يُقال إن أحدهم طلب من صديق له خبير في الدبس مساعدته في اختيار أحد النوعين المعروضين للبيع، وما إن تذوق الأخير من النوع الأول، حتى نصح صاحبه بشراء النوع الآخر الذي استغرب من جانبه متسائلاً: ولكنك لم تتذوق منه. فأجابه صديقه: لا يمكن أن يكون هناك أسوأ من هذا الذي تذوقته.
هذه الحكاية ربما تلخص واقع المعارضة السورية الرسمية التي تقدم نفسها عبر الأسماء المختلفة من: منصات وائتلاف وهيئة مفاوضات ولجنة دستورية وفصائل مسلحة، وحكومة مؤقتة وغيرها.
مناسبة هذا الكلام الأحداث التي جرت خلال الأيام الماضية، وما زالت ذيولها وتداعيها مستمرة في الشمال الغربي السوري. وهي الأحداث التي بدأت مع الهجوم الذي شنته هيئة تحرير الشام «هتش» (جبهة النصرة سابقاً) على منطقة عفرين، ومن ثم محاولاتها الدخول إلى اعزاز والباب، وذلك بالتعاون مع قوى أخرى ارتبطت أسماؤها أيضاً بالتطرف والانتهاكات. هذا في حين أن سجل القوى، التي دخلت إلى المنطقة مع الجيش التركي، هو الآخر حافل بالانتهاكات المتمثلة بالاعتداءات على أرزاق الناس وممتلكاتهم، وحرياتهم وأعراضهم. هذا ناهيك عن ارتباط أسماء الجميع بالأتاوات والخوات وتجارة الممنوعات والصراع على واردات المعابر، وقمع أصوات الإعلاميين والمنتقدين، وهي سلوكيات تدفع بالناس لطرح تساؤل مشروع مفاده: ما هو الفرق النوعي بين هذا الممارسات وتلك التي كانت، وما زالت، من جانب سلطة بشار الأسد؟
ورب قائل يقول في هذا السياق: ولكن مثل هذه الأمور تحدث خلال الأوضاع غير المستقرة التي ترافق جميع الثورات. وهذا الاعتراض صحيح إلى حدٍ ما، ولكن اللافت في الحالة السورية هو أن هذه التجاوزات لم تعد مسألة فردية، أو تصرفاً مستهجناً عابراً، بل باتت سلوكية ثابتة مستدامة للقوى المعنية، ومصدراً أساسياً من مصادر دخلها، وهي مستعدة للقتال من أجل استمرارية منافعها المادية حتى الرمق الأخير.
وحتى لا نظلم بعضهم، لا بد أن نقر هنا بوجود مخلصين شرفاء بين الفصائل المعنية، لا تسعدهم الحالة التي وصلوا إليها، وهم الذين ثاروا على الظلم والفساد، وضحوا بأغلى ما لديهم في كفاحهم من أجل الحرية والكرامة والعدالة. ولكن هؤلاء لا حول لهم ولا قوة بكل أسف؛ بل يتعرضون للضغوط والتهديدات بالتصفية إذا ما تجاوزوا الحدود المسموحة بها لهم.
وضمن سياق ما نتحدث فيه، كان من اللافت عجز قيادة الائتلاف على مدى أسبوع كامل عن إصدار توضيح معقول ذي مصداقية حول أسباب وخلفيات وأبعاد ما كان يحدث من صراع مسلح بين فصائل تابعة نظريا له، و«هتش». والأمر ذاته بالنسبة إلى الحكومة المؤقتة التي من المفروض أنها خاضعة لقرارات الائتلاف، وهي التي تضم وزارة الدفاع، وهي الجهة المسؤولة عن العمل العسكري وفق اللوائح، والتي لا بد أن يكون لديها، بناء على صلاحياتها، صورة واضحة حول ما حصل، أو ربما ما زال يحصل.
لن ندخل في التفاصيل الدقيقة المملة، ولن نتوقف عند التصريحات المتضاربة المبهمة التي توجت أخيراً ببيان تسجيل موقف من جانب الائتلاف وصف «هتش» بالإرهاب، وهو الموقف الذي تأخر كثيراً وعلى مدى سنوات. أما الحكومة المؤقتة، وهي التي تتواجد مكاتبها في المنطقة، فكانت تعطي ومنذ اليوم الأول لغزوة «هتش» انطباعاً مفاده أن الأوضاع عادية، الأمر الذي فُهم منه وجود تناغم مع الموقف التركي المنسحب من المشهد.
غير أن تركيا في جميع الأحوال تبقى دولة إقليمية محورية لها سياساتها ومصالحها ومشكلاتها وحساباتها، وليس من المستبعد أن تعلن في مستقبل قريب عن تفاهمات مع سلطة بشار بناء على أولوياتها، خاصة بعد جملة التسريبات والتصريحات التي تمفصلت حول الاجتماعات الأمنية بين الطرفين، وعدم استبعاد فكرة اللقاءات السياسية على أعلى المستويات.
ولكن ماذا عن أولويات السوريين التي من المفروض أن يجسدها الائتلاف باسمه الكبير: «ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية»؟
الوضع الذي يعيشه الائتلاف راهناً هو جزء من الحالة العامة البائسة التي وصلت إليها سائر هيئات المعارضة الرسمية السورية، وهي الحالة التي تعد حصيلة تراكمية لجملة من التراجعات والتداعيات التي كانت ضمن إطار المعارضة ذاتها، وعلى صعيد تغيّر وتبدّل أولويات الدول وحساباتها.
وهنا لا بد من التمييز بين مرحلتي الائتلاف والمجلس الوطني السوري. ففي المجلس كانت الإرادة سورية، وكان يضم رغم كل الثغرات والنواقص قوى سياسية معارضة وشخصيات وطنية معروفة من قبل السوريين، إلى جانب ممثلين عن التنسيقيات الشبابية التي كان لها الدور الأكبر في الثورة السورية السلمية قبل مرحلة العسكرة. وكان المجلس يقدم نفسه دائماً بوصفه مشروعاً سورياً غير ناجز مفتوحاً على الجميع.
وقد كان في مقدور السوريين المناهضين لسلطة الاستبداد والفساد في ذلك الحين، وفي ظل الاهتمام الدولي والإقليمي بالشان السوري، أن يضعوا بتفاهمهم واتحادهم القوى الدولية أمام مسؤولياتها. ولكن الخلافات العبثية، والاتهامات الباطلة، والنزعات النرجسية، التي تناغمت بتفاعلاتها مع توجهات الدول وحساباتها حالت دون ذلك. وبالتوازي، تمكنت السلطة مع الجهات الراعية لها من تسويق فزاعة الإرهاب واتهام الثورة بها. كما أسهمت القراءة الخاطئة من جانب قيادة المجلس لاستراتيجية السلطة في تبديد الفرصة، فكانت التداعيات والانهيارات التي يواجه السوريون نتائجها اليوم.
هناك جهود كثيرة تبذل راهناً من قبل مجموعات سورية حريصة على شعبها ووطنها في أكثر من مكان من أجل تجاوز الواقع الصعب الذي يعيشه السوريون في مختلف المناطق، سواء تلك الخاضعة لسلطة النظام أم تلك الخارجة عن سيطرتها في الشمال الغربي حيث النفوذ التركي والقوى السورية المتحالفة معه؛ أم في الشمال الشرقي حيث النفوذ الأمريكي الذي يعتمد على «قسد» (واجهة حزب العمال الكردستاني) بصورة أساسية. فالسوريون يشتركون اليوم جميعاً في المعاناة المعيشية القاسية، وانهيار قطاعات التعليم والصحة والخدمات الحيوية (خاصة الكهرباء والمياه). كما يعانون من أزمات الدواء، والوقود، والغاز، وتآكل البنية التحتية. هذا إلى جانب الانتهاكات التي يتعرضون لها في مختلف المناطق.
ورغم ادعاءات السلطة بالنصر، وتغنّي قوى الأمر الواقع بإنجازاتها الوهمية، بات من المؤكد أن الحل الذي يرتقي إلى مستوى تطلعات وتضحيات السوريين ما زال بعيد المنال، خاصة في أجواء إنشغال العالم بالحرب الروسية على أوكرانيا، وتداعياتها، والمنافسات والتخندقات الإقليمية.
ومن الواضح أنه من الصعب، بناء على المستجدات والمتغيرات، العودة مجدداً إلى تجربة شبيهة بتجربة المجلس الوطني السوري مرة أخرى، أو حتى الائتلاف في عامه الأول. لذلك ربما يكون من الأفضل أن يبدأ العمل الوطني العام بلقاءات مصغرة بين من يشعرون بالانسجام المتبادل، ويجمعهم الهم الوطني المشترك، وذلك ضمن إطر تنظيمية تنسجم مع الوضع السوري الراهن الذي يتسم بتوزع السوريين بين الداخل والمخيمات والشتات.
ويمكن لهذه الأطراف أن تتواصل وتتفاعل وتتفاهم في ما بينها، لتكون الخطوات التجميعية لاحقاً.
فقد أثبتت تجربة السنوات المنصرمة أن السوريين يحتاجون إلى المزيد من الصبر والتحمّل، والقدرة على تدوير الزوايا، والتوافق على القواسم الوطنية المشتركة، وكل ذلك يستوجب الثقة المتبادلة، وإمكانية العمل المشترك. فالحل المنتظر ما زال بعيداً، ولكنه ليس في عداد المتعذر أو غير الممكن.
لدينا اليوم آلاف مؤلفة من الشباب السوري المتعلم في الداخل الوطني ممن وصلوا إلى قناعة بعدم قدرة الخطاب المذهبي أو القومي أو الجهوي على توحيد السوريين؛ ولدينا الآلاف المؤلفة ممن تعلموا في المهاجر، وأتقنوا اللغات الأجنبية، واكتسبوا خبرة واسعة في ميدان التعامل مع مراكز التأثير في المجتمعات التي هاجروا إليها، بالإضافة إلى تجربتهم المستمدة من واقع معاناتهم؛ وهؤلاء على تواصل مستمر مع ذويهم وأصدقائهم ومواطنيهم في الداخل الوطني يتبادلون معهم الأفكار والخبرات، ويقيّمون معاً تجربة السنوات العسيرة التي كانت، ويشددون على الوحدة الوطنية السورية التي ما زالت هي المدخل المؤدي إلى حل سوري شامل، قوامه مشروع وطني جامع يطمئن سائر المكونات المجتمعية، ويحترم كل التوجهات السياسية والفكرية الحريصة على شعبها ووطنها، من دون أي تمييز، وعلى قاعدة احترام الخصوصيات والحقوق.
عذراً التعليقات مغلقة