دولة البعث وكراجات “الهوب هوب”

بسام يوسف12 أبريل 2024Last Update :
بسام يوسف

قبل أيام مرت الذكرى السابعة والسبعين لتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي، ولست هنا بوارد استعراض تاريخ هذا الحزب ولا مواقفه، بل أريد الحديث عن أمر آخر، فقط أود أن أشير إلى أن تسميته جاءت من اندماج حزب البعث الذي أسسه صلاح البيطار وميشيل عفلق وآخرون، مع الحزب العربي الاشتراكي الذي كان يقوده أكرم الحوراني، وهكذا استقرت التسمية على حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي لايزال مستعملاً حتى اليوم.

في مسيرة الحزب السياسية، وتاريخ قادته، وتفاصيل علاقته بالسياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة و..و.. يمكن القول ببساطة شديدة، إن هذا الحزب لم يكن في معظم محطاته المهمة وآليات عمله التنظيمية الداخلية يشبه الأحزاب السياسية بالمعنى المتعارف عليه، وكان أقرب لمؤسسة عسكرية، يتحكم بها قادة تنعكس سماتهم الشخصية، ومصالحهم السياسية، وارتباطاتهم على عمل الحزب وعلى قراراته الأهم، وكأنهم مفوضون بالنيابة عن أعضاء الحزب وعن المجتمع، وهذا ما تبين جلياً في مجريات تبدّل قياداته، إذ غابت تماما آليات الانتخاب، والبرامج وكل الوسائل الديمقراطية التي تعرفها الأحزاب، وحضرت الانقلابات والدسائس والتصفيات والسجون.

لا بدّ من الاعتراف هنا بأن ما قبل 1970، أي ما قبل انقلاب حافظ الأسد العسكري، يختلف إلى حد ما مع ما قبله في مسيرة هذا الحزب، إلا أن هذا الاختلاف كان ضعيفاً إلى حد أنه مكّن “حافظ الاسد” من حسم معركته داخل الحزب سريعاً، رغم أنه كان الأضعف فيه، وكان “صلاح جديد” المتعصّب الأكبر للحزب، والرجل الأقوى فيه، يتوهم أن الحزب سيكون قادراً على استعادة دوره وإفشال الانقلاب، لكن تبين أن حافظ الأسد كان أكثر دراية ببنية الحزب وبطبيعة أعضائه.

لم يعد لحزب البعث بعد عام 1970م أي صفة يمكن اعتمادها لإطلاق صفة الحزب السياسي الحقيقي عليه.

بوصول حافظ الأسد إلى موقع الرئاسة في الحزب والدولة، تمت تصفية آخر المرتكزات المتبقية من الأصول التنظيمية، والفكرية والسياسية في الحزب، والتي كانت على ضعفها وهشاشتها يُمكن أن تشكّل منطلقاً لإعادة ترميم الحزب، وتدعيم البنية الأساسية لما يحتاجه بداهة أي حزب سياسي، بوضوح يمكن القول إنه لم يعد لحزب البعث بعد عام 1970م أي صفة يمكن اعتمادها لإطلاق صفة الحزب السياسي الحقيقي عليه، وأصبح مجرد واجهة وأداة يستعملها قادة متنفذون يأتمرون بأمر “حافظ الأسد”، وأصبح البعث مجرد واجهة لمرتزقة عسكريين ومدنيين، ليس لديهم أي مشاريع تخص الدولة والمجتمع، ويعتمدون على قوة السلطة ومؤسسات الدولة لحماية وجودهم.

كان من الطبيعي أن توصلنا سلطة عسكرية انقلابية فاسدة لا مرجعية قانونية أو تنظيمية أو وطنية لها، ولا ترى في أولوياتها سوى السلطة والبقاء فيها، إلى دولة مشوّهة وممسوخة، دولة ليس لها من صفات الدولة إلا هيكل خارجي ضروري لها من أجل علاقاتها مع الأطراف الخارجية، ومع المجتمع الدولي ومؤسساته عموماً، لكنها في داخلها تعج بكل ما هو نقيض للدولة ولدورها ولمعنى وجودها، حيث لا شرعية حقيقية للسلطة التي تديرها، ولا حياة سياسية فيها، ولا يسمح بالأحزاب فيها، ولا صحافة ولا حرية رأي ولا قضاء مستقل ولا..ولا..

في حوار قديم لي يعود لعقود مع زميل دراسة فلسطيني جاء ليدرس في سوريا، وكان مقرراً له الدراسة في جامعة دمشق، لكنه غير رأيه وطلب الانتقال إلى جامعة اللاذقية، يومها كانت حافلات “الهوب هوب” هي وسيلة النقل الأساسية في سوريا، وعندما أراد الانتقال من دمشق إلى اللاذقية توجّه إلى كراجات العباسيين، لتقله إحدى هذه الحافلات.

بعد استقراره في جامعة اللاذقية أصبحنا أصدقاء، وفي حديث طويل عن سوريا، قال لي إنه لا يليق بدولة مثل سوريا، وبقيادتها التي صُورت له بأنها “تقدمية ومقاومة وصامدة” أن يكون فيها كراجات مثل كراجات “الهوب هوب”، وأخبرني كيف تعرض للتفتيش المذلّ، وكيف سُرقت أشياء كثيرة منه، وعندما احتج على هذه الطريقة في التعامل، ضربه رجل أمن وهدّده بالسجن، قلت له يومها إن كراجات “الهوب هوب” هي تجسيد حقيقي مصغر عن سوريا، كان مصدوماً وهو يسمع رأيي، لكننا بعد أشهر قليلة كنا معاً نستعمل كلمة “كراجات” للدلالة على سوريا.

لا تمثل الكراجات منطقتها فقط، إنها تعكس على نحو شديد الدقة والكثافة كيف تدير سلطة البعث سوريا؟

قد يستهجن كثيرون هذا التشبيه، لكن وبعيداً عن كتب السياسة التي التهمت رؤوسنا في تلك الفترة، وبعيدا عن سفسطة المثقفين والساسة والمتحزبين على اختلاف راياتهم، لم يكن هناك مثال حي على الواقع الحقيقي لسوريا أشد قرباً من مثال “الكراجات”، فعلى مدخلها ارتفعت صورة كبيرة لحافظ الأسد، فوق قوس معدني كتبت عليه عبارة من أقواله، وعلى طرف القوس المعدني وضع علم النظام السوري، كان قد اتسخ بمرور الزمن وتمزّق ولم يهتم أحد باستبداله، وقبل أن تعبر البوابة، سيوقفك رجال بلباس مدني مدججون برشاشات “كلاشينكوف”، سيدققون في هويتك، وسيفتشون حقائبك، وغالباً ما يحاولون سرقة أشياء مما تحمله.

ما إن تتجاوز مدخل الكراجات ، حتى يتلقفك السماسرة وأصحاب المحال وصبيان شركات النقل، ستصبح مباحا لأنك عابر وبلا حقوق، وفي الوقت الضيق الذي تمضيه قبل رحيلك يجب نهب ما يستطيعون منك، فأنت لست إلا ما سوف تدفعه من المال، وستكتشف في الوقت ما بين وصولك ورحيلك كيف تتحد “السلطة – أي أمن الكراجات” مع “مافيات” الكراجات كي يسهل صيدك، نشالون، باعة أقراص ممغنطة تبث صراخا لسارية السواس وحسين الديك وآخرين أشد بشاعة، وأفلاما إباحية، وخطابات حسن نصر الله وأغاني المقاومة، وستغرق في طوفان الأصوات المتداخلة هذا يعلن عما يبيعه، وآخرون يعلنون عن رحلات الحافلات، وشتائم، وروائح زيت محترق تترافق مع روائح نشادر نفاثة في بعض زوايا هذه المساحة، وعالم يعج بالفوضى.

لا تمثل الكراجات منطقتها فقط، إنها تعكس على نحو شديد الدقة والكثافة كيف تدير سلطة البعث سوريا، كيف تتعامل مع السوريين، وكيف ترى حقوقهم، واليوم يمكنني القول بلا تردد أنك لكي تعرف كيف تدير دولة ما مجتمعها، وكيف تهتم بمواطنيها، وكيف تحترم سلطتها حقوق شعبها، قد لا تضطر لقراءة عشرات الكتب، فكل ما يتوجب عليك فعله هو التوجه إلى محطات السفر فيها، هناك سترى بالعين المجردة كم تحترم هذه الدولة مواطنيها.

كراجات “الهوب هوب” في سوريا، هي النموذج الحيّ المصغّر لسوريا الأسد.

Source تلفزيون سوريا
Comments

Sorry Comments are closed

    عاجل