جواد توفيق الباروكي، وصفه شيخ العقل حكمت الهجري بـ”شهيد الواجب”، وهتف له المتظاهرون يوم الجمعة بوصفه أيضاً “شهيد الكرامة”، حيث خُصصت مظاهرات الجمعة الأخيرة لتأبين القتيل الذي قضى نحبه يوم الأربعاء في ساحة التظاهر. وكان الفقيد من بين المتظاهرين الذين قصدوا التظاهر أمام مركز “التسويات” في صالة “السابع من نيسان” في مدينة السويداء، وأطلق حرّاس المركز الرصاص الذي أودى بالراحل.
مركز التسويات في تلك الصالة هو على شاكلة مراكز منتشرة على امتداد مناطق سيطرة الأسد، وفيها تتم “المصالحة” بين أشخاص مطلوبين من فرع مخابراتي واحد أو أكثر، لتتوقف هذه الأجهزة عن ملاحقتهم. وإليها أيضاً يذهب المتخلّفون عن أداء الخدمة العسكرية، ليسلّموا أنفسهم أو ليضعوها تحت تصرف شعب التجنيد، ليستفيدوا من إعفائهم من العقوبات جراء تهربهم من الخدمة. أي أن هذه المراكز ترمز إلى أمرين، أولاً: المصالحة مع المخابرات التي تعني في حدها الأدنى الرضوخ للأسد، وقد تتضمن اتفاقاً على تعاون “التائب” معها ضد الذين يرفضون التوبة. وثانياً: ترمز هذه المراكز إلى الاستعداد للقتال في قوات الأسد، وصار من المعلوم أن هذا يقتصر على الاستعداد لقتال سوريين آخرين، ربما يكونون يوماً من أقرب المقرّبين.
جواد الباروكي هو شهيد السويداء الأول، وقد وصفه البعض كذلك، بمعنى أنه شهيد انتفاضتها الحالية المستمرة منذ شهور. هذا يختلف في سياقه عن شهداء آخرين شاركوا في الثورة السورية التي اندلعت في آذار 2011، أمثال خلدون شقير وخلدون زين الدين، وناصر بندق المعتقل الذي كُشف مؤخراً عن وفاته تحت التعذيب. فالرصاص الذي أودى بالباروكي لا يُعرف حتى الآن ما إذا كان موجّهاً إليه من بين متظاهرين اقتربوا من أجهزة المخابرات، أو أنه رصاص مدبَّر استهدف من خلال الراحل انتفاضةَ السويداء.
مظاهرة يوم الجمعة شهدت هتافات حماسية من قبيل: قولي للموت حنّا “بمعنى نحن” أهل المنيّة، بدي نفدي شعبنا ورصاصك ما خوّفنا، جواد الحر دمك غالي علينا… ورغم أن نبرة الاستعداد للموت أو الفداء تُستخدم عادةً كنبرة تحدٍّ مجازية، أكثر مما هي تعبير عن نية مباشرة للقتال، فإن التحدي في المظاهرات الأخيرة بات محمولاً على دم حقيقي لا مجازي. ويمكن القول أنه مقرون بالتعقّل والتهدئة، إذ لا توجد دعوات للتصعيد، وبادر الشيخ حكمت الهجري إلى التأكيد على الخيار السلمي إثر مقتل الباروكي، وكذلك فعل المتحدّثون في ساحات التظاهر خلال اليومين اللذين أعقبا استشهاده.
وربما صار التأكيد على سلمية الحراك أشد إلحاحاً بعد الأحداث التي أعقبت مقتل الباروكي، في ليلة الأربعاء/الخميس، حيث استُهدف مركز التسوية الذي استشهد الباروكي أمامه، واستُهدف العديد من المقار المخابراتية وموقع للفوج 44. لم تعلن أية جهة عن مسؤوليتها عن تلك الهجمات التي لم تخلّف قتلى في جهة السلطة، وقيل أنها منسَّقة بحيث اختبأ عناصر المخابرات قبل حدوثها، أي أنها مدبّرة أيضاً من قبل المخابرات. وهذا بدوره خبرٌ “إذا صحّ” يثير المخاوف، لأنه قد يضمر عزم الأسد على استخدام القوة ضد السويداء بزعم استخدامها أولاً من قبل الأهالي.
لا توجد مؤشرات صريحة على نية الأسد استخدام القوة ضد السويداء، ولا مؤشرات على العكس. ما هو شبه مؤكد أنه أحجم عن استخدام القوة تحت ضغط ما، ربما من أحد حليفيه أو من الاثنين معاً، كي يخالف ما هو معتاد منه في مواجهة أي احتجاج عليه، ويخالفَ تلهفه المتوقع لإثبات أن السويداء غير مستثناة من نهجه الدموي. المتغيِّر الوحيد في جهة الحلفاء هو ما يبدو ارتياحاً روسياً إلى مجريات المعركة في أوكرانيا، بعد فشل الهجوم الأوكراني المضاد ونجاح القوات الروسية من جديد في احتلال بلدة أوكرانية.
ربما يكون من مؤشّرات الارتياح الروسي عودةُ القوات الروسية إلى الانخراط المباشر في سوريا بعد توقف نسبي، ففي موازاة حدث الاغتيال في السويداء كان الطيران الروسي يقصف مناطق في إدلب لأول مرة خلال هذا العام. قبل ذلك، أبرز إعلامُ الأسد خبر تدريبات مشتركة لقواته مع خبراء روس على استخدام الطائرات المسيَّرة، وأيضاً على التصدّي لها، والمقصود حصراً الطائرات المسيَّرة المرسلة من فصائل تقاتل الأسد، وقد تلى ذلك الخبر استخدامٌ مكثّف من قوات الأسد للمسيَّرات في قصف مواقع تلك الفصائل أو مواقع مدنية تحت سيطرتها.
في كل الأحوال، أفضل السيناريوهات هو ألا يكون جواد شهيد الانتفاضة الأول فحسب، وأن يكون الأخير أيضاً. المتظاهرون عموماً يؤدّون قسطهم بالتأكيد على خيارهم السلمي، وقد نقلت الصفحات المواكبة للحراك تصريحات من ساحة الكرامة تؤكد على هذا التوجه. وثمة ناشطون أشاروا على صفحاتهم إلى أنهم لن يكرروا خطأ درعا في عام 2011، وهو بمثابة إعلان عن كونهم استفادوا من تجربة “عسكرة الثورة”، إلا أنه يشي بفهم غير دقيق. فالخيار العسكري آنذاك أتى بعد شهور من استخدام العنف المفرط ضد المتظاهرين، ما يُرجى عدم تكراره في السويداء، لئلا تُستدرج جماعات مسلّحة فيها إلى الرد.
أيضاً، في الفرق بين الأمس واليوم، أتت عسكرة الثورة ضمن ظروف خارجية مغايرة تماماً، من ضمنها سقوط ثلاث أنظمة عربية، واحد منها بالقوة العسكرية. ومن ضمنها أيضاً تشجيع غربي لموجة الربيع العربي، وانقسام إقليمي أتى بدعم للأسد أولاً وللمعارضة لاحقاً. هذه المعطيات ليست نفسها حالياً، وهناك درس لا يقتصر على سوريا وحدها، هو فتح ساحات مواجهة والإبقاء عليها مفتوحة. وقد ظهر في سوريا مبكراً الميل إلى إبقائها بلا حسم، ثم أتى مثال أوكرانيا ليلحق بسوريا لجهة الإبقاء عليها كساحة استنزاف، واليوم ما هو مطروح لغزة شبيه جداً بالحديث عن إقرار هُدَن من دون الوصول إلى وقف شامل ونهائي للحرب، ولا تخفي أوساط الإدارة الأمريكية ربطها انتهاء الحرب بتسوية أوسع تشمل لبنان والتطبيع بين إسرائيل والسعودية.
استطاع متظاهرو السويداء طوال شهور بذل أقصى ما يمكن ضمن ظروف غير مواتية، أو بالأحرى لا تبعث على الأمل. الصمود يعني المحافظة على جذوة الانتفاضة في انتظار ظروف أفضل. في تشييع جواد الباروكي يوم الخميس، حضر شيخ العقل حمود الحنّاوي، وحضر أيضاً شيخ العقل المقرَّب من السلطة يوسف جربوع الذي لا يتوقع وجوده حيث يهتف المشيّعون: قاتل قاتل قاتل.. بشار الأسد قاتل”. لعل حضوره يعني استبعاد السيناريوهات الأسوأ، سواءً أتى محمّلاً برسالة تهدئة للمشيعين، أو أنه أتى ليسجّل بحضوره احتجاجاً على القتل.
عذراً التعليقات مغلقة