بكلمة مقتضبة لزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر تغير المشهد من إراقة الدماء واحتمال بلوغ نقطة اللاعودة إلى الهدوء فجأة، طلب مقتدى الصدر من أنصاره الانسحاب خلال 60 دقيقة، الانسحاب من المنطقة الخضراء ومن كل مؤسسات الدولة، فانسحبوا مباشرة بعد ختامه لكلمته. منهم من يحمل السلاح ومنهم من يحمل قناني المياه فقط، انسحبوا من المنطقة الخضراء بعد 24 ساعة من المواجهة المسلحة مع قوات أمنية أدت إلى 30 قتيلا ونحو 450 مصابا.
اعتصام أنصار التيار بدأ منذ الثلاثين من يوليو/ تموز أمام البرلمان ثم اقتحموه بعد ذلك، واتجهوا للاعتصام بعد فترة أمام مبنى مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية العليا.
وجاءت هذه الخطوات بعد أشهر من التصعيد السياسي بين طرفين سياسيين شيعيين في العراق: الإطار التنسيقي من جهة والتيار الصدري من جهة أخرى، لكن إعلان مقتدى الصدر اعتزاله الحياة السياسية يوم أمس الاثنين دفع الأزمة إلى التطور على شكل صدام مسلح في المنطقة الخضراء بالعاصمة بغداد، وسيطرة سرايا السلام التابعة للتيار الصدري على مبان حكومية في محافظات ذي قار، وميسان، ومدن جنوبية أخرى.
الأزمة في العراق، أزمة بين القوى الشيعية، ولأن الشيعة يمثلون غالبية عدد السكان في العراق، فإن للأحزاب الشيعية حصة رئاسة الحكومة التي تفرضها صناديق الاقتراع الديمقراطية، وبالنتيجة، فإن الدولة متوقفة عن العمل بسبب عدم اتفاق “المكون الأكبر” على الحكومة أو تشكيلها.
وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2021 جرت انتخابات برلمانية مبكرة في العراق، فاز فيها التيار الصدري بـ73 مقعدا، ولم يتم تشكيل حكومة حتى الآن، فيما تقود الدولة حكومة برئاسة مصطفى الكاظمي، رئيس المخابرات العراقية السابق الذي رشحه مقتدى الصدر لقيادة الحكومة بعد تظاهرات أكتوبر 2019 التي أدت إلى سقوط حكومة عادل عبد المهدي.
وبعد انتخابات تشرين الأول/ أكتوبر2021، رغب مقتدى الصدر بتشكيل حكومة أغلبية سياسية وكسر تقليد الحكومات التوافقية، بالائتلاف مع قوى سياسية سنية وكردية حققت نتائج كبيرة في الانتخابات.
وبعد فشله في اقناع القوى السياسية الشيعية الأخرى (الإطار التنسيقي) بلعب دور المعارضة في البرلمان، طالب نوابه بالانسحاب من البرلمان وتقديم استقالاتهم، وقبلها رئيس البرلمان يوم 12 يونيو/ حزيران الماضي، ليتطور المشهد تدريجيا إلى مرحلة الصدام داخل المنطقة الخضراء يوم أمس الاثنين.
وبمقابل التيار الصدري، تشكل “الإطار التنسيقي” من قوى شيعية، مطلع تشرين الأول/ أكتوبر، بهدف تنسيق مواقف القوى الشيعية الرافضة للنتائج الأولية للانتخابات البرلمانية المبكرة، والتي طالبت بإعادة فرزها يدويا، بسبب التراجع الكبير لعدد مقاعدها مقارنة بالانتخابات السابقة.
ويضم الإطار قوى حليفة لإيران ممثلة بـ “ائتلاف دولة القانون” بزعامة نوري المالكي، و”تحالف الفتح” بزعامة هادي العامري، و”حركة عطاء”، و”حركة حقوق”، و”حزب الفضيلة”، بالإضافة إلى “تحالف قوى الدولة” بزعامة عمار الحكيم وحيدر العبادي.
وشكل الإطار القوة الكبرى داخل البرلمان بغرض اختيار رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة، بعدد 130 برلمانيا من أصل 329، بعد انسحاب الكتلة الصدرية (73 نائبا) من مجلس النواب.
يرفض الإطار ضغوط الصدر بلعب دور المعارضة البرلمانية، وتمكن من ضمان ثلث الأصوات في البرلمان حتى قبل استقالة كتلة الصدر منه، لتعطيل انتخاب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء. وظهر نتيجة ذلك مصطلح “الثلث المعطل” الذي يستعمله الإطار للضغط على مقتدى الصدر والشراكة في الحكومة.
بعد استقالة التيار الصدري من البرلمان أصبح الإطار المرشح الأول لتشكيل الحكومة، فجاء التصعيد من قبل التيار الصدري والمطالبة بحل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة، وتعديل الدستور. وبين قادة الإطار خصوصا نوري المالكي وبين الصدر خلاف شخصي، يراه مراقبون سببا للأزمة في العراق.
وبعد أن كانت قد تدخلت المرجعية الدينية الشيعية في النجف لتعديل الأمور خلال الأعوام الماضية، انسحبت المرجعية ممثلة بالسيد علي السيستاني من المشهد السياسي واكتفت بتقديم النصح فقط عن طريق خطب صلاة الجمعة يلقيها ممثلوه.
ويرى محللون أن المرجعية الدينية للشيعة غير راضية عن أي طرف داخل العملية السياسة وانتقدت اللاعبين الفاعلين بسبب الفساد وعدم تقديم مصلحة الدولة والناس. ولذا لم تحرك المرجعية ساكنا خلال التصعيد الأخير، رغم مطالبات كثيرة بالتدخل ووقف القتال.
يذكر أن الانتخابات البرلمانية الأخيرة في العراق سجلت أدنى نسبة مشاركة منذ انتخابات عام 2005. إذ بلغت 41 بالمئة، بحسب المفوضية العليا في الانتخابات. ما يعني أن 59 المئة من الذين يسمح لهم بالمشاركة في الانتخابات لم يدلوا بأصواتهم، واتخذوا موقفا سلبيا من العملية السياسية.
ولذا يشكك مراقبون بشرعية أي من القوى السياسية بالانفراد بالقرار السياسي وتشكيل الحكومة، فما هي السيناريوهات القادمة بعد المواجهة المسلحة وبعد انسحاب أنصار التيار من المنطقة الخضراء بأوامر من مقتدى الصدر؟
حل البرلمان وانتخابات جديدة؟
في نظر كثير من المراقبين، من المحتمل قبول القوى السياسية المتصارعة لفكرة حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة، كما يرى حمزة حداد، الزميل الزائر في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، ويوضح لـ DW قائلا: “ستكون الانتخابات هي الخطوة الأولى لتخفيف التوتر وإعادة الجميع إلى طاولة المفاوضات”.
هذا على الرغم من حقيقة أن إقبال الناخبين من المرجح أن ينخفض إلى أبعد من المستويات القياسية التي شهدها العراق في انتخابات العام الماضي وأن “الانتخابات الجديدة (في حال حدوثها) من شأنها أن هدم الثقة في الديمقراطية بشكل أكبر وتقضي أيضا على المكاسب التي حققها المرشحون المستقلون”، موضحا، أن ظهور المستقلين في البرلمان العراقي شكل أول معارضة حقيقية على الإطلاق.
لكن في حالة إجراء انتخابات، فمن المهم أن يكون هناك المزيد من المساءلة والشفافية، على حد قوله. ويقول لـ DW: “لقد وصلنا للتو إلى شفا حرب أهلية، وأتساءل عما إذا كان سيحاسب أي شخص عندما تستقر الأمور ويتنفس الجميع”. ويوضح فكرته بالقول: “هذا النقص في المساءلة يضعف الدولة ويضعف الثقة فيها ويزيد من احتمالية حدوث كل هذا مرة أخرى لمجرد عدم إعجاب طرف أو آخر بمشروع قانون معين”.
ماذا بعد إراقة الدماء؟
في لقاء مع قناة DW الناطقة بالإنكليزية يقول دانييل غيرلاخ، رئيس تحرير مجلة “تسينيت” الألمانية المعنية بشؤون الشرق الأوسط، تعليقا على التصعيد الأخير إن مقتدى الصدر “ربما لم يدفع إلى العنف لكنه تسبب به، وهذا هو الوضع في العراق، فإن كنت تريد الوصول إلى أهداف سياسية، فعليك إذن استعراض قوتك”.
ويضيف غيرلاخ: “كانت لعبة خطرة، لأنه كان يعلم جيدا أن الطرف الآخر يملك القدرة على استعمال القوة أيضا وهو على معرفة قديمة بأطراف العملية السياسية الأخرى”.
من جهته يرى المحلل السياسي العراق أبو فراس الحمداني أن ما حدث شكل انعطافه كبيرة في العملية السياسية، وربما “سيدفع انسحاب الصدر من الحياة السياسية ورفع يده عن الصدريين، لمنح القوى المعارضة في العراق زخما كبيرا، إذا ما اتفقنا على بقاء التيار الصدري خارج الحكم، بجانب شباب تشرين، وشريحة كبيرة من العراقيين بدأت تهزأ بالنظام السياسي وفقدت الثقة به”.
عذراً التعليقات مغلقة