عن حاجة السوريين لاستعادة مفهوم “عدوّ الدولة” الذي رسّخوه في ثقافات العالم

ابراهيم الجبين30 أغسطس 2024آخر تحديث :
عن حاجة السوريين لاستعادة مفهوم “عدوّ الدولة” الذي رسّخوه في ثقافات العالم
الكاتب والأديب السوري إبراهيم الجبين

يعود مفهوم “عدو الدولة” إلى عصور قديمة مضت، ولو لم يكن هناك من حاجة ماسة إليه في تلك الأزمنة، لما جرت قوننته وتشريعه واعتماده. وقد بدأ ذلك مع مصطلح “Hostis Publicus” في الإمبراطورية الرومانية، وهو التعبير اللاتيني الذي أطلق على مصطلح “عدوّ الدولة”، وكان يقصد به “أي شخص أو جماعة تُعتبر خطراً على الدولة الرومانية والمجتمع ككل. وقد يكون هذا الخطر من الداخل، مثل المتمردين أو الخونة، أو من الخارج مثل الأعداء الخارجيين أو الغزاة”.

وكان من بين التهم التي يمكن اعتبار المواطن الروماني فيها “عدواً للدولة” حالة الخيانة العظمى، بحسب قانون “Lex Julia de Majestate”  الذي تم وضعه عام 8 قبل الميلاد خلال فترة حكم الإمبراطور أغسطس (أوكتافيان)، وتم لاحقاً تعريف الخيانة بشكل أوسع ليشمل ليس فقط الأفعال المباشرة ضد الدولة، ولكن أيضاً أي مؤامرة أو سلوك يهدد سلامة الدولة أو الإمبراطور.

وكان “عدوّ الدولة” يفقد حقوقه المدنية، وتمكن ملاحقته قانونياً وفيزيائياً من قبل أي شخص دون مواجهة عواقب. أما من يحق له تصنيف شخصٍ ما بأنه “عدو الدولة”، فقد كان القانون يقضي بأن يتم الإعلان عن شخص كـ”عدو للدولة” من خلال إجراءات رسمية. بحيث  كان مجلس الشيوخ الروماني (السيناتوس) يُصدر مرسوماً يعلن فيه هذا الشخص أو تلك الجماعة كـ”عدو عام”. ولا بأس من التذكير بإعلان مجلس الشيوخ الروماني ليوليوس قيصر كـ “عدو للدولة” خلال الحرب الأهلية الرومانية، بعد تجاوزه نهر الروبيكون في عام 49  قبل الميلاد. وكذلك حالة الإمبراطور نيرون الذي حكم روما من 54 إلى 68  ميلادية، وواجه اتهامات بالخيانة من قبل مجلس الشيوخ الروماني في السنوات الأخيرة من حكمه. وبعد اندلاع ثورات عديدة ضد حكمه واتهامه بحرق روما، أعلن مجلس الشيوخ نيرون “عدواً للدولة”، الأمر الذي أفقده الحماية القانونية ودفعه إلى الانتحار لتجنّب الاعتقال والإعدام.

في الحالة السورية، لم يرسخ نظام الأسد أيّ مفهوم من مفاهيم “حماية الدولة”، إنما كانت كل تشريعاته تهدف إلى “حماية النظام الحاكم”، ما جعل سوريا رهينة لمجموعة من المافيات التي اتخذت شكل مؤسسات وأجهزة

الوضع القانوني لمفهوم “عدو الدولة” لم يقتصر على الإمبراطورية الرومانية وحدها، بل سبقها عند المصريين القدماء، حيث كان الشخص الذي يهدّد الملك أو الدولة “مجرماً” أو “خائناً”، وكانت عقوبته النفي أو الإعدام. وفي زمن الأكاديين والسومريين، كانت هناك قوانين صارمة ضد الأشخاص الذين يهدّدون (المدينة-الدولة)، لأن قضية حماية الدولة من أعدائها كانت أمراً مهماً جداً.

أما في أثينا، فكان هناك مفهوم مشابه لـ “عدو الدولة” عُرف بـ “Ostracism”، وبالعربية والتي يعني”النبذ”، متأتياً من الكلمة اليونانية “ostrakon”، التي تشير إلى قطعة من الفخار كانت تُستخدم كأداة للتصويت ضد هذا الشخص لتجريمه، حيث كان يتم نفيه بعد أن يتم اعتباره “خطراً على الدولة” من المجتمع لمدة عشر سنوات.

في الحضارة العربية الإسلامية، ظهر مفهوم “الحرابة”، كمفهوم قريب من مفهوم “عدو الدولة”، فالحرابة تُشير إلى الجرائم التي يرتكبها أفراد أو جماعات بهدف إحداث الفوضى وزعزعة الأمن في المجتمع المسلم. يشمل ذلك الأعمال التي تُعتبر تهديدًا كبيرًا للنظام العام، مثل قطع الطرق، السرقة بالقوة، أو الهجوم على الناس ونهب ممتلكاتهم باستخدام العنف. وقد اعتبر الفقه الإسلامي أن من يقدم على مثل هذه الأفعال، يعتبر خارجاً عن النظام والقانون، ويعامل كعدو للمجتمع الإسلامي ككل، وعقوبته تكون مشدّدة.

وفي العصور الوسطى في أوروبا، تطوّر مفهوم “عدو الدولة” مع المتغيرات التي طرأت على القوانين والأفكار في أوروبا، لا سيما مع نشوء الدولة الدينية ثم القومية. وكان للكنيسة الكاثوليكية تأثير كبير على مفهوم “عدو الدولة”؛ فبعض الذين اعتبرتهم الكنيسة من الـ”هراطقة” أو الخارجين عن الدين المسيحي تم تصنيفهم أعداء للدولة، لأن تحدي سلطة “الكنيسة” كان يُعتبر أيضاً تحدياً لسلطة “الدولة”. وقد نظمت قوانين مثل “مرسوم فردان” في العام 843 عملية اتهام الذين يخالفون الكنيسة فيتحولون إلى “أعداء للدولة”.

***

في إنكلترا تم استخدام مصطلح “عدو الدولة” للإشارة إلى كل من يتحدى سلطة الملك. ويمكن النظر إلى “قانون الخيانة” الذي صدر في عهد الملك إدوارد الثالث عام 1351، ليحدّد أن الخيانة ضد الملك أخطر جريمة يمكن أن يرتكبها المواطن، وكانت عقوبة “أعداء للدولة” في انكلترا الإعدام ومصادرة الأملاك. أما في فرنسا، وخلال حرب المائة عام بينها وبين إنكلترا، فكان أي شخص يتعاون مع العدو يُعتبر على الفور “عدواً للدولة” ويُعاقَب بقسوة شديدة.

ويُستخدم مصطلح “عدو الدولة” في الولايات المتحدة، للإشارة إلى الأفراد أو الجماعات الذين يُعتبرون تهديداً للأمن القومي أو استقرار الدولة. وعلى الرغم من أن هذا المصطلح ليس مصطلحاً قانونياً محدداً في القانون الأميركي، إلا أن استخدامه يستند إلى مجموعة من القوانين والتشريعات التي تهدف إلى حماية الدولة من التهديدات الداخلية والخارجية. وأبرز السياقات القانونية والتشريعية التي يرتبط بها هذا المصطلح تجسّدت بـ “قانون الخيانة” (Treason Act) والخيانة هي الجريمة الوحيدة التي تم تعريفها في الدستور الأميركي للعام 1787 وفقاً للمادة الثالثة، القسم 3، يتم تعريف الخيانة بأنها “شن حرب ضد الولايات المتحدة، أو التمسك بأعدائها، أو تقديم العون والمساعدة لهم”. يعتبر الشخص المدان بالخيانة” عدواً للدولة” بالمعنى القانوني، ويواجه عقوبات شديدة تشمل الإعدام أو السجن المؤبد. ثم صدر قانون الخيانة لعام 1790 كان أول تشريع فيدرالي يعاقب على الخيانة، وهو يعكس قلقاً كبيراً بشأن حماية الدولة الفتية من التهديدات الداخلية والخارجية.

أما “قانون الشغب” (Sedition Act) فيعود أول استخدام له إلى العام 1798، وكان يهدف إلى منع أي نشاط يُعتبر تهديداً للحكومة الأميركية. وكان يعاقب على أي خطاب أو نشاط يُعتبر محرضاً على العنف ضد الحكومة أو يُشجع على تقويضها. وعلى الرغم من إلغاء بعض مفاعيل “قانون الشغب”، إلا أن مفاهيمه أثرت على التشريعات اللاحقة، ولا تزال فكرة التعامل مع المحرضين والمتمردين كـ”أعداء للدولة” حاضرة في الذهن الأميركي الرسمي والشعبي.

من الأمثلة الشهيرة لاستخدام مفهوم “عدو الدولة” في الولايات المتحدة ؛ حالة بينيديكت أرنولد الذي كان جنرالاً في الجيش القاري خلال الحرب الثورية الأميركية. في عام 1780، خان أرنولد الولايات المتحدة بتقديم خطط دفاعية حساسة للجيش البريطاني مقابل المال ولقب عسكري. بعد اكتشاف خيانته، هرب إلى الجانب البريطاني، وتم اعتباره خائناً وعدواً للدولة. وهناك أيضاً حالة آرون بور، نائب الرئيس الأميركي السابق (1801-1805)، الذي تم اتهامه بالخيانة في العام 1807. وكان قد خطط لمحاولة إنشاء دولة مستقلة في جزء من الأراضي الأميركية الغربية. وظهر أيضاً “قانون التجسس” (Espionage Act) للعام 1917 الذي تم إقراره في سياق الحرب العالمية الأولى، ويهدف إلى معاقبة أي شخص يتجسس لصالح قوة أجنبية أو يقوم بأعمال من شأنها تقويض الجهود الحربية للولايات المتحدة، وارتبط بمفهوم “عدو الدولة”، حيث استُخدم لمعاقبة الأفراد الذين يُشتبه في تورطهم في التجسس أو تهريب معلومات حساسة إلى أعداء الولايات المتحدة.

وبعد هجمات القاعدة في 11 سبتمبر 2001، ظهر في العام نفسه قانون الوطنية الأميركي (USA PATRIOT Act)  وجرى إقراره لتعزيز الأمن الداخلي ومكافحة الإرهاب. ويمكن بفعله تصنيف الأفراد أو الجماعات التي يُشتبه في ارتباطها بالإرهاب كـ”أعداء للدولة”. كما تم إقرار قانون الدفاع الوطني (NDAA) في العام 2012، والذي يحتوي على بند يتيح للحكومة الأميركية احتجاز أي شخص يُشتبه في تورطه في أنشطة إرهابية دون توجيه اتهامات رسمية أو محاكمة. وقد أثار هذا البند جدلاً واسعاً حول أنه يمكن أن يُستخدم لتعريف معارضين سياسيين أو منتقدين كـ”أعداء للدولة”.

***

في الحالة السورية، لم يرسخ نظام الأسد أيّ مفهوم من مفاهيم “حماية الدولة”، إنما كانت كل تشريعاته تهدف إلى “حماية النظام الحاكم”، ما جعل سوريا رهينة لمجموعة من المافيات التي اتخذت شكل مؤسسات وأجهزة، وبات السوري مخيراً بين الولاء للنظام، أو الموت في المعتقلات، أو الهرب خارج البلاد إلى المنافي. وغاب مفهوم “عدوّ الدولة” من محاكم وأجهزة الأسد التي لم تستخدمه، ولا يمكن أن تجد له أثراً في وثائقها، وسبب ذلك هو خطورته القانونية عليها وعلى شخوصها.

اليوم وفي ظل عدم وجود مجلس شعب (حقيقي) منتخب ديمقراطياً لدى ملايين الشعب السوري الثائرين ضد نظام الأسد، فإن المعايير الدولية مثل القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف، التي تُعنى بحماية المدنيين في النزاعات المسلحة، يجب أن تكون الموجّه في التعامل مع أفعال تهدّد الدولة والمجتمع السوري. وبالتالي تصبح استعادة مفاهيم عالمية مثل مفهوم “عدوّ الدولة” ضرورة مُلحّة.

توجد مفاهيم راسخة ومتجدّدة لدى الرأي العام السوري الذي يجد نفسه في مواجهة مع ظواهر مختلفة تستوجب وضع إطار قانوني للتعامل معها؛ والأسئلة التي تفرض ذاتها على السوريين اليوم تدور حول كيف يمكنهم تصنيف من يدعو إلى التصالح مع نظام الأسد أو داعميه وشركائه، بعد كل ما ارتكبه من جرائم ومجازر مثبتة ومدانة؟ وكيف يجب التعامل مع من يبيعون المعلومات ويتسببون بخطر كبير على السوريين وقواهم السياسية والعسكرية؟ وماذا يمكن تصنيف من يسعون إلى تفكيك الدولة السورية وتطبيق مشاريع انفصالية تمزق وحدتها ووحدة الشعب السوري؟ كيف يمكن تصنيف من يسعون إلى تدمير البنية الاجتماعية السورية عبر المخدرات أوالاتجار بالبشر أو ما شابه ذلك من جرائم؟ ماذا يمكن للسوريين أن يطلقوا على من يدعو للتعامل مع عدو يحتل أرضهم ويطبق ممارسات عنصرية وتغيير ديموغرافي على شعبهم؟ ما هو تصنيف السورييين لمن يبثون الفكر الإرهابي والعقائد الطائفية من كل اتجاه؟ كيف يمكن أن يُصنّفوا سوريين ينفّذون أجندات خارجية لتحقيق مصالح دول وجهات غير سورية؟ وماهو الوضع القانوني لبشار الأسد ومؤيديه وبعض معارضيه في مثل هذه الحالات؟

كل تلك الجرائم لا يمكن وصف من يقوم بها سوى بأنه “عدو الدولة”، فالدولة كفكرة هي “الشعب”، والشعب هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في حماية ذاته وكيانه، ومحكمة الرأي العام هي العليا في المشهد السوري الراهن ولا شيء أقوى منها ولا أكثر جدارة.

ولا يجب أن يخجل السوريون اليوم أو يترددوا في استعادة هذا المصطلح؛ “عدو الدولة”، فقد كان الفضل في ترسيخه في الماضي، لابنهم الفيلسوف السوري بابينيان (إيميلوس بابينيانوس) الذي ولد في مدينة حمص، وكان أحد أشهر الفقهاء الرومان في القانون، وأحد الفقهاء الخمسة العظام في روما القديمة. وشغل منصب “القاضي الأعظم” في عهد الإمبراطور سيبتيموس سيفيروس، ثم أصبح مستشاراً للإمبراطور كركلا. وعلى الرغم من أن بابينيان لم يكن هو من صاغ  قانون “عدو الدولة” بالتحديد، بل ظهر قبله بقرون، إلا أن تأثيره على القانون الروماني كان كبيرًا جداً، وكان له دورٌ مهم في تشكيل وصياغة الفهم القانوني لكيفية التعامل مع “أعداء الدولة”، من خلال إسهاماته التي كان أعظمها على الإطلاق إقناع الإمبراطور كاراكلا باعتماد “قانون المواطنة” في العام 212  للميلاد، وعرف بـ”مرسوم أنطونيوس” الذي منح جميع الأحرار في الإمبراطورية الرومانية صفة “المواطنة”، وغيّر التاريخ.

المصدر تلفزيون سوريا
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل