تصاعدت في الأيام الأخيرة حدّة القصف الإسرائيلي لمواقع سورية، من بينها ما أشيع عن قصف فيلا لماهر الأسد تستخدمها شخصيات من حزب الله. وهو ما قد يكون حتى الآن أبرز إنذار علني للعائلة الحاكمة. وكانت الأخبار قد تواردت، في أكثر مناسبة، عن إنذارات إسرائيلية وجِّهت إلى الأسد عبر دول عربية، مفادها تحذيره من التدخل في الحرب الحالية، التي قد تذهب إلى المزيد من التوسع والعنف.
الإنذارات الإسرائيلية، التي يُحكى عنها، تبدو منفصلة عن الواقع. إذ من المعلوم أن الأسد من الضعف بحيث لا يمكن التفكير، مجرد التفكير، في أنه سيؤازر إيران أو الحزب عسكرياً. تبقى فرضية تقديمه تسهيلات لوجستية لطهران وميليشياتها، لكن إسرائيل تعلم جيداً أنه لم يعد صاحب القرار، وأن إيران تتصرف كصاحبة سيادة على أماكن سيطرته؛ بالتفاهم مع موسكو أحياناً، وبالتنافس معها أحياناً أخرى.
وحتى إذا اقتصر الحديث على النوايا، من الصعب الجزم بأن الأسد يتمنى مؤازرة حلفائه، فالأحوال كلها تغيّرت عمّا كانت عليه في حرب تموز 2006، واليوم هو مدين لطهران أكثر بكثير مما كان مديناً لها في ذلك الوقت. في اللغة العربية ثمة تعبير موروث يستخدمه الممتنّ لصاحب الفضل عليه، فيقول إنه طوّق عنقه بجميله، وهذا التعبير يتحلل من مجازيته إذ يصحّ القول إن طهران طوّقت عنق الأسد بأفضالها عليه، ما يجعله يتوق إلى الإفلات من هذا الطوق المُحكَم.
تشير التقديرات إلى أن الأسد مدين لطهران بما لا يقلّ عن خمسين مليار دولار، فوق أنه مدين لها بتدخلها لصالحه بعدما قامت الثورة، ليبقى بدعمها مع ميليشياتها حتى مجيء الدعم الروسي في خريف عام 2015. ولما كان استرداد الديون الإيراني متعذّراً، فقد عوّضت طهران ذلك بالسيطرة على بعض القطاعات الحيوية، والأهم أنها صارت مطلقة الصلاحية في السيطرة على ممر السلاح من إيران وصولاً إلى الجنوب اللبناني. الحديث هو عن الطرق البرية والجوية التي تُنقل عبرها الأسلحة إلى الحزب، وعن مصانع أسلحة إيرانية لمصلحة الحزب في الأراضي السورية، وتحديداً المصانع السرية المعدَّة لتطوير القدرات الصاروخية وإنتاج الطائرات المسيّرة.
لا مبالغة في القول أن الجميل الإيراني الذي طوق عنق الأسد يكتم على أنفاسه، وأنه يتوق حقاً إلى التخلص منه بعدما انتفت حاجته الملحّة إلى الدعم الإيراني العسكري، بينما أُنذر مرات عديدة بالديون المستحقة. بناء على هذا تكاثرت مؤخراً التكهنات حول رغبة الأسد في القفز من المركب الإيراني، بل هناك سيناريوهات تعدّت ذلك إلى الجزم بوجود تفاهمات بينه وبين إسرائيل بوساطة خليجية، تفاهمات تتعلق باليوم التالي الذي لن يكون فيه نفوذ لطهران عليه.
لا شكّ في أن الحرب الحالية تفتح على احتمالات عديدة، يتوقف كثير منها على ما سيؤول إليه حزب الله وسلاحه. فإذا حققت إسرائيل النصر الذي تلوّح به، وهو تحييد خطر الحزب العسكري نهائياً، فهذا يتضمن تحييد مخزون الحزب من الصواريخ الثقيلة التي لم تُستخدم في المعارك، ويتضمن تالياً وقف تدفق الأسلحة من إيران. وفق هذا التصور النظري سيفقد الأسد جزءاً معتبراً من أهميته للمصالح الإيرانية، فمناطق سيطرته لن تعود ممراً للأسلحة. لكن، من الجهة المقابلة، قد تكون طهران أشد تمسكاً بنفوذها في سوريا، لأن فقدانه يعني انهيار نفوذها الاستراتيجي الذي جعل قادتها يتباهون بسيطرتهم على أربع عواصم عربية.
هدف الحرب الأول، كما أعلنه نتنياهو، يقتصر على إبعاد الحزب إلى شمال نهر الليطاني، ما يضمر الاستعداد لتسوية شمال الليطاني قد لا تُحدث فرقاً كبيراً عمّا كان عليه الوضع في السنوات الماضية. ثمة بالطبع أهداف تتجاوز المعلَن ويتمنى نتنياهو تحقيقها، وتوريط واشنطن فيها خطوة وراء خطوة، إلا أن الموقف الأميركي غير واضح حتى الآن، ولم يتسرّب ما يشي بأن واشنطن قررت دعم إسرائيل من أجل ضرب النفوذ الإيراني في سوريا ولبنان.
جدير بالذكر أن الاتفاق النووي مع إيران كانت فيه مقايضة غير صريحة بين برنامجها النووي وطموحاتها الإقليمية، حتى أن أوباما كان صريحاً في الإشارة إلى كون الخيار متاحاً لطهران بين إنفاق الأموال في الداخل أو على الميليشيات في الخارج. ضمن هذا المسار المزدوج يمكن فهم تصريحات الرئيس الإيراني المتعلقة بقبول بلاده استئناف المفاوضات النووية. فتصريحاته على هامش حضوره اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، أتت بعد أن صار مؤكّداً الهجوم الإسرائيلي على الحزب، وغايتها التلميح إلى تنازلات في الملف النووي من أجل إنقاذ الحزب وما يتصل به من نفوذ إقليمي.
باختصار، ليس هناك منحى مؤكّداً لما ستسفر عنه الحرب، ولا يمكن أيضاً استبعاد سيناريو الحد الأقصى الذي يؤدي إلى تحجيم النفوذ الإقليمي لطهران. وهو الذي يُفترض بموجبه أن يفلت الأسد من قبضة إيران. حينها ستكون طهران بلا شك قد فقدت ورقة الأسد، كواحدة من الأوراق الإقليمية التي تمسك بها ولو جزئياً في أية مفاوضات دولية أو إقليمية. أما مكاسبه فلا يجب المبالغة في تقديرها، لأنها في أحسن الأحوال لن تتعدى استعادة نفوذه على مناطق سورية كانت تحت سيطرة طهران. وهو ما لن يكون له أثر كبير على مجمل الوضع، لأن الأساس فيه هي المناطق الخارجة كلياً عن سلطته، تُضاف إليها العقوبات الدولية.
هي سيناريوهات “متفائلة” تروج مع كل مناسبة، وتنص على كون الأسد محظوظاً حين يستفيد من كل التطورات الإقليمية والدولية. ولا تندر الإشارة إلى مهارته باللعب على الحبال إذ يستطيع تحقيق كل ذلك. الطريف أن معارضين للأسد هم في عداد من يروّج هذه التصورات، التي لو تحققت أمثالها من قبل لكان الآن في أفضل حال. والحق أن اختزال آثار الحرب الحالية على سوريا بمكسب للأسد (أو للمعارضة) فيه الكثير من التسرّع، وربما تنتهي الحرب بتدنٍّ إضافي في قيمة سوريا لا تُعرف نتائجه بعد.
يروج على وسائل التواصل قول بعض السوريين: اللهم اضرب الظالمين بالظالمين وأخرِجنا من بينهم سالمين. وهو قول يتكرر مع كل معركة أطرافها منخرطون في الصراع السوري، ويُنظر إليهم كأعداء أو خصوم. ربما يعبّر هذا القول هذه الأيام عن حال الأسد وحال الثائرين عليه، ولو أن المنخرطين في الحرب ليسوا على عداء مع الأول. الأهم أن الأسد ومعارضيه يتوسّل كلّ منهما مكسباً يأمل أن يمنّ به القدر، وهذا بطبيعة الحال نادراً ما يحدث.
عذراً التعليقات مغلقة