التقيت في خريف عام 2011، وكانت الثورة ما زالت في بداياتها السلمية، بمعارض سوري قدير من منطقة الساحل كنت على معرفة سابقة به أيام كنا في الوطن؛ وكان ذلك في إطار ملتقى عام ضم مجموعة كبيرة من المعارضين السوريين من مختلف التوجهات والانتماءات. بعد انتهاء اللقاء العام، جلسنا بمفردنا، وكان سؤالي المباشر له هو التالي: كيف هي الأوضاع ضمن الطائفة، وما هو تقديرك للموقف؟
أجابني من موقع الخبير المطلع: أسافر إلى المنطقة من حين إلى آخر، وألتقي مع الناس من مختلف الشرائح. بالنسبة إلى الواعين المطلعين على الوضع بتفصيلاته، والمتابعين لمختلف التطورات والمتغيرات ليسوا راضين عما يجري، ولا يسعدهم أن تصبح الطائفة في مواجهة السوريين، ومواجهة العرب السنّة تحديداً. ولكن المشكلة تكمن في أنصاف المتعلمين والناس العاديين الذين لا يتواصلون كما ينبغي مع محيطهم السوري. فهؤلاء قد أقنعهم بشار الأسد، وقبله والده حافظ الأسد، بأن المجازر سترتكب ضدهم لو أبعد آل الأسد عن الحكم. وتقديري هو أن هؤلاء سيقاتلون إلى جانب السلطة حتى الرمق الأخير. لذلك لا بد من تركيز الجهود عليهم ليستوعبوا حقيقة الوضع، ويفهموا أنهم يُستخدمون أداة لتحقيق المكاسب لآل الأسد، هذا رغم الصعوبة الكبيرة التي ستواجه من سيعمل على هذا الموضوع.
وبمناسبة العودة إلى بدايات الثورة، لا بد من الاعتراف هنا بأن المجلس الوطني السوري كان يمتلك تأييداً واسعاً على المستويين الشعبي والدولي، ويمتلك أوراقاً قوية للتواصل مع الداخل؛ ولكنه لم يقم بواجبه كما ينبغي في ميدان مد الجسور مع العلويين، وطمأنتهم عبر إزالة الهواجس بعقود مكتوبة، وبخطوات تعزز الثقة؛ وإنما اكتفى بواجهات علوية ظل تمثيلها في عداد الرتوش التزيينية التي لم تؤد وظيفتها المطلوبة على صعيد إقناع العلويين بضرورة الوقوف إلى جانب الثورة في مواجهة السلطة المستبدة الفاسدة التي كانت وما زالت تمثل مصالح المستفيدين منها، من مختلف المكونات السورية، وهي سلطة تتخذ من العلويين خزاناً بشرياً لتأمين المقاتلين المدافعين عنها.
والشيء بالشيء يذكر كما يقال، وأشير هنا إلى لقاء تم بين وفد من المجلس الوطني السوري برئاسة الأخ جورج صبرة في عام 2013 إن لم تخني الذاكرة، ووفد روسي برئاسة نائب وزير الخارجية الروسي مبعوث الرئيس الروسي للشرق الأوسط، ميخائيل بوغدانوف في باريس. وكان لقاء مطولاً، تناول جملة من الموضوعات والتصورات والاحتمالات. وبوغدانوف بالمناسبة هو صاحب خبرة وتجربة، ولديه اطلاع واسع على أوضاع العالمين العربي والإسلامي، وهو شخص هادئ متواضع، تناقشت معه حول سوريا في مناسبات عدة، ودائماً كان انطباعي عنه أنه من أفضل المسؤولين الروس دبلوماسية.
كان الأخ جورج يدافع بحكمة وعقلانية عن قضية شعبه خلال اللقاء، وتمنى على بوغدانوف أن تسعى روسيا بما يتناسب مع وزنها ودورها، وعلاقاتها القديمة المتشعبة مع السوريين وسوريا من أجل الوصول إلى حل مقبول يحترم تضحيات وتطلعات السوريين. ولكن بوغدانوف، وعلى طريقة الدبلوماسيين المخضرمين، كان يلف ويدور حول الموضوع، ومن دون أن يقدّم أي جواب أو وعد ملموس. واستمر النقاش من دون جدوى؛ وكان من الواضح أن الاجتماع سينتهي، ولن تكون هناك نتيجة ملموسة؛ فقررت أن أطرح على المسؤول الروسي أسئلة محددة، على أمل الحصول على أجابات واضحة لتكون بمثابة توثيق للمستقبل.
قلت له: هل تسمح لي أن أطرح عليك ثلاثة أسئلة، أرجو أن تكون أجوبتها صريحة واضحة تعبر عن قناعاتك. فابتسم الرجل وأجابني: تفضّل.
وكان سؤالي الأول: هل لديكم مشروع لتقسيم سوريا؟ أو هل أنتم على استعداد للموافقة على مثل هذا المشروع؟ فكان جوابه هو النفي.
فانتقلت إلى السؤال الثاني: هل تعتقد أن بشار الأسد يستطيع أن يحكم سوريا كلها من جديد؟ وكان جوابه هو النفي.
وكان السؤال الثالث: هل تودون أن يتعرض العلويون للمجازر مستقبلاً؟ فكان جوابه: بالتأكيد لا.
قلت له، ولكن سياستكم الراهنة تتعارض مع كل الإجابات التي تفضلت بها، لذلك لا بد من إيجاد حل. المشكلة تكمن في بشار الأسد، وليس في العلويين. ولكن يبدو أن الرجل لم يكن يمتلك صلاحية تخوّله تقديم تصور للحل؛ أو أنه كان مقتنعاً بسياسة بلاده، فهو في نهاية المطاف موظف ضمن الإدارة الحاكمة.
واستمرت المعاناة السورية نتيجة الوحشية التي تعاملت بها سلطة آل الأسد مع المتظاهرين والمعتصمين السوريين المدنيين من الشباب خاصة، واستخدمت السلطة المعنية كل أنواع الأسلحة؛ وفتحت أبواب سوريا ومدنها العريقة، لا سيما دمشق، أمام الحرس الثوري الإيراني، وأذرعه من الميليشيات المذهبية المتعددة الجنسيات.
وبعد أن أدرك كل من التابع والمتبوع أنه ليس في مقدورهما السيطرة على الأوضاع، استنجدا ببوتين الذي كان يدعم أصلاً بشار الأسد بالذخائر، ويغطيه سياسيا في مجلس الأمن. وكل ذلك لم يكن من دون مقابل، بل كان لقاء توقيع عقود طويلة الأجل مع الروس والإيرانيين، ليتمكنوا بموجبها من الاحتفاظ بقواعد دائمة لهم في سوريا ووضع اليد على المرافق الاقتصادية الحيوية، والثروات الطبيعية والعقارات السورية؛ وهذا فحواه التحكم بالسيادة السورية مقابل بقاء بشار الأسد في واجهة السلطة ليشرعن وجودهم في سوريا.
واللافت في الأمر، هو أنه في خضم عمليات قتل السوريين وتهجيرهم وتدمير بلادهم من قبل الإيرانيين وأذرعهم، والروس، وسلطة آل الأسد؛ كان، وما زال، الحديث عن مشاريع إعادة الإعمار في سوريا التي هي في حقيقة الأمر مشاريع تبادل المصالح بين المافيات المحلية، شريكة السلطة، والمافيات الإقليمية وحتى الدولية؛ فهكذا مشاريع لا تكون عادة إلا بعد الوصول إلى حل سياسي وإنجاز المصالحات الوطنية الحقيقية، لا التسويات الأمنية التي كانت.
بشار الأسد لا يمتلك اليوم مشروعاً للحل ليكون أساسا للبحث والنقاش. وهو الذي أحرق مراكبه مع الشعب السوري منذ العام الأول للثورة حين أعطى الأوامر بقصف المدنيين بجميع أنواع الأسلحة، وارتكبت أجهزته المجازر في البيضا والحولة والغوطة وخان شيخون…الخ. ومع الوقت، وبعد أن تيقّن تماماً من أن غالبية السوريين بكل مكوناتهم لا تريده، وليس مجرد « 100 ألف ونيّف»، كما صرّح في مقابلته الأخيرة؛ عبّر عن كل حقده على السوريين، وهذا مأ أفصح عنه صراحة في المقابلة عينها، حينما أكد أنه لو عادت به الأيام إلى بدايات الثورة (وهي تُسمى في قاموسه المؤامرة) لتصرّف كما فعل حينئذ من جديد.
وهذا فحواه أن كل الجهود العربية التي بذلت من أجل تسويقه وتعويمه قد اصطدمت بالجدار الحجري. فالرجل مصر على البقاء في الحضن الإيراني-الروسي، لأنه يعرف كيف يختار حلفاءه، وذلك وفق ما صرّح به في مقابلته المذكورة.
وهو من جهة أخرى مواظب على استخدام الكبتاغون، السلاح الكنز الذي يهدّد به دول الجوار، وحتى دول العالم، ويحقق المكاسب المادية لنفسه، ولحاشيته المافياوية؛ ويطالب في الوقت ذاته بمبالغ خيالية من الدول العربية، ليسمح للسوريين المهجرين بالعودة، وهو الذي هجّرهم بعد أن دمّر مدنهم وبلداتهم وقراهم ومنازلهم.
وما يستشف من المواقف والمعطيات راهنا، هو أن بشّار، وبعد أن أدرك عدم إمكانية تلبية مطالبه التي تشبه إلى حد كبير مطالب زعيم عصابة أو مجموعة من القراصنة؛ لجأ إلى سلاح تجويع السوريين، ومحاولة اذلالهم، عبر رفع الدعم عن السلع الأساسية بذريعة أكذوبة زيادة الرواتب.
وباعتباره منفصلا عن الواقع يعيش مع عقده في عالمه الخاص، اعتقد بشار بأنه قد قضى، بعد 12 عاماً من القتل والتدمير والتهجير، على إرادة التحدي والاعتزاز بالكرامة والحرية عند السوريين؛ ولكن أتته الصرخة المدوية المطالبة بضرورة احترام كرامة السوريين من السويداء وحوران، ووصلت الأصداء إلى منطقة الساحل، وتفاعلت معها المدن والبلدات السورية رغم جراحها العميقة.
القسم الأعظم من السوريين، من المهاجرين والمقيمين، يريدون رحيل بشار. فالمهاجرون لا يريدون العودة ما دام في السلطة (ونحن هنا لا نتحدث عن مليون أو مليونين، بل عن نحو 14 مليونا)؛ بينما يتمنى معظم الباقين في مدنهم وبلداتهم وقُراهم رحيله. والمسألة هنا لم تعد مجرد تخمينات، بل تبدو واضحة جلية في الاعتصامات والفعاليات التي شهدناها، وتشهدها اليوم مختلف المدن والبلدات السورية، وفي المقدمة منها السويداء التي كان بشار يتوهّم بأن أجهزته قد تمكنت من كسر إرادة التحدي فيها، وجعلت سكانها كتلة هلامية طيّعة الانقياد. وبغية التغطية على ما يجري في السويداء لجأت، وستلجأ السلطة الأسدية ورعاتها إلى تحريك أدواتها في محاولة لوأد الأمل عند السوريين. وما يحدث راهناً في دير الزور، وما قد يحدث في مناطق أخرى، إنما هو تجسيد للسيناريو المعروف.
إن أفضل دعم تقدمه الدول العربية للسوريين هو أن تستخدم دبلوماسيتها وأدوات ضغطها بهدف دفع بشار الأسد نحو الرحيل. ليتفرغ السوريون آنئذٍ لبناء بلدهم، وتأمين مقومات العيش الكريم لأنفسهم وأجيالهم المقبلة. وسوريا بالمناسبة تمتلك الإمكانيات الكافية في هذا المجال، فهي تمتلك الثروات والموارد الطبيعية والبشرية المطلوبة، وتستطيع في ظل إدارة حكيمة رشيدة غير فاسدة أن تستعيد عافيتها في فترة قياسية، وتساهم في تحقيق الأمن والاستقرار الإقليميين؛ وتكون ميداناً للتواصل والحوار وتبادل المصالح بين سائر دول المنطقة وشعوبها من دون أي استثناء، ومن دون أي تهديد أو تدخّل.
هل نتعلّم من أخطائنا في مواجهة السلطة الأسدية ورعاتها؟
Source
القدس العربي
Sorry Comments are closed