تمضي انتفاضة السويداء في أسبوعها الرابع بلا وعود لمن يستعجل قطف ثمارها، بل إن التفاؤل بانضمام مدن ومناطق أخرى إلى الانتفاضة تراجع، وثبتَ حتى الآن أن المعاناة نفسها ليس محتّماً أن تنجم عنها ردود أفعال متشابهة؛ ليس في التوقيت ذاته على الأقل، وهذا ما يجدر الانتباه إليه. إلا أننا سنغامر بالقول أن ما قبل انتفاضة السويداء ليس كما بعدها، وهو قول خارج ما يوصف “أو يوصم أحياناً” بالتفاؤل، ولا يتوقف عند مآل الانتفاضة الحالية الذي يصعب الجزم به أو حتى بمساره.
بالمقارنة مع ثورة 2011، استعجل متظاهرو السويداء المطالبةَ بإسقاط بشار الأسد، وسرعان ما نالت صور وتماثيل أبيه نصيباً وافراً من التمزيق والتحطيم والإهانة. في عام 2011 كان ردّ فعل بشار، المستهتر بالمتظاهرين ودمائهم التي أراقها شبيحته، دافعاً حاسماً للمطالبة بإسقاطه، فضلاً عن عدوى ووعود “الربيع العربي” آنذاك. جذرية متظاهري السويداء مصدرها اليأس من الأسد، واليأس من إصلاحه، مع التنويه بأن نسبة من اليائسين اليوم كانت إلى الأمس غير البعيد من الموالين أو الآملين بإصلاح ما، وهذا ليس حال السويداء وحدها.
ولا نغامر كثيراً بالقول أن هذه الانتفاضة من ضمن تحوّل أكبر يصبح فيه الانقسام بين موالي الأسد والثائرين عليه من الماضي، لأن التطورات تحت سيطرة الأسد أفضت إلى تآكل قاعدة مؤيّديه. اليوم هناك قناعة على نطاق واسع، مفادها استعداد معظم السوريين للنزول إلى الساحات والمطالبة بإسقاط الأسد لولا الخوف من شبيحته، وهي قناعة لم تعد تستثني مناطق وفئات جرت العادة على احتسابهما ضمن الحلقة الصلبة للموالاة، كمثال بعض مناطق الساحل حيث لم تعد شتيمة الأسد من المحرّمات، بعدما كانت الشتائم تطاول الحكومة فقط. التدهور الفظيع في الأحوال المعيشية سبب من أسباب اليأس، لا يفسّر وحده ما حدث “والذي من المحتمل جداً تفاقمه” ما لم يقترن باليأس المطلق من حكم الأسد بعد اختباره حرباً وسلماً.
قبل شهور قليلة كان التطبيع العربي مع الأسد يتصدر الأخبار، ويُنظر إليه كمقدّمة يليها تطبيع غربي. بالمختصر، كان انتصار الأسد هو الخبر السائد، ولم تكن الانتفاضة ضده متوقَّعة. هذه بمثابة ضربة قاضية لكافة جهود إعادة تدويره، حتى إذا تجاهلها العالم كله. فما قالته السويداء هو أن اليأس من الأسد والثورة عليه كامنان، وقد تنفجر الثورة في أية لحظة ومن أي مكان.
لا يغيّر في الخلاصة السابقة أن يتمكن الأسد من إنهاء الانتفاضة الحالية، أو أن تنتهي لأسباب ذاتية. العبرة هي في اندلاعها وأسبابها، والقوى التي فشلت في إعادة تأهيل الأسد هي في طليعة مَن ينبغي عليه التفكير في فحوى الرسالة. ومما ينبغي التفكير فيه أن انتفاضة أخرى مقبلة قد لا تكون محدودة جغرافياً، وقد تسبب فوضى شاملة في المخابرات والجيش اللذين باهى الأسد بإحكامه السيطرة عليهما، وتساءل أصدقاء المعارضة قبل أصدقائه عن الجهة القادرة على منع الفوضى فيهما في حال أُقصي عن الحكم.
يدرك شبيحة الأسد خطورة انتفاضة السويداء، من هذه الناحية تحديداً، لذا بادروا في اللحظات الأولى إلى نفي صفة الجذرية عنها، ووصفها بالاحتجاج المطلبي الفئوي، من أجل عزلها وعزل تأثيرها عن بقية السوريين. وما أن ظهرت جذرية الانتفاضة حتى راح الشبيحة يستعيدون اتهامات وأجواء 2011، بهدف استعادة الانقسام القديم، وشدّ عصب الموالاة الذي تهتك عموماً.
تقول الانتفاضة أن مآل حكم الأسد هو السقوط، لأن لجشع السلطة قعراً لا بد أن تصطدم به في وقت ما، والسنوات الأخيرة كشفت عن وجه السلطة على نحو يطرد من حولها حتى بعض حلقات الذين كانوا غيورين عليها. حدث ذلك تحديداً منذ انتهاء الخطر العسكري، ثم ظهور النتائج المخيّبة للوصايتين الإيرانية والروسية. في هذه السنوات برز وجه السلطة المطلقة كما لم يظهر من قبل، وبرز تحديداً ذلك الجشع غير المحدود إلى السيطرة على كافة الموارد الاقتصادية، وتكاثرت التحقيقات والتقارير عن سيطرة العائلة على أوجه من النشاط كانت تُترك عادة لصغار التجار أو الصناعيين، مع فرض أتاوات تسببت في هجرة هذه الشريحة، لتُضاف إلى هجرة الأكبر منهم من قبل.
لقد انفضّت منذ سنوات الشراكة التي استثمر فيها الأسد عام 2011، وكان حينذاك قد لعب على المسألة الطائفية، وعلى الصلات بالرأسمال المديني في دمشق وحلب، حسب سردية شائعة. وحتى الحلقة الأوسع من صغار قواته وشبيحته أصبحت خارج الشراكة مع توقف المعارك، وقبلها مع تسلّم الإيراني ثم الروسي زمام بعض المعارك، فهذه الشراكة كانت قائمة بشكل رئيسي على تمويل هؤلاء لأنفسهم من النهب “أو ما يسمّونه التعفيش”.
طالب بعض متظاهري السويداء الأسدَ، على سبيل السخرية، بأن يخرج بتصريح جديد كي يكتسب مزيداً من الأعداء. وكان نشطاء في عام 2011، على سبيل السخرية أيضاً، قد أنشأوا صفحة تحتفي بابن خالته “ضابط المخابرات عاطف نجيب” الذي تسبب بثورة أهل درعا. لعل الشبه بين الأمس واليوم يشرح اليأس من تغيير طبيعة السلطة، فلا ينقصه سوى التذكير بما دأبت عليه من القول أنها لا تتغير وعلى الآخرين أن يتغيروا ويرضخوا لشروطها.
ربما ينقص أن ندرأ عن العرض السابق شبهة التفاؤل بخاتمة سريعة، فجانب من المشكلة هو أن حكم الأسد جاهز للسقوط، ولو بموجب سيناريو لا يلبي طموحات السوريين، بينما الخارج غير جاهز لهذا. الاشتباك الروسي الغربي في أوكرانيا لا يعمل لصالح هكذا تسوية، ولا المفاوضات بين واشنطن وطهران البعيدتين عن صفقة نهائية كبرى. ذلك يصعّب من مهمة أية انتفاضة، سواء الحالية أو المقبلة، إذ يتوجب عليها “فوق مواجهة الأسد” دفعَ الخارج إلى قبول التغيير تجنّباً لما هو أسوأ.
نؤكّد على أن هذا لا يندرج إطلاقاً ضمن التفاؤل الذي أضحى قصياً جداً عن السوريين، ليكون اليأس هو محركّهم الاضطراري. لكن من قلب اليأس توجّه السويداء رسالة مغايرة إلى سدنته، إلى أولئك الذين يرون اليأس دليل نضج، ويرون الاستسلام المطلق له دليلَ حصافة؛ أولئك الذين استخلصوا حكمة الماضي والحاضر والمستقبل. في أسبوعها الرابع تقول انتفاضة السويداء لهم ولنا أن اليأس سهل ومريح، وأن معظم السوريين يفقدون ترف التنعّم به، وهم مضطرون إلى مكابدة القليل من الأمل، رغم أنهم ليسوا سذّجاً ويدركون أن الأمل قاسٍ جداً.
Sorry Comments are closed