يخشى معظم السوريين اليوم شبحَ التقسيم، دون أن يطمئنهم زعم كل الأطراف الدولية والإقليمية، حرصها على استمرار وحدة الأراضي السورية، ولو أسبغنا على رأينا قليلاً من الموضوعية، لما كان بوسعنا إلا الإقرار بفوات أوان هواجس الحاضنة الشعبية، النابعة من قناعة هذه الحاضنة بمماطلة الإرادة الدولية، دولاً ومؤسسات، فالشبح غدا أمراً واقعاً، بينما الوحدة سرابٌ يخاله الظمآن ماء.
لدينا اليوم في سوريا أربعة كيانات سياسية، تملك كل منها رايةً وحدوداً وبطاقة تعريفية وحكومة تنفيذية وجيشاً وجهاز أمن، ولو أخذنا بتعريف الدولة على أنها نظام حكم إداري مرتبط بجغرافيا محددة، فنحن نتحدث هنا عن أربع دول قائمة، داخل جسد الوطن السوري.
وُلدت الدولة السورية بمفهومها الحديث، عام 1920، إلا أن حدودها الحالية والمعترف بها في شرعية الأمم المتحدة، لا تطابق حدودها لحظة ولادتها.
يعتقدُ البعض أن حدود سوريا عند استقلالها، عام 1946، توافق تقسيمات اتفاقية سايكس-بيكو عام 1916، هذا اعتقادٌ خاطئٌ بالمطلق، فدمجُ المنطقة الزرقاء التابعة للانتداب الفرنسي مع المنطقة “A” المسماة حينذاك بالمنطقة العربية، لا يرسم حدود سوريا “الاستقلال”، فقد جاءت بعد سايكس-بيكو، اتفاقية سيڤر 1920، وهو ذات العام الذي اقتطع به الجنرال الفرنسي “غورو” دولة لبنان الكبير من البدن السوري الكبير، وبعد سيڤر جاءت اتفاقية لوزان الثانية 1923، ثم مبادرة الأمم المتحدة 1930، وختام الأمر كان بالاتفاق النهائي لترسيم الحدود السورية-العراقية عام 1932.
هذا بالنسبة للحدود الخارجية للوطن السوري، وهي حدود، رغم خطورة حداثتها، لا تشكلُ من التهديد مثل الذي تشكله حدودٌ داخلية كثيرة ومتشابكة ومعقدة. تبدأُ بالحدود الدينية بين 18 طائفة ودين و”لا دين”، هذه الأطياف هي عمادُ النسيج السوري إيديولوجياً، ولا تنتهي الحدود الداخلية بالحدود العرقية والقومية بين 11 عرقية وقومية ينتمي إليها أبناء الوطن السوري.
والقولُ بأن الحدود لا تنتهي عند العرقي-الديني، فمردُّهُ وجودُ حدود كثيرة نمطية بين ريف ومدينة وبدو، وطبقية فقدت وسطاها. هذا الخليط والتنوع المعقد والمتباين، لم يكن يوماً متجانساً كما يحلو للبعض أن يتوهم، فكما أن التجانس لا يعني زوال التنوع، فهو لا يعني كذلك سطوته وغلبته لجهة انتماء وطني، وقد ظهر ما ينبئ بذلك عند أول امتحان صعب.
أما نظرية الأغلبية العرقية أو الطائفية، فقد ثبت أيضاً بوار كل أرض حلّت بها، وكأنها أحجار الدومينو، فقد أعقب سقوط نظرية الأغلبية، تهاوي كل الدعوات القروسطية التي تنادي باحتلال روما والعبور ناحية قرطبة، حتى القدس أفلا يتوجّب على السوريين تأجيل النظر بأمرها لحين طرد كل الدخلاء فوق التراب الوطني؟
وبالدرجة ذاتها من الوجوب، حريٌّ بالسوريين إعادة النظر بكل طرحٍ تسبّب في تقزيم الانتماء الوطني، عند أول معترك يخص الهوية.
أكنّا وطنيين بما يكفي، أي هوية ندّعي، حين يذوي الوطن، ويضمحلّ الانتماء إليه، لصالح انتماءات فوق أو دون وطنية؟ منقسمين بين طوائف وأعراق وقبائل وأنماط، وهذا من شأنه أن يؤذن بزوال الوطن السوري، أكثر مما قد تسببه قوات غازية محتلة أو حدود خارجية لا تخلو من هلامية.
قد تتبدّل الدولة، فتزول أنظمة حكم ودساتير برمتها، لصالح أنظمة حكم بدساتير جديدة، وخلال ذلك يبقى الوطن، تحدث انقلابات تزيح البرجوازية لصالح الاشتراكية أو العكس، كما قد تشتعل ثورات تتبنّى الليبرالي وتبرأُ من المحافظ أو توافق بينهما، وكثيراً ما نامت أوطانٌ بتاج ملكي لتستفيق على برلمان جمهوري، لكنّ هذه التغييرات التي تطال الدولة واسمها وصيغة حكمها، لا تنالُ من الوطن إلا بحدود تلون الزي وتبدل السلوك.
أمّا أن يضنّ الإنسان عن الوطن لصالح الطائفة أو الحزب أو القبيلة، فهذا إشعارٌ بزوال الوطن، وبطلان شرعية العقد الاجتماعي المزعوم. ولعله إظهارٌ لحقيقة مفادها أنه لم يقم يوماً في الوجدان، ولم ينعقد كقناعات، إلا بالقدر الذي أنجزته عصى السلطان وعسكره.
المكابرةُ على الداء عونٌ له، والتماس شفاء الورم بالدهن عبثٌ لا طائل منه، بل يصحُّ أن يكون أحيانا تغافلاً يبيح ارتياب الآخر المؤمن بوطنه.
تصرُّ القرارات الدولية من جنيف 2012 إلى القرار الأممي 2254 الصادر عن مجلس الأمن، وصولاً إلى أستانا 2016، على استمرار وضمان وحدة الأراضي السورية، ولعل المجتمع الدولي يخيّب الظنون فيفرض ما يزعم الحرص عليه.
لكن هذا كله لن يعيد الوطن السوري، فالإرادة الدولية، رغم سطوتها، ستكون عاجزةً تماماً حين تصطدم بإرادات السوريين المتنازعة أفقياً ورأسياً، وقبل الحديث عن مصير السوريين، علينا أن نتتحقق من العدد المؤمن بوجود وطن ينتمون إليه هؤلاء، اسمه سوريا.
لا يختلف الواقع الحالي كثيراً، عن فترة ولادة الوطن، وواهم من يظن أن الجميع كانوا مؤمنين، بما نادى به هنانو والجابري والأتاسي والأطرش، أو مستعدين للتضحية بالدرجة ذاتها التي بلغها يوسف العظمة، لا وجود لهذه اليوتوبيا إلا في المخيال الشعبي، ولا يعيب السوريين ذلك، بل حتى وجود شريحةٍ من الأجراء والمرتزقة والعملاء لا يصم الكيان بعارٍ يستوجب الحكم بالإلغاء.
لم تولد الأطماع والمصالح الدولية منذ بضع سنوات، بل هي قديمة قِدَمَ قابيل وهابيل، ويخبرنا التاريخ الحديث عما عاناه السوريون الأوائل من مؤامرات ودسائس واغتيالات.
اليوم روسيا وأميركا، وبالأمس كانت فرنسا وبريطانيا، لكن أولئك السوريين المؤسسين “غير المقدّسين”، قاوموا واستمروا فاستمر الوطن، رغم تقسيم الدولة لعدة كيانات وكانتونات، ولم يعدم هذا التقسيم من يؤيده ويطالب باستمراره!.
هناك خيار قائم، هو عدة كيانات تتوزع بين مفيدة وديمقراطية ودينية، لا تملك من الاسم إلا الرسم، وعلى الجانب الآخر هناك سوريا العظيمة.
قد لا نحتاج أكثر من انتماء وطني يسمح للمسيحي فارس الخوري بتولي وزارة الأوقاف، ويجيز للبدوي الديري رمضان شلاش قيادة الثوار في غوطة دمشق، ولو أن المناطقية منعت أبناء مدينة جبلة الساحلية من دعم وإيواء الفراتي الثائر عياش الحاج، ربما ما كان هناك وطن سوريٌّ أصلاً.
Sorry Comments are closed