يوماً ما كان اليهود عرباً ساميّين!

عمر قدور6 أبريل 2024آخر تحديث :
يوماً ما كان اليهود عرباً ساميّين!

في عام 1933 نشرت صحيفة “إسرائيل”، الصهيونية التي كانت تصدر في مصر، رداً على كاتب إسلامي اسمه سامي سراج كتب مهاجماً المشروع الصهيوني في صحيفة “الجامعة الإسلامية”، وجاء في الرد: “هل يستطيع الأستاذ سراج أن ينكر على اليهود ساميتهم وعروبتهم ويردّهم إلى عنصر غير شرقي؟ وإذا كان يعترف معنا بأن اليهود من أصل عربي ولغتهم سامّية، فكيف جاز له أن ينكر على اليهود جنسيتهم وقوميتهم ورميهم بما ينأى عن الذوق السليم والخلق المتين؟

الجريدة ذاتها ستنشر لاحقاً ضمن مقال آخر يدافع عن المشروع الصهيوني بدعوى “أن لليهود حقوقاً في فلسطين لأنهم عرب ساميّون، نبتوا في صحاريها وترعرعوا تحت نخيلها… ودافعوا عن أراضيها دفاع المستميت فارتوت رمالها بدمائهم، وعندما أراد بعضهم الرجوع إليها عمَّ الإضراب، وقام الثوار وكتبت الجرائد وخطبَ الزعماء وسافرت الوفود لوقف الهجرة”. ويُذكر أن الصهيوني المصري ألبرت موصيري قد أسسها عام 1920، وكانت تُطبع بالفرنسية والعربية، وكان الانحياز إلى المشروع الصهيوني أشدّ في النسخة الفرنسية، مع التنويه بأن الفرنسية كانت آنذاك اللغة الثانية لدى المتعلمين من يهود مصر.

لعل الاقتباس السابق يضيء قليلاً على الجدل الذي بدأ في البلد العربي الوحيد الذي كان معنياً عن قرب بالمسألة الفلسطينية، ومحطّ أنظار مؤسِّسي الحركة الصهيونية، فتيودور هرتزل قام بزيارة مصر من أجل تأسيس فرع للحركة عام 1903، أي بعد ست سنوات من عقد المؤتمر التأسيسي للصهيونية. وفي عام 1917، الذي شهد صدور وعد بلفور، أنشئ الاتحاد الصهيوني المصري وأُعلن عنه في حفل في الإسكندرية انتهى بإنشاد نشيد الأمل الإسرائيلي، وإرسال برقية تأييد لإنشاء الدولة اليهودية في فلسطين إلى حاييم وايزمان رئيس المنظمة الصهيونية العالمية الذي سيقوم بالعديد من الزيارات العلنية إلى مصر، آخرها في عام 1938 وأولها عام 1918 وهو في طريقه إلى فلسطين.

في عام 1928 أُنشئ تنظيم الإخوان المسلمين، وفي عام 1933 أنشئ تنظيم “مصر الفتاة”، وهما التنظيمان اللذان أخذا على عاتقهما التصدي للنفوذ الصهيوني في مصر. ومن المعلوم أن الأول منهما يُعتبر التنظيم الأم لمعظم الحركات الإسلامية في المنطقة العربية، أما الثاني فكان يدعو إلى استعادة مصر الفرعونية، ومن المحتمل جداً أن يكون تأسيسه بتأثير من النازية الصاعدة حينئذ بقوة. بأخذ مجموع هذه التواريخ، يمكن القول أن الحركة الصهيونية في مصر لها أسبقية الوجود، في وقت كانت فيه اهتمامات المصريين وطنية لا تتعدى في أقصى أحوالها الوحدة مع السودان، وهذا المشروع الوطني تُوّج بثورة 1919، وبقيت آثاره سائدة حتى أواخر العشرينات.

التسلسل التاريخي نفسه يقودنا إلى أن “اليهودية السياسية” كانت سبّاقة على الإسلام السياسي، وإن كان معظم مؤسسي الصهيونية من غير المتدينين. وإذا كنا نفتقر إلى براهين ملموسة على دور السابق في تأسيس “أو تقوية” اللاحق فالمنطق يقضي بعدم إهمال هذه الفرضية، وألا يُعزى فقط إلى المصادفة تقدّمُ الإخوان على إيقاع تقدم المشروع الصهيوني في فلسطين بين منتصف الثلاثينات ومنتصف الأربعينات. ومن المتداول أن حرب 1948 والهزيمة المدوية أمام إسرائيل كانت الحافز الأقوى لانقلاب “الضباط الأحرار”، ولا يُستبعد أن يكون تأثير المسألة الفلسطينية حاضراً منذ نشأة تنظيمهم بالتوازي “وبالتداخل أحياناً” مع التنظيم السري العسكري للإخوان.

على نحو مباشر، كان تقدّم المشروع الصهيوني في فلسطين يعني اصطدام المنطقة مباشرة “وبعنف” بمشروع قومي مركّب، فهو يبني أمّةً على جذر ديني، وعلى مقولة شعب الله المختار الذي وُهبت له أرض الميعاد، ويستلهم أيضاً الفكرة القومية الحداثية، والتي كانت النازية والفاشية أنقى وأفظع تجلياتها. لعلنا لا نغامر بتشبيه صدمة إنشاء إسرائيل بالصدمة التي تنسب إلى حملة نابليون بونابرت، مع اختلاف جذري في طبيعة كلّ منهما وتبعاتها.

ما يشير إليه تسلسل الأحداث التاريخي أن المسألة الفلسطينية لم تُستخدم فقط للاستثمار، من قبل عسكر قوميين انتهازيين وإسلاميين لا يقلّون عنهم سوءاً، بل إن للمشروع الصهيوني في فلسطين تأثيراً على نشأة التيارين في المنطقة وتقويتهما. وهذا على سبيل التوصيف لا التبرير لعسكر المنطقة وإسلامييها، ومن أجل التأكيد على أن أي نقد جذري للظاهرة القومية الإسلامية في المنطقة يتحاشى نقد الصهيونية السبّاقة فيها هو نقد يفتقر إلى النزاهة. وحتى إذا تلطّى هذا النقد وراء واقعية القبول بميزان القوى الراهن فهو يبدو كأنه يستهدف الأضعف لأنه أضعف، لا لأسباب مبدئية، ما يرتّب على الأضعف السعي لتقوية نفسه لا مراجعة منطلقاته الفكرية.

بالمثل، لا يبدو اليوم تقديم نقد جذري للإسلام السياسي نزيهاً إذا لم يكن جذرياً إزاء الفكرة القومية ككل، فالإسلام السياسي هو مركّب قومي بقدر ما يبدو ظاهرياً أوسع من الفكرة القومية. هو على نحو أدق أوسع من فكرة العروبة، إلا أنه ينازع العروبيين على القاعدة ذاتها، على قاعدة الأمّة التي يراها إسلامية لا عربية. هنا يستقوي الإسلام السياسي بالنموذج القريب “الناجح”، بإسرائيل كأمة أنشئت على أساس ديني، من دون استبعاد تأثير أخفّ مقبل من بعيد فعشية تأسيس إسرائيل كانت الهند التاريخية تخوض حرباً عنيفة ودموية بين الهندوس والمسلمين، بعدما انقسمت مع الاستقلال إلى دولتين-أمتين على أساس ديني أيضاً. ولم يتأخّر الإسلام الشيعي الإيراني في البروز في أوائل الخمسينات، حيث ساند آية الله كاشاني إعادة القومي محمد مصدق إلى رئاسة الوزراء ثم سهّل إسقاطه، ليصل آيات الله في نهاية الأمر إلى إسقاط الشاه وإنشاء الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تعتمد مفهوماً للأمة مركّباً من التشيّع الإيراني والفارسية معاً.

في الخلاصة، ما يحدث اليوم هو ابن التاريخ القريب نسبياً، حتى إذا أعلن أصحابه أنهم أبناء الماضي السحيق وينوون استعادته. ولا شك في أن وضع الماضي السحيق في الصدارة يؤدي غاية مطلوبة من أصحابه، ومن بعض خصومهم، إذ يحرف الانتباه عن الحاضر وعن الماضي القريب الذي يبقى خارج الاهتمام والنقاش وكأنه لم يكن. في هذا الماضي القريب ثمة تأثير عميق لإنشاء إسرائيل على عموم المنطقة، ومن المؤسف أن يتوقف الاهتمام والنقد عند أولئك الذين استخدموا ويستخدمون إسرائيل ذريعة لتبرير الاستبداد في بلدانهم ولاحتلال بعضها الآخر، فالذين يفعلون هذا هم على نحو أو آخر من طينة المشروع الإسرائيلي ذاته، وليسوا مجرد طفيليين يتعيشون عليه. لعل ما يحدث اليوم مناسبة للتذكير بأن عصر القوميات الذي دفنته أوروبا مع ملايين الضحايا في الحرب العالمية الثانية لن تُكتب له الحياة طويلاً في المنطقة، وما أخفق فيه “الآريون” وانصرفوا عنه لن يُكتب له النجاح مع العرب أو “العرب الساميين”.

المصدر المدن
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل