أصابت واشنطن مجموعة من الأهداف بإعلانها قبل ثلاثة أيام أنها نشرت سرباً من طائرات الشبح إف22 رابتور في الشرق الأوسط، وأن تلك الطائرات ستندمج في مهام قواتها الجوية والأرضية ضمن التحالف الدولي ضد داعش، أي في منطقة شرق الفرات في سوريا. الهدف الأول المعلن لتعزيز القوات الأمريكية هو تحليق الطائرات الروسية “على نحو غير احترافي” في القرب من الطائرات الأمريكية، وكانت القيادة المركزية الأمريكية قد نشرت قبل شهرين “على سبيل المثال” تسجيلين يُظهران اقتراب طائرتَي سوخوي إلى مسافة تُعدّ غير آمنة جداً من طائرات أمريكية في السماء السورية، وبما اعتبرته خرقاً للتفاهمات العسكرية المبرمة بين الجانبين منذ عام 2015.
هناك ملاحظتان متصلتان بالشكوى الأمريكية من “الرعونة” الروسية؛ الأولى أن الشكوى قديمة ولم يستجد “في سوريا تحديداً” ما يجعل التصدي لها ملحّاً، والثانية منهما أن الطائرات الروسية لم تقترب “ولا يُتوقع ذلك” من نظيراتها الأمريكية على نحو ينذر بالتصادم أو الاشتباك. ينزع هذا عن الإجراء الأمريكي صفة الضرورة أو الاستعجال، ويجعل موسكو مستهدَفة به أسوة بلاعبين آخرين في الساحة السورية، سواء كانوا من الخصوم أو الأصدقاء.
سيكون من المغالاة بلا شك إذا ربطنا بين نشر طائرات الشبح وزيارة ولي العهد السعودي باريس، أما خارج الربط المباشر فلن يكون مستبعداً وصول الرسالة الأمريكية إلى ساكن الإليزيه وضيفه السعودي. فالثاني منهما كما صار معروفاً ومتداولاً يقود قاطرة التطبيع مع الأسد، ولم يقتصر مسعاه على إعادته إلى الجامعة العربية بل ثمة تسريبات أمريكية عن “سعي عربي” تجاه أوروبا كي تساهم في إعادة تدوير الأسد، وربما أتت الاستجابة المحدودة باستئناف الرحلات الجوية بين دمشق وبعض المطارات الأوروبية. ومن المعلوم أن باريس لعبت مراراً دور عرابة التطبيع بين الغرب والأسد، ومن شبه المؤكد أن ملف الأسد حاضر بقوة في المباحثات بين ماكرون وضيفه رفقةَ الملف اللبناني ومنفصلاً عنه، مثلما من شبه المؤكد أن ما يرمي إليه شبحُ الطائرات الأمريكية لن يكون بعيداً عن المداولات.
بالتزامن مع الخبر الأمريكي أتى الإعلان الروسي، بتأكيدٍ من بوغدانوف نائب وزير الخارجية، عن أن مسودة خريطة التطبيع بين أنقرة والأسد صارت جاهزة، وأن نواب وزراء “المسار الرباعي” سيجتمعون في 21 الشهر الجاري على هامش مفاوضات أستانة. أيضاَ سيكون من المغالاة الربط بين الخبرين على نحو مباشر، إلا أن تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في سوريا لا بدّ أن يكون مزعجاً لثلاثي أستانة+الأسد، ومن بين هذه الأطراف دأب أردوغان على انتقاد الوجود الأمريكي بذريعة حماية “الإرهاب الكردي”. الأهم في هذا السياق أن تعزيز الوجود الأمريكي شرق الفرات يضع حدوداً للتطبيع بين أنقرة والأسد، من حيث أن الأخير غير قادر على التعهد بضبط الورقة الكردية مقابل انسحاب تركي من سوريا، والتقدّم الملموس في ملف إعادة اللاجئين لن يكون متاحاً من دون اتفاق في الجانب الأمني.
ومع أن الأخبار، القادمة من عُمان خاصة، تشير إلى إنجاز تفاهم غير مكتوب بين واشنطن وطهران، يتضمن كبح النشاط النووي الإيراني مقابل الإفراج عن مليارات الدولارات المجمدة في مصارف أسيوية، إلا أن الانفراج بين الجانبين لا تظهر آثار له في الساحة السورية على غرار ما كان الحال عليه أيامَ استضافت مسقط المفاوضات السرية في عهد أوباما. تشير الأخبار ذاتها إلى تحفّظ إسرائيلي على التفاهم مع إيران، ومن المحتمل جداً أن تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في سوريا يلحظ المخاوف والتحفظات الإسرائيلية، فيُطمئن تل أبيب إلى أن طهران لن تحظى بمكافأة سوريّة وأن القوات الأمريكية ستحول دون انفراد الميليشيات الإيرانية بالمنطقة. جدير بالذكر أن تهديدات الميليشيات بهجمات على القواعد الأمريكية شرق الفرات كانت هي الأبرز في الشهور الماضية، ومن غير المستبعد “حتى بمعزل عن طمأنة تل أبيب” أن يكون تعزيز القوات الأمريكية رداً على تلك التهديدات.
تصلح، فقط كمفارقة لا تتعدى الهزل الخفيف، الإشارة إلى أن واشنطن ترسل طائرات الشبح إلى سوريا، بينما الأسد يُرسل إلى جيرانه طائرات مسيَّرة محمَّلة بالكبتاغون، حيث أعلن الجيش الأردني قبل أيام عن إسقاط إحداهن. استطراداً، لا بأس بالإشادة بذكاء عصابة الكبتاغون التي استخدمت المسيَّرات لأغراض غير قتالية كما هو الحال في الساحة الأوكرانية؛ العصابة التي تؤكّد بمختلف السبل على استحالة تغيير نهجها تجاه المطبِّعين معها. وتجوز الشماتة في هذا المقام، حيث ينكشف التطبيع المأمول ويظهر هزيلاً وهزلياً جداً بين مسيّرات الكبتاغون وطائرات الشبح الأمريكية.
عن حدود التطبيع وفرملته بإشارات أمريكية، أشار نوّاب وكتّاب أمريكيون مؤخراً بلهجة لا تخلو من التقريع، ولا تخلو أحياناً من الوعيد والتشفّي، إلى سعي حكام عرب لتطبيع أوروبي مع الأسد، مع القول أن مصيره الفشل. الأصوات نفسها ذكّرت أولئك الحكام بفشلهم في وقف تدفق الكبتاغون، والحديث هنا عن أصوات غير بعيدة عن دوائر صنع القرار في واشنطن، ولا نستبعد أنها تسدّ فراغ الصمت والغموض الرسميين.
ولعل الأقرب إلى تأويل صمت المسؤوليين في إدارة بايدن هو ما يمكن ترجمته بالقول: لكم الكبتاغون ولي شرق الفرات. فالإدارة التي تساهلت في ملف العقوبات الاقتصادية على الأسد، عطفاً على آثار الزلزال، مستمرةٌ حتى إشعار آخر في إبداء التساهل، لكنها إذ تعزز وجودها العسكري في شرق الفرات تنذر الآخرين بحدود التحرك الممنوحة لهم، خاصة مع محاولات البعض منهم اللعب على الحبال الصينية والروسية واستمالة الأوروبيين. بعبارة أخرى، تقيم إدارة بايدن توازناً بين تساهلها الاقتصادي وتشددها ميدانياً بإرسال طائرات من الجيل الأكثر تطوراً، ولا يُعرف مصير التساهل حتى تنتهي بعد شهرين إعفاءاتُ الشهور الستة المتعلقة بالزلزال.
لن تنتشر طائرات الشبح في المنطقة لأهداف قتالية، والإعلان عنها يستهدف في المستوى المباشر ردعَ الطائرات الروسية عن استعراضات القوة الفائضة عن حجمها الحقيقي، أما في المستوى السياسي فهذه أقوى رسالة عن نية واشنطن البقاء في شرق الفرات إلى أجل غير مسمّى. كان البيان المشترك لوزراء “التحالف الدولي لهزيمة داعش”، الذي صدر في الثامن من الشهر الجاري عن اجتماع الرياض، قد ربط ضمناً بين بقاء “قوات التحالف” في سوريا والتسوية النهائية تماشياً مع قرار مجلس الأمن 2254؛ طائرات الشبح القادمة تنبئ بجدية واشنطن، بخلاف شركاء في التحالف لا يُستبعد أنهم وقعوا وهم يقولون لأنفسهم: إنه مجرد بيان لا أكثر.
Sorry Comments are closed