يُصر كيان الاحتلال الإسرائيلي على عدم منح حزب الله الوقت الكافي لالتقاط أنفاسه، لا سيما بعد تعرضه لسلسلة من الهجمات المتتالية التي بلغت ذروتها بمحاولة اغتيال زعيمه حسن نصر الله. الضربة الجوية الإسرائيلية التي استهدفت نصر الله، (27/09/2024)، جاءت عقب خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث أشار إلى نوايا إسرائيل في تصعيد العمليات ضد حزب الله. هذه الضربة سبقتها حملة عسكرية وجوية استهدفت معاقل حزب الله في الضاحية الجنوبية، ما أدى إلى تكثيف حالة التوتر والاضطراب داخل الأوساط القيادية للحزب بعد ارتفاع حجم الخسائر.
ضربات “البيجر” والتوكي ووكي: انهيار النظام العسكري
قبل هذه الأحداث، كانت الضربة الكبرى التي وجّهتها إسرائيل إلى حزب الله عبر ما عُرف باسم “ضربات البيجر” وأجهزة الاتصال اللاسلكي المحمولة. هذه الضربات لم تؤدِ فقط إلى مقتل آلاف العناصر من الصفين الأول والثاني، بل أيضاً إلى انهيار كامل في منظومة الاتصالات العسكرية، التي تُعتبر أساسية في إدارة العمليات الميدانية.
في غضون يومين فقط، خسر حزب الله حوالي 4000 عنصر، بحسب الإحصاءات المعلنة، بالإضافة إلى 500 من كبار قادته، كان آخرهم إبراهيم عقيل، المسؤول العسكري الثاني بعد فؤاد شكر. عقيل قُتل مع 20 عنصراً من نخبة “فرقة الرضوان” في غارة إسرائيلية استهدفت اجتماعاً سرياً. هذه الخسائر، خاصة في صفوف القيادات، تجعل من تعويض الكفاءات أمراً بالغ الصعوبة حتى بالنسبة للجيوش النظامية، فكيف بتنظيم شبه عسكري مثل حزب الله.
الصدمة الاجتماعية: انهيار الحاضنة الشعبية
لم تقتصر الضربات على الجبهة العسكرية فقط، بل استهدفت أيضاً البيئة الاجتماعية لحزب الله. تفجيرات “البيجر” واللاسلكي التي وقعت في مناطق سكنية (17 و18/09/2024)، أثارت حالة من الذعر بين المدنيين، بمن فيهم المتعاونين مع الحزب. الحاضنة الشعبية التي كانت تُعتبر قوة الحزب الأساسية تعرّضت لضربة موجعة، حيث وثقت التقارير حالات هلع واسعة النطاق. بل وصلت الأمور إلى أن بعض الأمهات في الضاحية الجنوبية منعن أطفالهن من استخدام الهواتف المحمولة أو أي أجهزة إلكترونية، خوفاً من احتمال انفجارها بشكل مفاجئ.
تلك الضربات الاجتماعية تُعد ضربة مزدوجة لحزب الله؛ فهي لم تفقده فقط عنصراً مهماً في الحرب النفسية ضد إسرائيل، بل أثارت أيضاً الشكوك والخوف في بيئته الداخلية التي لطالما اعتمد عليها الحزب لحشد الدعم والتعبئة. مشاهد المستشفيات التي اكتظت بالجرحى وصور الفوضى في الأسواق والشوارع كانت تذكيراً مؤلماً بفشل الحزب في توفير الحماية لأفراده ومؤيديه.
انكشاف البيئة اللوجستية والطبية: سحب أوراق القوة
إلى جانب الخسائر العسكرية والاجتماعية، جاءت تفجيرات “البيجر” وأجهزة الاتصال اللاسلكي داخل المستشفيات لتُكمل دائرة الفوضى. حزب الله بات عاجزاً عن تقديم الرعاية الطبية الفعّالة لجرحاه ومصابي العمليات العسكرية، مما يزيد من تعقيد وضعه اللوجستي. هذا الانكشاف جعل من الصعب على الحزب الحفاظ على تماسكه الداخلي أو مواجهة الضغوط الإسرائيلية المتزايدة.
تجلى هذا الضعف بوضوح في الخطاب الأخير الذي ألقاه حسن نصر الله في 19 سبتمبر/أيلول الحالي. لغة جسده ونبرة صوته بدت أقل ثقة بكثير مما اعتاد عليه في خطبه السابقة، ما يوحي بحالة الضعف التي يعيشها الحزب في هذه المرحلة الحساسة. فبينما كان خطابه مليئاً بالانتقادات ضد المعارضة السورية وإسرائيل سابقاً، باتت مواقفه اليوم تفتقر إلى القوة والتماسك.
ضربة معاكسة: محاولة اغتيال نصر الله
ولم يمضِ الكثير من الوقت بعد هذا الخطاب حتى حاولت إسرائيل استهداف نصر الله شخصياً. الضربة الجوية التي استهدفته جاءت بعد خطاب نتنياهو في الأمم المتحدة 27 سبتمبر/أيلول الحالي، حيث أعلن الأخير بوضوح أن إسرائيل لن تتردد في استخدام القوة لتفكيك البنية التحتية لحزب الله في لبنان. الهجوم الذي استهدف الضاحية الجنوبية، معقل حزب الله، جاء ضمن هذه الحملة، ما أسفر عن خسائر فادحة وزيادة حدة الانقسام داخل أوساط الحزب.
محاولة اغتيال نصر الله تُعد تحولاً نوعياً في استراتيجية إسرائيل تجاه حزب الله، إذ لم تعد تستهدف فقط عناصره القيادية الميدانية، بل باتت تصوب مباشرة نحو زعامته السياسية. هذا التصعيد يضع الحزب أمام مفترق طرق: إما التصعيد العسكري الذي قد يقود إلى حرب شاملة مع إسرائيل، أو الدخول في مفاوضات سرية للتهدئة، وهو ما قد يُعد تنازلاً يصعب على الحزب تقديمه دون فقدان جزء كبير من هيبته وشرعيته في أعين مؤيديه.
ما بقي لحزب الله؟ خيارات محدودة ومستقبل قاتم
بعد سلسلة الهجمات التي طالت حزب الله على كافة المستويات، تبدو خياراته اليوم أكثر تعقيداً من أي وقت مضى. فقد خسر الحزب تماسكه العسكري والاجتماعي واللوجستي، وبات مكشوفاً أمام عدوه. تراجع إيران عن دعمها المباشر وتركه لمواجهة المصير وحده يضيف عبئاً إضافياً، خاصة بعد أن بدأت بعض التقارير تشير إلى وجود اختراقات داخلية من قبل الموساد الإسرائيلي.
نتنياهو، الذي حصل على الضوء الأخضر من الإدارة الأمريكية بقيادة بايدن، يبدو عازماً على فرض شروطه على حزب الله في الجبهة الشمالية. بعد انهيار منظومات الحزب الأمنية والاتصالية، لم يعد أمامه الكثير من الخيارات. فإما أن يخوض حرباً شاملة قد تؤدي إلى دمار واسع في لبنان، أو يرضخ لشروط إسرائيل، وهو أمر سيضعه في موقف ضعف أمام مؤيديه.
على المدى القريب، يبدو أن حزب الله سيضطر للتركيز على ترميم شبكاته الأمنية وإعادة بناء اتصالاته العسكرية، لكن هذه العملية ستستغرق سنوات، وهو وقت لن يُمنح له بسهولة في ظل التصعيد المستمر، كما أن فقدان الحاضنة الاجتماعية التي طالما كانت مصدر قوته، يجعل من الصعب عليه إعادة بناء تلك القاعدة دون تكلفة كبيرة.
في النهاية، يبدو أن حزب الله يواجه اليوم التحدي الأكبر في تاريخه، ومع مرور الوقت، تتضاءل فرصه في الحفاظ على تماسكه كقوة إقليمية مؤثرة. الخيارات أصبحت محدودة جداً، وأي خطأ قد يقوده إلى مزيد من الانهيار، ليجد نفسه في مواجهة حرب برية مع إسرائيل أو أمام ضغوط دولية تُلزمه بتقديم تنازلات كبيرة أو ربما يتم اغتياله في حال نجا من محاولة الاغتيال الأخيرة.
Sorry Comments are closed