قبل بضعة شهور، تكررت في الدوائر الإعلامية التابعة لنظام الأسد، عبارة “الدبلوماسية الثقافية”، فظهرت وكأنها أداة سحرية مدهشة، تم اكتشافها حديثاً، حتى أن المعهد الدبلوماسي، أقام جلسة حوارية مع وزيرة الثقافة لبانة مشوح، استفاضت فيها، بالحديث عما تمتلكه سوريا من أدوات “ثقافية” يمكن أن تُدرج في سلة المفهوم، وتستطيع “الثقافة” أن توفرها ل”الخارجية” في إطار التعاون بين الوزارتين، كي تستخدمها في سياق تواصلها مع البلدان الأخرى، فتكون عناصر جذب، وتشكل دعوات للآخرين، من أجل تبيان الحقائق عن البلد” الذي “شوهت صورته “الحرب” و”المؤامرة الكونية” و”المنظمات الدولية” بتقاريرها الكريهة”!!
في السياق، يفردُ باحث يعمل في الأوساط ذاتها أوراقاً، على شكل بحث، ينشره في مجلة (الفكر السياسي) التي يصدرها اتحاد الكتاب في دمشق، تحت عنوان “القوة الناعمة السورية غنى المصادر وإعادة التوظيف” فيقول: “إن سورية تمتلك من مقومات القوّة الناعمة ما لا يمكن حصره من عناصر ومفردات فبلد عريق بحضارته وتراثه وتاريخه وموقعه، وحيويته الديموغرافية ماضياً وحاضراً، يعد نموذجاً لامتلاك أسباب هذه القوّة بشكلها الحضاري من دون أن تكون لها تأثيرات سلبية أو عدوانية تجاه الآخرين، ولاسيما في بعدها الثقافي والحضاري والدور القيادي التاريخي المرتكز على عوامل اجتماعية ودينية وقومية”.
(الكيتش السوري)
غير أن الشروحات المقدمة ههنا، لن تخرج عن استعراض إنشائي مكرر، موزع على أبعاد، يذكرها صاحب البحث، وهي الديني، الثقافي، التجاري، الحضاري، المعرفي، يكتشف القارئ بعد مطالعته لها، أنها تنتمي بكل تفاصيلها، إلى المنجز التاريخي العام للشعب السوري، أي أن أحداً من الأنظمة التي حكمت سوريا له يد فيها، وبالتأكيد لا علاقة للنظام البعثي المستمر منذ عام 1963 بكل ما تتضمنه، لكنه عمل على الاستفادة منها، وتكريسها لصالحه، لعشرات السنين، فبعد أن استولى الرفاق على الدولة، ومؤسساتها، “تسلبطوا” على العلوم والمعارف والثقافة والدين، وقولبوا كل شيء بما يفيد رسالتهم الخالدة، وبما يؤبد سيطرتهم على السلطة!
فإذا كان كل ما تحتويه سلة المتذاكين، من موظفي النظام، لا يخرج عن التراث السابق على وجودهم، فإن السؤال عن امتلاك نظام الأسد قوة ناعمة، ذات أسلحة يمكن لدبلوماسييه أن يستخدموها، في سياق عملهم، وأثناء محاولاته العودة إلى المحافل الدولية، يبدو محرجاً جداً لهؤلاء، خاصة وأن معايير حضور الحكومات والدول والبلدان، في المحافل الدولية حالياً، لا تتمحور حول تراثها، بقدر ما تلتف على نسغ تطورها، وقدرتها، على تقديم المنتجات الحضارية والتقنية والثقافية الجديدة والمختلفة للآخرين؟
هؤلاء مازالوا ينامون على مخدة وردية، تفترض بأن بضاعتهم الراهنة، أصيلة وراسخة وتغوي الآخرين، كمسلسلات البيئة الشامية بقصصها المكررة، وحكايات الحضارة العربية التليدة، والمواقع الأثرية الكثيرة، وطبيعة المجتمعات المتسامحة والتي يصورها مشهد الجامع الذي يعانق الكنيسة، وغير ذلك من “كيتشات” الحياة اليومية!
يظنون أن المنتجات الثقافية الراهنة، المصنوعة في مؤسساتهم، يمكنها أن تجعل الآخرين يعيدون النظر في الصورة القاتمة، الحاصلة بعد 14 سنة من نزيف الطاقات والقدرات الهاربة من الجحيم القمعي، الذي تسببت به سياسات النظام ضد معارضيه.
وفي الوقت ذاته يعتقد بعض من هؤلاء، أن وجود عدد من الممثلين والمغنين المشهورين في البلاد، إنما هو عنصر قوة يستفاد منه، في معركة السرديات بين النظام والمعارضة! لكن الوقائع تُظهر أن فعالية هؤلاء “النجوم” لا تأتي من تصريحاتهم المخزية عن الثورة والثائرين بالطبع، بل تأتي من المحتوى الذي يقدمونه، وهو في مجمله لا يؤيد سردية النظام إلا في أفلام سينمائية باهتة، أخرجها مخرجون موالون وعديمو الموهبة، وأنتجت في مؤسسة السينما!
بينما اصطفت الدراما على الحياد، لا لنزوعات أخلاقية عند صناعها، بل لإدراكهم أنها لن تسوّق في القنوات العربية، في حال احتوت قصصها انحيازاً فاقعاً للنظام!
(قوة البطون)
ومقابل قصص عن سوريين يعملون خارج وطنهم، ليسوا كلهم معارضين، ولكنهم يستفيدون من مناخات الحرية في كل مكان يسكنونه، فتنتشر نجاحاتهم الهائلة، بالصوت والصورة وبلغات العالم كله، لا يخرج عن سوريا الأسدية في الوقت الحالي، سوى تلك الأفلام التي يصنعها اليتيوبرية، ممن يزورون المدن الكبرى، ويصورون الأكلات التقليدية، في أفلام تحقق مشاهدات كبيرة، لكنها لا تقدم أي فائدة للنظام، فالعالم كله يعرف أن الأمن والأمان نسبيان، في هذه الأمكنة المقسومة بين قوى الأمر الواقع.
وحتى حين يتجول هؤلاء في الشوارع، فإن الصور عن الحياة اليومية البائسة، لا يمكن لصحون أكلات المطبخين الشامي والحلبي أن تخفيها، بل إنها تفضح إلى أي درك مؤلم وصل إليه الناس، بعد أن أمسى الحصول عليها عزيز المنال، بسبب الفاقة وتلاشي المقدرات!
يفكر الأسديون أن لديهم قوة ناعمة، بهذه الطريقة، فهم يرون أنهم، ورغم كل الخراب الذي أصاب البلاد والعباد، مازالوا بخير. وبذلك، ومن حيث لا يدرون، يكشفون للآخرين أن مرض الإنكار الذي أصابهم منذ عام 2011 بات مزمناً، لا يمكن علاجه بأدوية بسيطة.
وطالما أن مشوار العلاج يبدأ باعتراف المريض بأنه مصاب، فإن إنكار هؤلاء أنهم ينكرون الوقائع، بشكل مرضي يعقّد من أحوالهم، فيشعر المتابعون أن الأمل منهم معدوم، طالما بقيت الأسدية عقيدة ممارسة تهيمن على عقولهم!
Sorry Comments are closed