أقوى الإشارات عن احتمال عودة قريبة للنظام السوري جاءت من السعودية، التي أعلنت في 23 مارس/ آذار الماضي عن مباحثات بين وزارتي خارجيتي البلدين، من أجل استئناف العمل القنصلي. ونقلت بعض وكالات الأنباء عن مصادر مطلعة، توصلهما إلى اتفاق يقضي بفتح سفارتيهما بعد أكثر من عقد من الزمن على إغلاقها، بسبب الموقف السعودي من التطورات في سورية.
يمثّل الاتفاق خطوة أولى على طريق عودة النظام إلى محيطه العربي، ويجري ربط هذه المسألة بتطورين مهمين، الأول هو الاتفاق السعودي الإيراني، الذي مهّد الطريق أمام النظام ليذهب نحو الرياض، ويجد استقبالاً من قبل السعودية. وجرياً على فلسفة اتفاق الرياض وطهران في بكين في 10 مارس الماضي، زار مدير المخابرات العامة في النظام السوري حسام لوقا العاصمة السعودية، وأجرى مباحثات أسفرت عن اتفاق على إعادة العلاقات، وفق تسريبات صحافية.
التطور الثاني المرتقب هو احتمال دعوة رئيس النظام السوري بشار الأسد لحضور القمة العربية المقبلة المقررة في الرياض في 19 مايو/ أيار المقبل. وحسب مصادر متعددة، فإن هذه المسألة باتت شبه محسومة من طرف السعودية، على الرغم من أنها لا تحظى بالإجماع التام داخل الجامعة، وعبّر عن ذلك وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان بقوله “إن الإجماع يتزايد في العالم العربي على أن عزل سورية لا يجدي، وأن الحوار مع دمشق ضروري خاصة لمعالجة الوضع الإنساني هناك”.
أهمية الانفتاح السعودي على الأسد
رغم اتجاه عدة أطراف عربية لتطبيع علاقاتها مع النظام، مثل الإمارات وسلطنة عمان وتونس والجزائر، فإن الانفتاح السعودي هو الذي يمكن أن يعيد الأسد إلى الصف العربي من خلال القمة العربية كخطوة أولى، ومن ثم عن طريق تقديم مساعدات اقتصادية، وفتح الطريق أمام بعض الشركات للعمل هناك ضمن مشاريع إعادة الإعمار، التي يخطط النظام لإطلاقها بالتفاهم مع روسيا وإيران.
ومن المقدمات المهمة التي أدت إلى هذا المسار، ضعف آلية العقوبات التي تم فرضها على النظام السوري، بدءاً من عام 2011 بعد أن بدأ بإطلاق النار على المتظاهرين السلميين، وما تلاها من مجازر وحملات تهجير كبيرة شملت ملايين السوريين. وقد تراخت الآلية على نحو ملحوظ في العامين الأخيرين، بعد أن نجحت في فرض عزلة عربية ودولية على النظام. والطرف الفعال في هذه الآلية هو الولايات المتحدة، التي حاولت من خلال هذا السلاح ثني النظام عن ارتكاب المجازر، وإبداء مرونة تقود إلى حل سياسي، إلا أنها لم تمارس صرامة كافية تقود إلى نتائج ذات قيمة، وقصّرت كثيراً في متابعة التطبيق الفعال للعقوبات التي اتخذتها.
الانفتاح السعودي هو الذي يمكن أن يعيد الأسد إلى الصف العربي من خلال القمة العربية كخطوة أولى
وهذا الأمر واضح من رد فعل الوسط السياسي الأميركي على اتجاه التطبيع مع الأسد، وتم الاعتراف بالتقصير من خلال الرسالة التي وجهها في 24 مارس الماضي أعضاء كبار في لجنتي العلاقات الخارجية في الكونغرس الأميركي، ينتمون إلى الحزبين الديمقراطي والجمهوري، إلى وزارتي الخزانة والخارجية في الولايات المتحدة من أجل إحاطتهما علماً بالوتيرة البطيئة “المخيبة للآمال” في تنفيذ العقوبات بموجب “قانون قيصر”.
وأعادت الرسالة التذكير بأهمية “قانون قيصر”، ليس في تعزيز المحاسبة والمساءلة فقط، وإنما يُعد أيضاً تشكيل أداة قوية من أجل كبح الجهود المبذولة في إعادة تأهيل نظام الأسد أو تطبيع العلاقات معه. وطالبت إدارة الرئيس جو بايدن بـ”استخدام سلطاتها في إنفاذ القانون حيال التطبيع”.
وتعد هذه الرسالة بلا مفعول، ومتأخرة جداً، ولكن الفائدة الوحيدة منها تكمن في أنها جاءت بعد صدور التصريحات السعودية عن قرب استعادة العلاقات الدبلوماسية مع النظام السوري. وهذا يعني أن واشنطن ليست في وارد التطبيع مع هذا النظام، وعلى منوالها تسير بقية العواصم الغربية، وبالتالي ستكون عودة النظام السوري مقتصرة على بعض العواصم العربية.
تعويم عربي يستثني الدول الغربية
تعويم النظام سيتم عربياً فقط، بجهد إيراني روسي، وضمن تفاهمات يقودها الطرفان مع بعض البلدان العربية، وعلى نحو خاص السعودية والامارات ومصر. ومن دون شك لن تحصل قبل الدخول في مقايضات، تقدّم فيها طهران وموسكو تنازلات للأطراف العربية مقابل الانفتاح على النظام.
وحتى لو عاد النظام إلى الصف العربي، تدرك طهران وموسكو أن الحاجة الماسة للنظام هي تحريك العجلة الاقتصادية، وهذا أمر لا يتم بقرار سياسي، أو من خلال استئناف العلاقات الدبلوماسية، بل يحتاج إلى حل العقد الكثيرة وتفكيك الألغام المزمنة التي تقف في طريق النظام.
تدرك طهران وموسكو أن الحاجة الماسة للنظام هي تحريك العجلة الاقتصادية
مشكلة النظام السوري ليست مع الدول العربية حتى تعرف طريقها للحل في الجامعة العربية، وهي لا تتلخص في رفع العزلة العربية، فهناك عقبات خارجية وداخلية تحول دون إعادة تأهيله. وكما هو واضح من الرسالة الأميركية، فإن طريق رفع العقوبات الدولية على الأسد لا يزال طويلاً، بل إن أغلبية الدول الغربية لا تزال تشهر سلاح “الإفلات من العقاب”، بسبب الجرائم التي ارتكبها النظام.
على المستوى الداخلي، أدمن النظام على إفشال مسار التسوية على مدى أعوام، من خلال منع اجتماعات جنيف من تحقيق نتائج، على أساس القرار 2245، وهذه ورقة تلعب ضده في الوقت الراهن وعلى المدى المنظور، ويستحيل عليه أن يستفيد من إقصاء الأطراف السورية التي تسيطر على أجزاء من الجغرافيا السورية، وفي وسعها تعطيل كل المشاريع والحلول.
أهم العقبات الداخلية هي أن النظام مكبّل، ومحاصر في مناطق محددة، وعلى سبيل المثال، لا يستطيع أن يسيطر على طريقي أم 4 وأم 5 للربط بين القامشلي واللاذقية، مرورا بحلب وإدلب، من دون التفاهم مع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، ولا مع الفصائل العسكرية المتحالفة مع تركيا. وليس في وسع روسيا وإيران مساعدة النظام في رفع هذين الحاجزين الكبيرين من طريقه، وقد جرت عدة محاولات، وحصلت اتفاقات بين روسيا وإيران وتركيا من خلال مسار أستانة، ولكنها لم تنتقل إلى التنفيذ.
وتكمن المشكلة هنا في أن “قسد” حليفة للولايات المتحدة، التي تنشر أكثر من ألف جندي في عدة قواعد في حقل العمر، والشدادي، ورميلان، وما لم تحصل على ضوء أخضر أميركي، فلن تنخرط في أي تسوية تصب لصالح النظام. ولا يبدو ذلك وارداً في ظل التوتر الأميركي الإيراني والهجمات المتبادلة في الآونة الأخيرة بين المليشيات الإيرانية والقوات الأميركية.
أما في ما يخص الفصائل التي تسيطر على مناطق استراتيجية في شمال غربي سورية، فهي متحالفة مع تركيا، وحتى في حال حصول تطبيع للعلاقات بين أنقرة والنظام، فإن تسوية ملف هذه الفصائل معقّدة وصعبة، ولا يمكن أن تتم إلا في ظل تسوية شاملة للوضع في سورية، تشارك فيها جميع الأطراف المحلية. وهذا أمر لا يبدو ممكناً في ظل إصرار النظام على رفض حل سياسي.
خطوات سياسية مطلوبة من الأسد
يلعب الوضع الاقتصادي دوراً مهماً في ما يخص عملية تعويم النظام، وينعكس إيجاباً وسلباً على تطور وضعه العام. ومن المؤكد أن تطبيع العلاقات سوف يزيل عقبات كثيرة من طريق تبادل المصالح بين النظام وعدة بلدان عربية. ولكن سورية في وضعها الراهن عبارة عن بلد مدمر ومنهك وليست لديه موارد مالية، لأن القسم الأكبر من النفط والغاز خارج عن سيطرة النظام، وبقية الثروات تتقاسمها روسيا وإيران.
ما لم تحصل خطوات سياسية جادة لن يشهد الوضع الاقتصادي في سورية تطورات كبيرة
المسألة الأكثر أهمية تتعلق بالاستقرار الذي يشجع على توظيف رساميل عربية في مشاريع إعادة الإعمار. وإذا لم يتوافر قدر كاف من الطمأنينة، لن تغامر رؤوس أموال كبيرة في دخول سورية، خصوصاً أنه ليس هناك من يستطيع أن يقدّم ضمانات بعيدة المدى. وما لم تحصل خطوات سياسية جادة لن يشهد الوضع الاقتصادي تطورات كبيرة.
هناك تسريبات على نحو ضيق جداً، تتحدث عن جهود سعودية لإقناع النظام بقبول حد أدنى من التسوية السياسية، من أجل توليد انطباع بأنه يقابل الانفتاح العربي عليه، بانفتاح يقوم به نحو معارضيه من السوريين، من خلال تشكيل حكومة جديدة يشارك فيها بعض المعارضين، ولكن النظام لا يبدي أي مرونة.
من المؤكد أن النظام سوف يتلقى جرعات اقتصادية متقطعة، وقد يحصل على بعض المساعدات، لكن لا يمكن للوضع أن يشهد انتعاشاً بالاعتماد على الدعم فقط، الذي لن يستطيع، مهما بلغ، إخراجه من غرفة العناية الفائقة التي يرقد فيها منذ عشرة أعوام على الأقل.
وفي الختام، يحكم النظام جزءاً من سورية، ويشاركه في ذلك كل من روسيا وإيران، وصار ارتباطه بهما مصيرياً، وسيتأثر في المدى القريب، إيجاباً أو سلباً، بما ينتظرهما من استحقاقات مهمة. ومن ذلك نتائج الحرب الروسية على أوكرانيا من جهة، وانعكاسات فشل مباحثات إحياء الاتفاق النووي الإيراني، واستئناف العلاقات السعودية الإيرانية، واحتمال توجيه ضربة عسكرية للمشروع النووي الإيراني من جهة أخرى.
Sorry Comments are closed