلا بأس من الحديث العالمي عن التغيير والانتقال الديموقراطي المحمود في كل دول العالم، أما حين يصل الأمر إلى دول منطقتنا، حيث الأدوار الوظيفية لمعظم الأنظمة معروفة، فيجب أن تبقى هذه الأنظمة التي تراعي المطلوب دولياً من أجل أمن إسرائيل على حالها، وليس مهماً إن كانت ديكتاتورية أو حتى فاشيّة. لنكتشف أننا، وكل شعوب المنطقة بطبيعة الحال، لم نكن ضحايا الحرب الباردة وحسب، بل ضحايا انتهائها أيضاً.
لم تكن خريطة التحالفات في تلك الحقبة بذات التعقيد كما هي اليوم، فاستطاع الأسد الأب مع بعض التراجعات المحسوبة، وهي شكلية بكل الأحوال ولم تمس بنية النظام الصلبة، التموضع من دون أن يخسر الكثير من أوراق القوة التي كان يمتلكها. وبقي من اللاعبين المؤثرين في الإقليم، مع تغيير خطابه الخارجي جذرياً، بما يتناسب مع المتغيرات التي هزّت العالم. ولم يصله أي شعور بأن السكين كانت قريبة من رقبته، وقد كان محقاً في هذه النقطة.
بعد انطلاقة ثورة 2011، حاول الأسد الابن، سرُّ أبيه، السير على ذات النهج، فراح يتخبط وهو يجري بعض التعديلات الشكلية. ألغى محكمة أمن الدولة، وعدّل الدستور، خصوصاً مادته الثامنة التي تعطي لحزب البعث حصرية قيادة الدولة والمجتمع. أكثر من ذلك، ولفرط الطرافة، نذكر جميعاً كيف أنه بعد المبادرة العربية، نهاية عام 2011، وقبل حضور لجنة الجامعة العربية، قام بتغيير لباس عناصر حواجزه العسكرية إلى اللونين الرمادي والأبيض، ليبدو هؤلاء وكأنهم من قوات حفظ النظام وليسوا من الجيش، بل ذهب أبعد من ذلك وقام بإعادة دهان الدبابات وحاملات الجنود، فتحولت إلى اللونين الأزرق والأخضر!
حدث كل هذا في البدايات، قبل أن يضعف أكثر، ويضطر لأن يسلِّم البلد بأرضه ومُقدّراته الاقتصادية إلى إيران وروسيا، مقابل منعهم سقوط نظامه. ليبدأ هذان اللاعبان في الدخول إلى كافة مفاصل السلطة الأمنية والعسكرية، وحتى الاقتصادية عبر رجال أعمال محسوبين على أحد الطرفين. الأمر الذي أدّى، بشكل متدرّج، إلى خسارته كل نوع من الاستقلالية، التي طالما حاول الأسد الأب الحفاظ عليها، ولو شكلياً. فغدا خاضعاً لتجاذبات هاتين القوتين، طبعاً إضافة إلى محاولة إرضاء كافة الأطراف الفاعلة على الأرض السورية وعلى رأسها أميركا وإسرائيل، وأخيراً المجموعة العربية التي تحاول إعادة تعويمه بشروطها المتناقضة مع المصالح الإيرانية.
خلال السنة الماضية، تحديداً بعد بدء حرب غزّة، وما تلاها في الفترة الأخيرة من تصعيد عسكري تدميري ضد حزب الله، وتمادي إسرائيل في قصف مقار ومستودعات أسلحة واغتيال قادة الحرس الثوري الإيراني وحزب الله على الأراضي السورية، غدا نظام الأسد مكشوفاً وفي أضعف حالاته، هزيلاً وخارج كل المعادلات، بعد أن سلّم سوريا خلال سنوات حربه على السوريين إلى القوى الخارجية لتحميه. اليوم يقف الأسد حائراً، دون أن يعرف بعد إلى أيِّ جانبيه (جوانبه) سوف يميل، بل ولا يعرف من يجب أن يرضي من تلك القوى المتنافرة المصالح، وأي المواقف سوف تفيده من أجل البقاء!
لا يوجد في سوريا اليوم طرف يمتلك ما يبيعه للآخرين كما يملك الأسد. وبكل الأحوال فإن أحداً لا يمتلك القدرة ولا القابلية على انعدام الكرامة والمهانة الوطنية، علناً أمام الجمهور، ليعيد تغيير زيّه ولون دباباته، كما يمكن للأسد أن يفعل بيسر وسهولة وفي أية لحظة.
ظهرت في الأيام الأخيرة تسريبات عن شروط وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله، ولم يكن مستغرباً أن يكون من بينها، وجوب تعهُد الأسد بوقف ومنع إمدادات السلاح الإيراني إلى الحزب، وهو ما دأب على فعله خلال عقود. قد تكون تلك التسريبات مجرد شائعات لا أكثر، ولكن كل ما يحدث على الأرض يشير إلى ضغوط جدّية، تدفع الأسد ليتّخذ لنفسه موضعاً بعيداً عن إيران، إن لم يكن مضطراً إلى الذهاب أبعد، والطلب منها سحب قواتها وميليشياتها من الأراضي السورية.
الأسد الذي فقد وأفقد سوريا كل أوراق القوة، يقف اليوم أمام خيارات صعبة ومريرة، فالسكين على رقبته كما لم تكن في يوم من الأيام. وليس تصريح مُصدَّق بور الباحث والمستشار الإيراني المقرّب من السلطة في طهران، بأن “إسرائيل قد تنفذ عملية اغتيال الأسد في أي لحظة” سوى تهديد إيراني مباشر. ولكن هل هذا يعني أن رحيله بات وشيكاً؟ ليس بالضرورة، ولو أن الأمر لم يعد مستبعداً كلّياً، رغم أنه ما زال الأثير لدى قادة إسرائيل بمختلف توجهاتهم، حيث يجمعون بأنه الأقدر على حفظ أمن حدودهم، كما فعل دوماً مقتدياً بسيرة أبيه.
لا يوجد في سوريا اليوم طرف يمتلك ما يبيعه للآخرين كما يملك الأسد. وبكل الأحوال فإن أحداً لا يمتلك القدرة ولا القابلية على انعدام الكرامة والمهانة الوطنية، علناً أمام الجمهور، ليعيد تغيير زيّه ولون دباباته، كما يمكن للأسد أن يفعل بيسر وسهولة وفي أية لحظة. كل ذلك في سبيل بقائه في الحكم، وإبقاء السوريين في سجنهم المُزمن، مع جريدة يومية أو بدونها، ومع جلادين يحملون أو لا يحملون “الكرباج” كل الوقت.
عذراً التعليقات مغلقة