بؤس وكبتاغون ومكاتب مقصوفة.. أي دبلوماسية ثقافية تخرج من دمشق؟!

علي سفر24 فبراير 2024آخر تحديث :
علي سفر
الحضور الثقافي المُعارض في تظاهرات مدينة السويداء – المصدر: السويداء24

لطالما كان هاجس الأنظمة الدموية، أثناء أو بعد جولات القمع والقتل التي تخوضها ضد شعوبها، أو ضد الآخرين، أو ضد الاثنين معاً، هو أن تُظهر صورتها بطريقة جيدة أمام المجتمع الدولي.


ولهذا، لجأت حكوماتها إلى “الدبلوماسية الثقافية”، كأسلوب عمل يمكنها من التواصل مع مجتمعات الدول الأخرى، بغية اختراق سور السمعة السيئة، وجعل الآخرين ينظرون إلى الجانب “المضيء” من سياساتها، لعل هذا يساهم في تقليل أضرار تلحق بمصالحها، بعدما وصلت إلى العالم كله أخبار وصور مسربة عن أفعالها الشنيعة، تجعل التعامل معها، وفق معايير المؤسسات الحقوقية الدولية، أشبه بتهمة، لا يُفضل أحد أن توجه إليه، وحتى أن يُشتبه فيه في مجالها!

إسرائيل، ورغم أنها مثال فاقع على التباين بين صورتها العامة وواقع حال تعاطيها مع الآخرين المحيطين بها، نجحت دائماً في استغلال هذا الأسلوب في تظهير صورة مختلفة عن كينونتها. فهي لم ترسل لصالات السينما الغربية أفلاماً عن بطولات جيشها فحسب، بل استغلت، وبخبث منقطع النظير، أفلاماً تتضمن وجهات نظر تنتقد الصهيونية، وأضافتها إلى أعمال أدبية وفنية أخرى، جاعلة منها جزءاً من حمولة “ديموقراطية” تُشهرها عن نفسها.

على الضفة ذاتها، يمكن النظر إلى تَظَلّم المافيا البوتينية الحاكمة في الاتحاد الروسي، أمام المجتمعات الغربية، بعدما تم حظر التعاطي معها، حتى على المستوى الثقافي. فهي نظام لم يوفر من قمعه أي معارض لسياسته الداخلية، كما أن دمويته شملت الآخرين من غير مواطنيه، إذ ما زال، منذ عقد، يحاول الاستيلاء بكل الأساليب المتاحة على أراضي أوكرانيا وغيرها، لكنه يعرف أهمية تقاليد ورثها من النظام السوفياتي البائد، وتتركز على جعل الثقافة وسيلة لتعبيد الطرق إلى العقول والنفوس، بحيث يصبح من المعتاد أن تذهب فرقة مسرح البولشوي إلى مسارح العواصم الكبرى، وأن تُعاد طباعة المؤلفات الكلاسيكية في الأدب الروسي وحدها دون غيرها، بلُغات العالم.

ومع ملاحظة أن القائمين على الثقافة في “ميكانزمات” النظام في الكرملين، لا يسمحون لنتاج المعارضين الثقافي أن يظهر، أو أن يصدرَ عن المؤسسات التي يهيمنون عليها، يُدرك المتابع أن هذا النمط السلوكي هو ما يكشف الطبيعة الفاسدة للدبلوماسية الثقافية المتبعة هنا. ويساهم في تعزيز هذه القناعة، وجودُ معارضين تحرروا من سلطة القمع، عبر اللجوء إلى الغرب، يؤدون واجبهم في مواجهة بروباغندا فلاديمير بوتين.

الأمر في الحالة الإيرانية يشبه الحالة الروسية، مع ملاحظة أن المنتج الثقافي الرسمي الذي تُصدّره طهران غير مقبول حتى في المعايير الثقافية، لا سيما لجهة تعبيره عن توجه ديني محدد، مما يجعله أشبه بالنشاط الدعوي في سبيل نشر التشيّع! وطبعاً لا يمكن اعتبار الأفلام السينمائية الإيرانية، رغم كثافتها وحضورها في أهم المهرجانات الدولية، معبرة عن أفكار الملالي، إذ كانت الهوة، وما زالت، واسعة، بين رؤى صُناعها، والتوجه السياسي للنظام، الأمر الذي يقودهم في كثير من الأحيان إلى زنازين السجون!

(صورة سوريا في الخارج)

النظام السوري بدوره، كان مهجوساً طيلة عقود سابقة بتظهير صورة مختلفة عن طبيعته، وقد نجح سابقاً في عهد الأسد الأب، في الإضاءة على تفاصيل من الثقافة المحلية، عبر عمل بعض موظفي وزارة الثقافة المحترفين، ممن كانوا يتعاونون مع آخرين يقيمون في أوروبا. فافتُتحت مراكز ثقافية هنا وهناك، وأقيمت أسابيع ثقافية، وإن لم تستطع، في فترة الثمانينات من القرن الماضي، تنظيف سجله الأسود لجهة قمع المعارضين السلميين، وإيداعهم السجون من دون محاكمات لسنوات طويلة، أو قيامه بارتكاب مجازر شنيعة ضد السوريين في حماه وحلب وجسر الشغور.

وفي عهد الأسد الابن، لا سيما خلال سنوات الثورة التي قابلها بالقمع والقتل والتدمير للحواضر الخارجة عليه، صار الحديث عن نتاج ثقافي يمكن للنظام إرساله للعرض أمام الآخرين، أشبه بطرفة سمجة، خصوصاً أن غالبية ما أنتجته مؤسساته كان مكرساً لنشر سرديته المضللة عما جرى.

المعهد الدبلوماسي في وزارة الخارجية والمغتربين التابعة للنظام السوري، والذي يديره الدبلوماسي د.عماد مصطفى، حاول استنهاض مفهوم الدبلوماسية الثقافية في ندوة استضاف فيها وزيرة الثقافة لبانة مشوح، غير أن ما خرج به المتدربون وكذلك الضيوف لم يكن مقنعاً، ولا يتناسب حتى مع ما يدرسونه علمياً. فبالنسبة لمشوح، كل ما تمتلكه وزارتها من مشاريع أو توجهات لا يتعدى “الإضاءة على المواقع والفعاليات الثقافية كالمتاحف التاريخية والتراثية الشعبية والقصور والبيوت التراثية والخانات والمواقع الأثرية والقلاع ودور العبادة ودار الأسد للثقافة والفنون (الأوبرا) ومكتبة الأسد الوطنية”!

(مشوح ومصطفى في المعهد الدبلوماسي)

فكلُ ما ذُكر هنا لا يمكن اعتباره منتجاً قابلاً للتسويق، إلا إن حضر الزوار إلى البلد. وفي ظل الوضع الراهن، ومع غياب التسويق، أو بالأحرى فشل جهود دبلوماسية القصر الجمهوري في استقطاب مؤثرين آخرين بعد مَن جاؤوا في العامين 2021 و2022، ليسرحوا ويمرحوا في مناطق سيطرة النظام والمليشيات الطائفية، وبعدما أمسى الحال أشد بؤساً، تتناقص المغريات حتى الانعدام التام. فهنا، حيث يريد الكل المغادرة، أي سياحة يمكن أن يسعى المرء من أجلها!؟

علي سفر – كاتب وأديب وإعلامي سوري

غير أن الوزيرة، وهي تحيل مسؤولية الدبلوماسية الثقافية إلى وزارة الخارجية، لا تنسى أن تشير إلى أن إقامة الأنشطة الثقافية في الخارج، والتي لا بد أن تتركز على “عرض الأضرار الكبيرة التي ألحقها الإرهاب بتراثنا المادي، والتوعية بإجراءات ملاحقة الآثار المسروقة والمهربة ووقف الإتجار بها وبيعها بالمزادات”.

ويبقى السؤال الذي لا يستطيع أي موظف لدى النظام الإجابة عليه: كيف يمكن لهكذا دبلوماسية أن تنجح، بينما تزدحم في العيون مشاهد الفاقة والجوع، وأكوام شحنات الكبتاغون المكتشفة في المنافذ الحدودية، وصور مقرات ومكاتب قادة الحرس الثوري الإيراني المقصوفة من طيران الكيان الصهيوني؟!

المصدر المدن
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل