أثار الإعلامي أحمد موفق زيدان غضب جمهور المعارضة السورية، الذي تداول تسجيلاً مجتزاً، إلا أنه معبِّر بما يكفي، يقول فيه زيدان: يتحدث بعض الدكاترة عن: أنا قبِلت بسايكس-بيكو وبهوية سايكس-بيكو مضطراً، فلماذا لا نقبل أيضاً بهوية الكيان السنّي في إدلب مضطرين؟
وفي واحد من أشكال التعبير عن الغضب، أصدر قبل يومين “تجمّع الحراك الثوري في إدلب وريف حلب الغربي” بياناً يدين فيه ويستنكر “بشدّة تصريحات المدعو أحمد موفق زيدان، والتي يدندن بها ويكررها منذ فترة، حول تسمية المناطق المحرَّرة بالكيان السنّي”. وإشارة البيان إلى تكرار تصريحات زيدان صحيحة، فقد سبق له مثلاً التحدث عن “الكيان السنّي”، أثناء وجوده في إدلب أيضاً، عندما شارك في تدشين كلية العلوم السياسية والإعلام التابعة لحكومة الجولاني، إلا أن تصريحاته آنذاك لم تنتشر على نطاق واسع كما حدث لتصريحاته الأخيرة التي يبدو أنها قيلت في ندوة على هامش معرض الكتاب المُقام في إدلب.
جدير بالذكر أن تصريحات زيدان لاقت من الاستنكار ما لم يلاقِه تصريح الجولاني نفسه قبل أكثر من سنتين، وحينها استهلّ رسمياً بدء الحديث عن سلطته بوصفها كياناً سنياً. في تموز 2022 قال الجولاني: إن المشروع في المحرر لم يعد ثورة ضد الظلم والطغيان وإنما تحوّل إلى بناء كيان سنّي، لأن أهل السنّة معرضون لخطر وجودي في سوريا… فكرة الثورة ليست فكرة عسكرية فحسب، ولو أنّ العسكرة هي من أهم الأشياء والسور الذي يحمي المنطقة، لكن اقتصار الثورة على أنها فكرة عسكرية أو أمنية هو توصيف خاطئ للثورة، وإنما هي بناء مجتمع وكيان إسلامي سنّي يحافظ على هوية وتراث هذا الشعب ويتناسب مع طبيعته وتاريخه”.
ربما أُخِذ تصريح الجولاني حينئذ باستخفاف. وهذا لا يعني أن تأكيدات زيدان تحظى بصدقية عالية لدى الذين استخفوا من قبل بأقوال الجولاني. ما حدث هو أن الحراك المتزايد المناوئ للجولاني خلال السنتين الأخيرتين، قد سلّط الضوء على إدلب أكثر. وأتى التأكيد على الكيان السنّي اليوم مع تعاظم المخاوف من استغلال هذا الإعلان لصالح القوى التي تعمل على التطبيع مع الأسد. في طليعة المخاوف أن يُستغلّ تعبير “الكيان السنّي” لوصمه على النحو الذي كان لسمعة قندهار في أفغانستان، أو الذي كان لسمعة الأنبار بعد إسقاط صدام حسين، حسب بيان تجمّع الحراك الثوري المُشار إليه.
ثمة مخاوف من نوع آخر، تتعلق بالاعتراف (ولو الضمني) بالكيان الوليد، واعتباره حقاً كياناً للسُنّة، أو على الأقل للذين هجَّرهم الأسد، فلا يكون لهم حق العودة إلى مناطقهم الأصلية. لا يهدّئ من المخاوف ما قاله أحمد موفق زيدان في تدشين كلية العلوم السياسية، إذ بشّر بانتقال الكلية إلى “عاصمة بني أمية”، ربما بعد أن تنجز مهمتها في إعداد الكوادر من أجل الحكم. فمن المعلوم أن التبشير بالنصر لا يتعدى الشعارات التي خبرها السوريون جيداً تحت حكم البعث والأسد، وقد قيل الكثير عن اقتباس الجولاني من دفتر الأسد، فضلاً عمّا تقترحه إسلاميته وطباعه الشخصية.
سيكون من السهل طبعاً مواجهة تسجيل أحمد زيدان الذي انتشر مؤخراً بما يُفترض أن الثورة السورية قامت من أجله، إلا أن استعادة مبادئ وأحلام الثورة غير كافية لدحض المنطق الذي يسوقه. فهو ينطلق أولاً من تظلّم يبدو منطقياً جداً، فإذا كان من المقبول وجود كيانات أخرى على أسس إثنية أو دينية أو مذهبية فسيكون من حق السنّة أن يكون لهم كيانهم. وإذا كان السُنة قد قبِلوا بما هو دون الأمة “الإسلامية”، وهذا فحوى قبولهم سايكس-بيكو، فمن المنطقي أن يقبلوا بالكيان السنّي الذي يقترحه الجولاني في إدلب.
لا شك أيضاً في أن الترويج للكيان السنّي في إدلب هو أدنى بكثير من القول أن السنّة هم الأمة، وينطوي على الهزيمة إذا قورن بشعار “الدم السنّي واحد”، وفيه تراجع على صعيد المفاهيم بالمقارنة مع تعبير “السنّة والجماعة”، الذي يحيل إلى ما هو أوسع من انكفاء وانعزال سنّي. لكن، رغم ذلك، لا يبدو الكيان المزعوم ناشزاً إذا وضعناه إلى جانب دعاوى ثقافية شائعة، وزاد رواجها في العشرية الأخيرة، أي مع الانكسار الذي أعقب موجة الربيع العربي.
يمكن تلخيص فحوى هذه الدعاوى بأن ثورات الربيع العربي فشلت لعدم وجود شعوب في المنطقة، ولأن المجموعات التي تقيم فيها هي عبارة عن طوائف وإثنيات غير قادرة على التعايش، وغير مؤهّلة “أقلّه في المدى المنظور” لتجد وصفة للعيش المشترك. على ذلك يكون التقسيم هو الحل، وهناك مثلاً دعاة لتقسيم لبنان بحيث تكون مساحة الكيان السني في إدلب واسعة بالقياس إلى مساحات كانتونات لبنانية مقترَحة، في حال حدث التقسيم المنتظَر أو “المرجوّ”.
يصادف أن الأفكار ذاتها تتلاقى مع ما روّجه معظم أنظمة الاستبداد التي قامت الثورات ضدها، لجهة القول أن تلك الأنظمة هي ضمانة بقاء الأوطان. وذلك كان خطاباً يتوجّه في شقّه الداخلي إلى “الغيورين” على وحدة البلاد، على نحو يهدِّدهم بمصير أسوأ إذا فكروا في الحرية، ويتوجَّه إلى الخارج مهدِّداً إياه بالفوضى التي ستحدث حتماً وتلقائياً بمجرد سقوط الأنظمة. في الواقع، استُثمر فشل الثورات جيداً لإثبات صواب ما روّجته الأنظمة، وإنْ من قبَل أصوات لا تدعم الدور “التوحيدي” التسلّطي للأنظمة، لأن أصحابها يرون الانقسام قدراً لا فكاك منه، الآن أو بعد حين.
قد يبدو الكيان السنّي في إدلب مثيراً للسخرية، إنما ليس من وجهة النظر الأخيرة التي تُعلي من شأن التمايزات. بل يجب ألا يكون مدعاة للاستغراب أو الاستنكار فيما لو نشأ كيان يدّعي تمثيل مذهب ما من مذاهب السنّة. إذ لا يمنع المبدأ ذاته أن يسعى الحنابلة إلى إنشاء كيان خاص بهم، ينعزلون به مثلاً عن أصحاب المذهب الحنفي، بدعوى تساهلهم في أمور دينهم. ذلك لا يختص بالأديان والمذاهب فحسب، إذ ينسحب على الاختلافات الثقافية ضمن الإثنية الواحدة، وأيضاً على الاختلافات بين منطقة وأخرى أو بين عشيرة وأخرى.
في الواقع لا يوجد أي معيار لقياس حجم الهوية اللازم لتشكيل كيان ما. والهوية في الأصل مفهوم مائع ومتشعّب جداً بخلاف مقاييس أخرى مثل الجغرافيا الطبيعية والسياسية، والاقتصاد وما يتصل به من شبكات مصالح. التركيز على الهويات المتصارعة اليوم يتهرّب من أسئلة أكثر إحاطة وشمولاً تتعلق بأسباب فشل الثورات، فيحيله إلى أسباب ثقافوية أولاً وآخراً. وإذا كان من ميزة حقاً للجولاني وأحمد موفق زيدان فهي في أنهما يقدّمان النموذج المبتذل لفكرة لها أنصار كثر خارج الوسط الإسلامي، بل لا يندر ترويجها كأنها من المسلّمات.
هذه بمثابة دعوة كي يحدّق هؤلاء جيداً في الكيان السنّي الإدلبي المسخ، على ألا يقولوا أن العيب في التطبيق وأن الفكرة الأصل تبقى صالحة. لقد ساق الذريعةَ ذاتها من قبل، وبلا طائل، مؤمنون بأيديولوجيات أشدّ تماسكاً وأكثر شمولية.
Sorry Comments are closed