عن السوري الصغير المفتون بأبي يائير

عمر قدور4 أغسطس 2024آخر تحديث :
عن السوري الصغير المفتون بأبي يائير

في تعبير هو الأشد تطرفاً، عن توجّهٍ يتقدّم بين بعض السوريين، راحت قلّة منهم تطالب أبا يائير بالمزيد، إثر قيام إسرائيل باغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحماس. على سبيل التأكيد، لم يتوقف هؤلاء عند عملية اغتيال القيادي في “حزب الله” فؤاد شكر، ليكون انفعالهم متصلاً بها، ومعطوفاً على مشاركته أو قيادته حرب حزبه على السوريين. أما استخدام لقب “أبي يائير” في الإشارة إلى نتنياهو، وإنْ على نطاق ضيق، فهو يعكس حال شريحة أوسع عبّرت عن الآمال ذاتها من دون النصّ صراحةً على اسم “الفارس” المناط به تحقيقها.

بعبارة أخرى، السوري الصغير المفتون بأبي يائير ليس حالة معزولة، وهو جزء من “تيار” لا يسعى فقط ليأخذ حصته من الوجود كرأي بين الآراء المتعلقة بإسرائيل، وإنما يسعى إلى تسفيه مخالفيه في الرأي باعتبارهم جميعاً متخلّفين أصحابَ أيديولوجيات بائدة. أي أن الافتتان بأبي يائير، من وجهة نظر أصحابه، لصيقٌ بالنموذج الذي يقدّمه نتنياهو، الافتتان الذي لا يتأخر عن اللحاق بترويج الأخير لحربه على الفلسطينيين بوصفها حرب المتحضرين ضد الهمج، أو ضد أولئك الذين كان وزير في حكومته قد وصفهم بكائنات غير بشرية.

هذه الوقفة عند هذا المفتون بأبي يائير، لا تدعو إطلاقاً إلى منع فرصة أي رأي في التواجد، وفي اكتساب المزيد من الأنصار، فهذا دأب السياسة ويجب أن يبقى هكذا. استطراداً لذلك، وجاهةُ أي رأي يُفترض ألا تقوم على حشد الأكاذيب ثم المزيد من الأكاذيب، ويُفترض أصلاً بتعدد الآراء أن يقدّم قيمة معرفية كلّية للجميع. هذا أيضاً ما أصبح كلاسيكياً متقادماً من وجهة نظر المفتونين بنتنياهو وأشباهه، إذ يعتبرون أن وجاهة أي رأي تأتي من قدرته على الانتشار، أي من الحاجة إليه مهما كان متهافتاً، ومن دون التمحيص في أسباب الحاجة إليه.

لتبرير التهليل لنتنياهو، لم يتورّع أصحاب التهليل عن وصف هنية، بحليف الأسد قاتل السوريين، بل لم يتورّع البعض منهم عن اتهام “حماس” بالمشاركة في قتل السوريين. وما يهمنا هنا هي تلك الجرأة الفائقة على الكذب، وعلى تزوير وقائع قريبة زمنياً، بصرف النظر عن أحقية اتخاذ أي موقف كان من “حماس”. فمن المعلوم أن “التطبيع” بين “حماس” والأسد لم يكن دافئاً أو مرغوباً فيه من الجانبين، وإعلام الأسد تكفّل في الإفصاح عن ذلك بلا مواربة. فحماس متهمة من قبل الأسد بالقتال سابقاً إلى جانب فصائل معارضة، ومتهمة بأنها دعمت فصائل معارضة بخبرتها في إنشاء أنفاق للتنقل، وأخرى للوصول إلى أهداف عسكرية وتفجيرها.

وأن يرى البعض اليوم، بمنظار مختلف، ما حدث في سوريا قبل 12 عاماً، فذلك ينبغي ألا يجرّم “حماس” باتهامها بسوء النية، وبمشاركتها عن خبث أو تآمرٍ في ما يُسمى “أسلَمة” الثورة. المفارقة الجديرة بالتفكير، هي أن “حماس” تقلّبت في موقفها من الحدث السوري، بينما كانت منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية أكثر “مبدئية”، إذ بقيتا على العلاقة مع الأسد، ولم تتخذ منظمة التحرير أي إجراء في حق الفصيل الفلسطيني المنتمي إليها والذي شارك مباشرة في قتل السوريين، مثلما شارك في قمع الفلسطينيين المساندين للثورة السورية، ونشير على نحو خاص إلى ما فعله هذا الفصيل في مخيم اليرموك.

التهليل لاغتيال هنية، مع الاستعانة حتى بمؤثرات مزوّرة مثل الصورة المزيّفة التي تُظهره منحنياً يقبّل يد خامنئي، هذا التهليل بمثابة استئناف لما أعلنه سوريون قبل عشرة شهور عن اعتزالهم الشأن الفلسطيني ورفضهم أن تكون فلسطين قضيتهم المركزية على نحو ما شاءت لهم دعايةُ “البعث” خلال عقود سابقة. أيضاً، راح أصحاب هذا التبشير يروّجون له على أنه متقدّم، ما يعني بالطبع أنهم متقدمون بالمقارنة مع وعي عام يدّعون أنه أيديولوجي بائس ومتقادم. المراهنة هنا “التي لا يندر أن تكسب” هي على الجهل أو قصر الذاكرة، أو على الاثنين معاً، فأي ملمّ بالتاريخ القريب يعلم أن تقويض القضية المركزية بدأ فعلياً العام 1978 مع اتفاقيات كامب ديفيد، وتم مع اتفاقيات أوسلو بعد عقد ونصف، ورافق الثانية منهما الكثير من الكتابات التي شيّعت القضية المركزية إلى مثواها الأخير، ولا عزاء لأيتام “البعث” والأسد الذين صحوا مؤخراً على ما حدث، أو لأولئك الذين يظنون أن أميركا تُكتشف فقط عندما يطأون ترابها.

لقد واظب هؤلاء خلال عشرة شهور على إعلان اعتزالهم الشأن الفلسطيني، وهذا حقهم بالتأكيد، لكنّ ما ليس طريفاً فحسب أنهم واظبوا خلال المدة ذاتها على تكرار هذا الإعلان. وإذا افترضنا أن الانفكاك عن الشأن الفلسطيني وتداعياته، ممكن واقعياً، فمن المستغرب أن دُعاته لم يقدّموا نموذجاً حقيقياً من خلال الانهماك في شأنهم السوري وتعقيداته.

في الواقع لم يحدث الاعتزال المزعوم، وواظب هؤلاء طوال الوقت على تحميل “حماس” مسؤولية ما يحدث، من دون أدنى حساسية إزاء نهج الإبادة والعقاب الجماعي الذي تنتهجه إسرائيل، والذي يُفترض أن يكون مُداناً على سبيل الاحترام والانصياع للقوانين الدولية، ليس إلا. قفز هؤلاء إلى مقاعد المتفرجين كمشجّعين ضمناً لما تفعله إسرائيل، ولو من خلال التصويب فقط على “حماس” وتبرير التصويب عليها باحتسابها تنظيماً عميلاً لإيران، وبوصف الأخيرة العدو الأول للسوريين. ثم اختلط هؤلاء بالذين اصطفوا إلى جانبهم، بدعوى معاداتهم الجذرية لكافة تنظيمات الإسلام السياسي، وكأن تل أبيب تخوض حرباً تنويرية، خصوصاً بوجود أمثال سموتريتش وبن غفير ونتنياهو في الحكم.

ما يتحاشاه أصحاب التوصيف الأخير أن هناك العديد من الخلافات بين إسرائيل وإيران، لكن الإبقاء على الأسد في السلطة لم يكن في أي وقت منذ العام 2011 مثار خلاف بينهما. يمكن لمن يشاء العودة إلى وقائع العقد الأخير، والتأكد من أن الطيران الإسرائيلي لم يقصف أية ميليشيا إيرانية في سوريا عندما كانت تُمعن في قتل السوريين، ومن أن الغارات على المواقع الإيرانية تكاثرت بعدما أنجزت الميليشيات حصتها من إنقاذ الأسد. يمكن لمن يشاء أيضاً، التأكد من أن إسرائيل لم تقصف خلال الفترة نفسها أي هدف عسكري للأسد، ولم تستهدف أياً من مسؤوليه، بل كانت حريصة على التوضيح بين الحين والآخر أنها لا تستهدف الأسد على الإطلاق.

القول أن إسرائيل، كقوة إقليمية كبرى، لها حصة من قرار الإبقاء على الأسد، قولٌ لا يحتاج ألمعية، وهذا الواقع يجعلها عدواً لنسبة كبيرة من السوريين إذا تغاضوا بالمطلق عن احتلالها الجولان. الأهم أن مصير الأسد غير موضوع على الطاولة من ضمن استحقاقات الحرب الحالية، وحتى إذا حققت إسرائيل النصر الساحق على إيران ومحورها فذلك بلا تأثير على بقائه أو عدم بقائه في السلطة.

يجدر التنويه أخيراً بأن النصر النهائي الساحق غير موضوع على أجندة تل أبيب، إلا في ما يتعلق بحماس والفلسطينيين عموماً، أي أن آمال السوري الصغير المفتون بأبي يائير غير موجودة أصلاً في مفكّرة الأخير. واستخدامنا تعبير “الصغير” ليس على سبيل التحقير والإهانة؛ هو توصيف لحال ذاك الذي ينتظر من “بطل” ما أن يحقق له أمنياته، بينما هو مسترخٍ على مقاعد المتفرجين لا يطالب نفسه بأدنى جهد. هي عقلية المراهق الصغير، بصرف النظر عن الأعمار الواقعية، واستخدام لفظ الأب في وصف “البطل” المنتظر “إكباراً له وتحبباً”، شائعٌ جداً انطلاقاً منها. فلدينا أيتام أبي عدي، وأيتام أبي باسل، وليس بعيداً في الزمن استخدامُ بعض السوريين لقبَ أبي بلال أيامَ شهر العسل مع أردوغان، بل لقد نال ترامب “شرف” اللقب فصار أبا إيفانكا بضربة صاروخية لمطار الشعيرات. على القياس ذاته، لسنا بحاجة ولو لقليل من الوقت للتنبؤ بخيبة أيتام أبي يائير؛ المؤسف أنهم قد يحتاجون الكثير منه.

المصدر المدن
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل