بخلاف التكتيك العسكري الذي اعتمده الجيش الإسرائيلي لإضعاف حماس في غزة من خلال التركيز على استهداف قادة السرايا والمجموعات من ذوي الرتب المتوسطة والمنخفضة (Mid-ranking officers) وتحييدهم لتقليل خسائر الاجتياح البري وعزل القواعد عن القيادة والضغط على الأخيرة للاستسلام أو مواجهة “الاغتيال” كأحد نتائج الحرب كما جرى مع رئيس المكتب السياسي يحيى السنوار، اتّبع في لبنان أسلوبا مغايرا ومقامرا يستهدف اغتيال كبار القادة (High-ranking officers) بمن فيهم الأمين العام للحزب حسن نصر الله، وذلك قبل بدء العمليات البرية.
جاء هذا الاغتيال مفاجئا لغالبية التوقعات والحسابات، وفتحَ الباب لظهور خطاب إسرائيلي وأميركي جديد لا يشترط تطبيق القرار 1701 وفصل جبهة لبنان عن غزة، بل “القضاء على حزب الله” أو تدمير بنيته العسكرية على الأقل. ومع أن وقائع الميدان تشير جزئيا إلى استعادة التوازن قتاليا، فإن تأخره، مقارنة بحماس، في الإعلان عن أمينه العام وقيادته الجديدة يفتح الباب للأسئلة عن مستقبله.
لا يروم هذا المقال تقديم إجابات حاسمة ولا يشتغل على التحليلات الرغبوية وتموضع الكاتب ضمن ثنائية مع / ضد؛ بمقدار ما ينبش في بعض الأدبيات الأكاديمية ضمن حقل الدراسات الأمنية النقدية ويحاول تطبيقها أو إسقاطها لا سيما المداخل النظرية المرتبطة بالقيادة.
عن مفهوم القيادة الكاريزماتية في الحركات الأيديولوجية المسلحة
اهتم علم السياسة منذ نشأته حقلا معرفيا مستقلا، بالخصائص الفردية للقادة كأحد مستويات التحليل المهمة، إلى جانب مستويَين آخرين هما بنية النظام السياسي وطبيعة النظام الدولي، وأخضع مصطلح “القيادة الكاريزماتية” للفحص في المختبر السياسي مبكرا أواخر الستينيات. ويمكن في هذا السياق الإشارة إلى دراسة تأسيسية نشرَها روبرت تاكر- (Robert c. Tukcker) الذي استلهم أفكار ماكس فيبر عن “الكاريزما ليؤسس” عام 1968 ما بات يعرف بنظرية القيادة الكاريزماتية (The Theory of Charismatic Leadership). لكن تطبيق هذه النظرية ركَّز بشكل رئيس على رؤساء وزعماء الدول لا على الحركات أو المنظمات أو ما يُصطلح على تسميتهم بالفاعلين من غير الدولة (Non-state Actors) مع بعض الاستثناءات لزعماء تاريخيين لحركات تحرر حظيت باهتمام دولي مثل المهاتما غاندي، نيلسون مانديلا، ياسر عرفات..الخ.
ما عدا ذلك، كان ينظر لقادة المجموعات المسلحة بوصفهم “راديكاليين” لا يستحقون الدراسة، فحتى مطلع التسعينيات وكما يقول عالم الاجتماع الألماني الشهير رود كامبنز (Rud Koopmans) كانت الدولة وحدها تحدد من هم الراديكاليون، وذلك بناء على استجابتهم للعملية السياسية وليس أفكارهم الأيديولوجية. وعليه، ظلت هذه النظرية غائبة عن حقل الدراسات الأمنية الذي انهمك كثيرا بالبعد الثقافي والأيديولوجيا وعوامل أخرى مثل الحرمان الاقتصادي، والتعليم، أو التهميش السياسي لدراسات نشأة الحركات المسلحة خارج الدولة.
كانت هذه الحركات تُدرَس في إطار “ردّ الفعل” الانفجاري أو غير العقلاني وليس بوصفها “فعلا سياسيا” يقوده ويؤطّره “فاعلون عقلانيون”
بكلمات أخرى، كانت هذه الحركات تُدرَس في إطار “ردّ الفعل” الانفجاري أو غير العقلاني وليس بوصفها “فعلا سياسيا” يقوده ويؤطّره “فاعلون عقلانيون”. ورغم أن أحداث 11 سبتمبر دفعت الباحثين إلى الحفر أعمق في فهم الحركات الأيديولوجية المسلحة ومحاولة تفكيكها أو سحب المقاتلين منها ضمن مصطلحات ومداخل نظرية جديدة اقتحمت الساحة آنذاك مثل (Disengagement) أو (Deradicalization) فإنها ظلّت تنهل في أدبياتها من طريقة التعامل الأمني مع العصابات المنظمة بالتركيز على ما يسمى (Push and pull factors) التي تركز على حسابات الربح والخسارة للمقاتل التي تجبره على البقاء والاستمرار حتى الوصول إلى نقطة حاسمة (A turning point) تدفعه للمغادرة بما يسمح بإعادة تأهيله ودمجه ضمن المجتمع بهوية جديدة.
بقيت هذه المقاربات سائدة بطريقة مبسطة حتى نشر كتاب عمر عاشور عام 2009 بعنوان “نبذ الراديكالية للجهاديين” تحولات الفصائل الإسلامية المسلحة (De-Radicalization of Jihadists: Transforming “Armed Islamist Movements) الذي يعد، برأينا، مرجعا لا غنى عنه لدراسة تحولات الحركات الإسلامية المسلحة في سياق الثورات، والصراعات والحروب الأهلية. ومن خلال دراسة مقارنة لـ 7 حركات مسلحة في الجزائر ومصر سلّطَ عاشور الضوء على الدور الفاعل لـ (القيادة الكازماتية والتاريخية – Historical and charismatic leadership) باعتباره المُرتكَز الرئيس الذي يحدد التحولات السلوكية والتنظيمية والأيديولوجية للجماعات المسلحة، لا سيما عندما تتفاعل مع عناصر أخرى مثل قمع الدولة (State repression) والحوافز الانتقائية (Selective inducements) والتفاعلات الداخلية والخارجية (interactions).
فيما يتعلق بالقيادة الكاريزماتية وأهميتها يجادل عاشور بأن النقاشات في الحركات الأيديولوجية المسلحة خلال التحديات المختلفة التي تواجهها تدور غالبا حول ثنائية الخيانة والنضال، وهي ثنائية إشكالية يمتلك القائد الكاريزماتي وحده إمكانية حلّها. ذلك أن الخروج على المبادئ التأسيسية والسلوك المتفَق عليه، وإعادة تعريف العدو/الصديق والهدف بطريقة جديدة سوف يعتبر “خيانة” ما لم يمتلك القائد قدرة تبريرية، تفسيرية، وإقناعية يمكن أن تلجم الانقسامات والصراع الداخلي.
فيما يتعلق بالقيادة الكاريزماتية وأهميتها يجادل عاشور بأن النقاشات في الحركات الأيديولوجية المسلحة خلال التحديات المختلفة التي تواجهها تدور غالبا حول ثنائية الخيانة والنضال، وهي ثنائية إشكالية يمتلك القائد الكاريزماتي وحده إمكانية حلّها
وعليه، لن تكون القيادة الكاريزماتية في الحركات الأيديولوجية المغلقة (Exclusive Group) مرتبطة بثنائية الشخصية والقوة (personality and power) كما تذهب الأدبيات الكلاسيكية، بل ثمة شروط خاصة لعل أبرزها؛ 1) القيادة المتلازمة مع المعرفة الدينية وما يرتبط بها من اعتراف المقاتلين والأنصار بهذه المرجعية (Leadership with theological credentials)؛ 2) أن يكون موثوقا مع تاريخ من النضال، والقتال، أو التضحية 3) سجلّ من السُّموّ على الانقسامات الفصائلية. فهل امتلك نصر الله هذه الخصائص؟ وكيف يمكن لخليفته تقلُّدَها؟
حسن نصر الله .. سيرة ذاتية
افتتح نعيم قاسم، نائب الأمين العام للحزب، كلمته الأولى بعد اغتيال نصر الله بجملة ذات وقع تقول ” تعجز الكلمات عن وصف حالنا بعد رحيل أميننا العام السابق”، هذا الوقع لا يرتبط فقط بالبعد التنظيمي، بل بثقل خساراته وصعوبة استبداله.
لم يكن اسم حسن نصر الله أو “السيد” كما يفضله أتباعه ومناصروه إشكاليا قبل عام 2011، حيث اقتصر على سيرة ذاتية مقتضبة تُنشَر في معرّفات الحزب والمواقع القريبة وتتحدث عن نشأته العصامية، وتعليمه الديني، وسلسلة من الإنجازات الكبيرة التي كُتبت باسمه كالانسحاب الإسرائيلي من جنوبي لبنان 2000، وصفقة تبادل الأسرى عام 2004 وصولا إلى حرب عام 2006 التي كانت لحظة مفصلية رمزية لنصر الله بين أنصاره، ومكانته ضمن الجمهور العربي إذ ارتبط خطابيا بمفردات صارت ملازمةً له مثل “الصادق الأمين” و” الوعد الصادق” بغض النظر عن صحتها.
صدعت سوريا ما راكمه الحزب ونصر الله لعقدين من الزمن، وقدّمت له صورة مغايرة تماما. ولمواجهة ذلك، استعانوا بأساليب وأدوات جديدة تضيء عبر لقاءات تلفزيونية مطولة وأفلام وثائقية على حياة الأمين العام وتتيح للجمهور خفايا وتفاصيل مغيّبة عن حياته داخل منزله على لسان أفراد عائلته؛ والده، وابنه جواد، وابنته زينب، وأقاربه. وأماطت اللثام أيضا عن بعض أسرار نشاطه العسكري والسياسي وعلاقاته مع رفاقه، قادة الحزب الذين اغتالتهم إسرائيل بغالبيتهم، لا سيما عماد مغنيّة، صديق عمره، جنبا إلى جنب مع قائد فيلق القدس قاسم سليماني الذي كان، وبحسب ما يمكن استخلاصه من المعلومات والمواد الفيلمية والشهادات، جزءا من قيادة حزب الله ويتعامل مع نصر الله كقائد ومريد لا يتردد عن تقبيل يده والصلاة خلفه والالتزام بتعليماته كأحد قادته العسكريين. باختصار، وبإهمال موقف الكاتب هنا، كان نصر الله خلال حياته قائدا كاريزماتيا لا جدال عليه داخل حزبه، سار به في محطات وجولات وساحات دون أن يخشى معارضة أو رأيا مغايرا ذا وزن، فكيف يمكن فهمُ ذلك في ضوء المتغيرات الثلاثة التي قدّمنا لها في القسم النظري؟
صدعت سوريا ما راكمه الحزب ونصر الله لعقدين من الزمن، وقدّمت له صورة مغايرة تماما
مرجعية دينية: لم تنشأ حركة أمل كحركة دينية طائفية رغم أنها نادت بمظلومية “اللبنانيين الشيعة” وحقوقهم التي أغفلت، وكما تقول أدبياتها، منذ الميثاق الوطني الذي أسس لبنان بشكله الحالي، لكنّ مكانة السيد موسى الصدر الدينية بعمامته السوداء كانت عاملا في بلورة قيادة تاريخية لها. وعليه، صار التعليم الديني الحوزوي ركنا أساسيا لكوادرها الفاعلة، وهو ما بَدَأه نصر الله مبكرا بتشجيع من الصدر لينتقل في سن مبكرة عام 1976 إلى النجف تلميذا عند السيد محمد باقر الصدر الذي أشرف على تعليمه لعامين قبل أن يكلف السيد عباس الموسوي برعايته والاهتمام به بعد عودته إلى لبنان مضطرا عام 1978 مع وصول الرئيس العراقي السابق صدام حسين إلى السلطة.
ورغم تسلّمه العديد من المناصب السياسية في أمل، واظبَ نصر الله على إكمال دراسته الدينية في حوزة الإمام المنتظر في لبنان وبإشرافٍ ورعاية مباشرَين من الموسوي، الذي سطع نجمه بعد غياب أو تغييب الصدر في ليبيا عام 1978 قبل أن ينسحب مع مجموعة من رفاقه من حركة أمل بهدف تأسيس تنظيم جديد يتبنى علانية “ولاية الفقيه” ويعتمد “الكفاح المسلح” لمواجهة الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 لا سيما بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت.
ذلك لم يمنعه من إكمال التعليم الديني من خلال الانتقال إلى قم، حيث حظي بثقة مرجعياتها الدينية واعترافهم ليتداول اسمه في وقت مبكر بوصفه الخليفة المحتمل للموسوي في حالة غيابه
تقلّد نصر الله مناصب سياسية عدة في التنظيم الجديد الذي صار له تسمية معروفة “حزب الله” عام 1985، لكن ذلك لم يمنعه من إكمال التعليم الديني من خلال الانتقال إلى قم، حيث حظي بثقة مرجعياتها الدينية واعترافهم ليتداول اسمه في وقت مبكر بوصفه الخليفة المحتمل للموسوي في حالة غيابه. وبالفعل، أضحى نصر الله لا سيما بعد تعيينه مسؤولا عن العاصمة بيروت يقوم بتمثيله علانية في الفعاليات السياسية والاجتماعية المختلفة. لذلك ونتيجة لهذه المكانة الدينية والسياسية، جرى انتخابه بطريقة سلسلة داخل مجلس الشورى عام 1992 بعد اغتيال الموسوي على يد عملاء للاحتلال الإسرائيلي رغم صغر سنه آنذاك (32 عاما).
رفيق السلاح و”التضحية” والعائلة: لم يُعرف نصر الله بنشاطه العسكري العملياتي نتيجة لتقلّده المناصب السياسية واهتمامه بالتعليم الديني، وهي نقطة كانت تؤرقه في بداية تسلّمه منصبه، على ما يقول ابنه جواد في الفيلم الوثائقي “قلب الأمين” الذي بثته قناة الميادين قبل أعوام. قد يعزى ذلك إلى ثنائية الخنادق/ القصر التي تحكم الحركات المسلحة والنظرة السلبية التي يراكمها المقاتلون لقادتهم السياسيين لا سيما بعد تعاقب الأجيال.
ضمن هذا الإطار، كان نصر الله يحرص على زيارة المواقع والجبهات وينام مع المقاتلين، يشاركهم الطعام ويطبخ لهم، ويلعب معهم الكرة بحسب ما تُظهره بعض المقاطع القديمة المصوّرة للتأكيد على انحيازه الدائم له وتقديم نشاطه بوصفه تتويجا لعملهم وليس العكس. وقد جاء مقتل ابنه البكر هادي في اشتباكه مع قوة إسرائيلية في الجنوب عام 1997 ليعزز من شعبيته بين المقاتلين وعائلاتهم، فقبلها، على ما يقول ابنه جواد في شهادة مصوّرة، كانت هذه المسألة إحدى أهم النقاط المحرجة له على المستوى الشخصي خلال زياراته للتعزية بقتلى الحزب في البلدات المختلفة لا سيما في سنواته الأولى في منصب الأمين العام.
أهمية هذه المسألة ومركزيتها بالنسبة للأمهات لفتت الأنظار إلى “البعد النسائي” داخل الحزب، وهو بُعدٌ أولاه نصر الله اهتماما كبيرا ليس فقط على المستوى التنظيمي بتأسيس “الهيئات النسائية” التي تجاوزَ دورُها التربيةَ العقائدية نحو مساحات أخرى مجتمعية وسياسية، لكنْ أيضا على مستوى الخطاب. فبخلاف وسائل الإعلام التي كانت تركز على الرسائل السياسية لكلمات نصر الله وانعكاساتها على الأزمات المختلفة التي يلعب الحزب دورا مركزيا فيها، يُوجّه خطبا بكاملها أو يُخصص أجزاء منها لنساء حزب الله خائضا بمواضيع مختلفة تُلامسهنّ بشكل مباشر كالمشكلات الزوجية، وتربية الأولاد، والجمع بين العمل الحزبي والحياة العادية، مستخدما لغة عاطفية بسيطة ودموعا “سخية” خطفت قلوبهن بحسب ما أبرزتهُ صورٌ عدة. وكان لهذا الحضور أثره في إقناع أمهات المقاتلين قبل رجالهن بإرسال أبنائهن إلى سوريا “فداء للسيد” قبل أن تظهر التبريرات السياسية والطائفية مثل القرى الشيعية الحدودية، وحماية المراقد، و”سبي السيدة زينب مرة أخرى”.
كان لهذا الحضور أثره في إقناع أمهات المقاتلين قبل رجالهن بإرسال أبنائهن إلى سوريا “فداء للسيد” قبل أن تظهر التبريرات السياسية والطائفية
السموّ فوق الانقسامات الحزبية: يكفي استحضار بعض المعطيات الكميّة لشرح مكانة نصر الله التنظيمية، إذ بلغ عمر حزب الله بحلول عام 2024 نحو 42 عاما قضى نصر الله 32 منها أمينا عاما للحزب. أكثر من ذلك، توفي نصر الله عن عمر ناهز 64 عاما أمضى نصفها في منصب الأمين العام.
رمزيته، وقدرته السياسية على ضبط الأداء والإيقاع السياسي للحزب داخليا وخارجيا وخبرته المتراكمة جعلته مَحطَّ إجماع ليس فقط على مستوى القاعدة، بل على مستوى قيادات الصف الأول التي غالبا ما تضم طامحين حاليين أو مستقبليين، هذه المكانة دفعت قادة الحزب إلى تجميد الانتخابات التي كان من المفترض أن تجري كل عامين لاختيار الأمين العام.
قدرته السياسية على ضبط الأداء والإيقاع السياسي للحزب داخليا وخارجيا وخبرته المتراكمة جعلته مَحطَّ إجماع ليس فقط على مستوى القاعدة، بل على مستوى قيادات الصف الأول التي غالبا ما تضم طامحين حاليين أو مستقبليين
المستقبل: حزب الله يصنع الحروب أم الحروب تصنعه؟
في كتابه المهم الصادر عن جامعة أدنبرة البريطانية عام 2019 (حزب الله: التنشئة الاجتماعية ومفارقاتها المأساوية.. Hezbollah: Socialisation and its Tragic Ironies) يحسم الباحث اللبناني أدهم صولي جدلا بحثيا عن حزب الله عن كون الأخير يصنع الحروب كما تقول الأدبيات الغربية أو هو صنيعة الحروب في منطقتنا التي تقاد أو تُدعَم من فاعلين خارجيين كما يجادل غالبية الباحثين العرب.
كلاهما يجيب الكاتب: (حزب الله يصنع الحروب والحروب تصنعه- Hezbollah Makes War, War Makes Hezbollah)، وقد راكم من حروبه التي شنّها أو تلك التي شُنّت عليه خِبراتٍ جعلته “شِبه دولة” وليس فقط تنظيما على درجة عالية من المؤسساتية لا سيما على مستوى صناعة القرار.
لكنْ هل ظروف الحاضر لا تُشبه تجارب الماضي؛ لأن مسألة ترميم الخلل بالقيادة، كما يقول صولي نفسه في بودكاست “هامش جاد”، تجري في ظروف حرب غير مسبوقة، شِعارُها الرئيسُ هو تدمير حزب الله والقضاء عليه وليس إضعافه أو تغيير سلوكه وغيرها من المفردات التي رافقتنا خلال الفترات الماضية. في هذا السياق، تدلل معطيات إحصائية نشرها الباحث عمر عاشور في مقالة له مؤخرا عن ضراوة الحرب الحالية على لبنان، حيث شنت إسرائيل وفي يوم واحد أكثر من 500 غارة جوية على لبنان وقامت بـ 1000 طلعة جوية، وهو رقم أقل بكثير مما قامت به إسرائيل في 5 حزيران 1967 ومكّنتها من التفوق الجوي على مصر و4 دول عربية أخرى.
صحيح أن قدرات حزب الله وتجاربه السابقة لا تسمح له بانهيار سريع كما يتمنى الإسرائيليون، وتؤهله لهامش مناورة وقتال بري لفترات زمنية قد تطول. لكنَّ سؤال القيادة هو الأهمُّ الذي سيُحدد مصير الحزب على المدى الطويل لا سيما مع تكهنات وشائعات بشأن هاشم صفي الدين الذي كان يجري إعداده منذ عقدين ليكون “خليفة” نصر الله.
لن ينهار حزب الله بشكل سريع كما يتمنى الإسرائيليون، وقدراته تؤهله لهامش مناورة وقتال بري. لكنَّ سؤال القيادة هو الأهمُّ الذي سيُحدد مصير الحزب على المدى الطويل
بالعودة إلى مسألة القيادة، يمكن التوقف في هذا الصدد عند نقطتين أساسيتين في خطاب نعيم قاسم، الأولى تتعلق “بجيل الثمانينيات” والثانية بمفردة “الأخ الأكبر” في إشارة إلى نبيه بري. خاطب قاسم الإسرائيليين قائلا: إن الحزب رمَّم كل شواغره القيادية، وإن القادة الجدد ليسوا جددا، من ناحية العمر، بل هم من حقبة الثمانينيات الذين خبروا تأسيس الحزب وكل المواجهات والمحطات بعده. لا شك أن هذا الإجراء، فيما لو كان حقيقيا، يحلّ مؤقتا مسألة تنظيمية معقدة على المستوى القتالي، إذ يصعب تأهيل قيادات شابة خلال الحرب قادرة على فرض رأيها على رفاق تشاركوا لزمنٍ الرتبةَ والأهمية ذاتها. لكن الحزب سيكون في مأزق أكبر فيما لو نجحت إسرائيل بالوصول إلى هؤلاء؛ لأنه قد يفتح الباب لانشقاقات واختلالات تنظيمية كبيرة تراكم أزمة الحزب.
في سياق مُواز، لا يمكن قراءة مفردة “الأخ الأكبر” كمناورة سياسية مؤقتة للملمة الجراح بمقدار ما تعكس صعوبة لملمة الجراح وإيجاد قائدٍ قادر على الإيقاع السياسي داخل لبنان الذي يضج بكثير من الخصوم، الناقمين، والمتأهبين للحظة، يرَونها قريبة، للانقضاض على الحزب. وللزمن فعلُه السلبي في هذا السياق، على الأقل على مستوى القاعدة الاجتماعية التي ستصبح أقلَّ إيمانا وولاءً، وعلى مستوى الخصوم وتَجَرُّئهم.
وللزمن فعلُه السلبي في هذا السياق، على الأقل على مستوى القاعدة الاجتماعية التي ستصبح أقلَّ إيمانا وولاءً، وعلى مستوى الخصوم وتَجَرُّئهم
في النهاية، تجزم الدراسات الأمنية النقدية بعدم جدوى هزيمة الحركات الأيديولوجية المسلحة عسكريا وتتفق على أن “المقاربة الأمنية” التقليدية لم تنفع سابقا ولن تنفع لاحقا، لكن الدراسات الأمنية أيضا تجادل، وبناء على معطيات إحصائية، أن التنظيمات التي تفقد قياداتها الكاريزماتية ولا تستطيع تجديدها أو استبدالها تَضعُف حدَّ التلاشي أو غياب الفاعلية على المدى المتوسط. وتشير التجارب في العديد من الدول العربية والإسلامية التي خاضت صراعات مسلحة عدة إلى أمثلة كثيرة لتنظيماتٍ اندثرت برحيل أو اغتيال مؤسسها أو قائدها.
عذراً التعليقات مغلقة