الـ”نحن” في هذا الزمان.. في فلسفة “السوري العادي المُعاصر”

مضر رياض الدبس30 أغسطس 2022آخر تحديث :
الـ”نحن” في هذا الزمان.. في فلسفة “السوري العادي المُعاصر”

بطبيعة الحال، بعد الذي كان، صار أي تفكيرٍ سوري في هذا الزمان، وأي حوار داخلي في المسألة السورية، تفكيرًا – أو حوارًا – في ضوء الألم. وثمة مسألة أخرى تفرض حضورها في كل مرة، وهي أننا (نحن السوريين)، نفكِّرُ في ضوءِ الخيبة: خيبة الأمل بكل شيء. يبدو أن الألم والخيبة تركا أثريهما في نوعية غالبية النقاشات وأنماط التفكير؛ فصارت الأفكار تعيش (أو تعتاش) على واحدٍ من حدين: إما على حد الفتور، أو على حد الانفعال، وصار من النادر أن نرى المسألة السورية في مساحةٍ منطقيِّة بين الاثنين.

قد يكون هذا طبيعيًا، ولكن الوقوف عنده مهمٌ لجماعة السوريين العاديين الذين لا يزالون حريصين على وعيهم بسبب حرصهم على ضمائرهم أمام هذا الإخفاق الكارثي للضمير، فالسوري العادي ما يزال يدرك بتقديرنا العلاقة الوثيقة بين الوعي والضمير. وبقدر أهمية هذه الملاحظة للسوري العادي، بقدر هامشيتها للسوري المقلوب الذي يوجِّه عملَه بموجب سرديات أيديولوجية تلغي فرديته، أو تكاد. السوريون العاديون هم الذين يتألمون، وهم من خاب أملهم، بعد أن ابتكروا في 2011 جماعةً وطنية معاصرة، أو عاصروا آلية امتلاك هذا النوع من المعرفة الابتكارية في أقل التقديرات، أو بتكثيفٍ شديد: هم الذين يعرفون كيف يعاصرون، والذين درَّبوا أنفسهم على ذلك. وللمعاصرة هنا دلالات كثيفة تحيل على فهم العصر الكوني بالمجمل، وتَعلُّم طريقة تواصل عمومي، إنسانية وكونية. وأما المقلوبون المؤدلجون، فهؤلاء جميعهم لا يعنيهم فعل التفكير؛ لأنهم لا يتحملون مشاقّه، ولأن الحقائق عندهم قد حُسمت منذ زمنٍ بعيد، ولأن هناك من يفكر عنهم، وإليه يتبعون، وإلى غير هؤلاء يتوجه هذا النص بعد أن يسلم كاتبه (بكثيرٍ من خيبة الأمل أيضًا) أن هؤلاء التابعين جزءٌ من الـ”نحن”، لكنَّهم جزؤه الذي لا يفكر: يمارس السياسة والحياة من دون تفكير!

الـ”نحن” الوطنية المعاصرة، التي بناها السوري العادي في 2011، هي الآن جماعةٌ خاب أملها؛ ففترت هِممُ أفرادها، وتوارت حماستهم خلف طوابير الخبز والوقود والمواصلات، وانشغلوا بحماية الأبناء من المخدرات ومن الموت؛ أو استنزفت طاقاتهم خلف مراسي القوارب المطاطية (إن رست)، وفي محطات القطارات الباردة، وطوابير الإقامات الدائمة، واحتضان الطيبين وعنصرية البغيضين؛ ولكن شيئًا لن يتغير من دونهم. ومن هنا: من حاجة الـنحن إلى ذاتها، والحاجة إلى الوطنية أكثر من أي وقتٍ مضى، من الحاجة إلى ما سميناها في مقالاتٍ سابقة “هيئة التحرير الوطنية”، من مثلٍ شعبي عادي (لا يحك جلدك مثل ظفرك)، نحاول التفكير من جديد من خلال هذا النص.

في 2022، ثمة جماعاتٌ وأفراد ينتمون عقائديًا (ونخبويًا) إلى ما قبل 2011، يتحكمون بمصير هذه الجماعة الوطنية التي تراجعت وفترت

الـنحن جماعةٌ وطنية سورية، بالمعنى المُعاصر الذي بدأ في لحظة 2011. وهي إمكانٌ زماني معاصر لأنها فهمت الانتماء إلى الوطن بدلالة العصر، والانتماء إلى الكونية؛ فصارت سوريا وطنًا لأنها صارت إمكانية الكون التي نمتلكها الآن (ثم هنا)، بعدما أنشأت مكب نفايات للسرديات الجامدة وأدوات الفهم المُهيمنة في الجماعات الخلدونية الكلاسيكية (مثل الطائفة، والقبيلة، والعرق، والدين، والملَّة، والحزب المؤدلج، والعشيرة، والجماعات الباطنية، والنخب المتعالية، وإلى ما هنالك)؛ وصارت معاصرة بالمعنى الذي يفيد الانتماء إلى الزمان الكوني الراهن. لا يمكن أن يدعي هذا الطرح صلاحيةً من أي نوع خارج حدود 2011، أو روح 2011 ولكن الآن، في 2022، ثمة جماعاتٌ وأفراد ينتمون عقائديًا (ونخبويًا) إلى ما قبل 2011، يتحكمون بمصير هذه الجماعة الوطنية التي تراجعت وفترت: من هذه الجماعات النظام المجرم وجماعات العنف التي تدور في فلكه (بطبيعة الحال)، وللأسف، منها أيضًا قسمٌ كبير من المعارضة الرسمية، وجماعات العنف المحسوبة عليها.

لذلك ينبغي أن يعنينا هذا الزمان، لأننا أصبحنا نمتلك زماننا بعد 2011، ولم يبق شيءٌ إلى الأبد بعد هذا التاريخ: أن يعنينا زماننا بموجب معنى “العناية” (الذي استخدمه مارتن هايدغر). ما نريد أن نطرحه نظريًا بصورة فلسفية تمهيدًا لقولٍ عملي هو أن الـ”نحن” هي “العناية بزماننا”؛ ومن ثم هي إمكانية الادعاء الأصيل بأن لحظة 2011 هي لحظة “العناية بالزمان” (بالمعنى الهايدغري): الزمان السوري الجديد الذي يجعل سوريا وطنًا ممكنًا في الزمان الراهن. ونسأل كيف يمكن أن يعنينا زماننا مرةً أخرى؟ كأننا إذا جاوبنا عن هذا السؤال نجيب عن إمكان إنتاج الجماعة الوطنية السورية من جديد، وجعل سوريا وطنًا ممكنًا بعد كل الذي حدث. هذا السؤال على صعيدٍ عملي ملموس يعني السؤال الآتي ببساطة: كيف يعود السوري العادي معنيَّاً بكل كبيرة وصغيرة في كل الذي يحدث لبلده، وفيها، وعنها، داخل البلاد، وخارجها؟

ولنستمر في التفكير في هذا المسار، ينبغي أن نتوقف عند ثنائية مهمة، حاضرة بقوة في سلوك السوريين الراهنة ولغتهم، وهي ثنائية (التفاؤل، والتشاؤم)؛ وقد يبدو التفكير العمومي في هذا النوع من الأسئلة محكومًا بهذه الثنائية، فالمتفائل معنيٌّ بالزمان، والمتشائم لا يعنيه الزمان كثيرًا، بل ربما يمقته، الأمر الذي يجعل هذه الثنائية تفرض نفسها، في مقدمات أي تفكيرٍ مستقبلي؛ فيصير تجاوزها غير ممكنٍ على الرغم من أنها تبدو ذاتية أكثر مما هي موضوعية: وكأن عملية ضبطها موضوعيًا أولويةٌ لكل تفكيرٍ في الحل وفي المستقبل، وربما ثمة ضرورةٌ لضبطها فلسفيًا وعلميًا وتاريخيًا وحتى سياسيًا خارج إطار المقاربات الذاتية واللغة الوصفية.

لنتذكر أن معطيات العقل (intellect) كلها كانت تميل إلى التشاؤم في إمكانية تحقق ثورة في سوريا في 2011. ولكن الثورة تحققت بإرادة السوريين العاديين، وبتفاؤلهم بإرادتهم هذه. وكأن عبارة غرامشي المدهشة: “تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة”، كانت تنطبق على الحدث بصورة كاملة – وبالمناسبة كانت الخلايا التي أطلق عليها الشباب “خلايا غرامشي” قبيل الثورة بذرة مهمة نحو فكرة التنسيقيات. وهذا النوع من التفاؤل هو الذي نفهمه من عبارة “الشعب يريد إسقاط النظام”؛ ففي المخزون الشعبي ظل الشابي حاضرًا بقاعدته الشهيرة: تحت إرادة الشعب يستجيب حتى القدر. تتحرك هذه الإرادة المُدَّعمة بالتفاؤل بقابلية للإنسانية، أو بنزوعٍ (شهيةٍ) (Appetition) إلى شيءٍ كثيفٍ إنسانيًا، وهذا النزوع (عند ليبنتز مثلًا) هو محرك الإرادة الأولي؛ منظورًا إلى الإرادة بوصفها رغبة، ولكن ليست أي رغبة بل رغبة يحركها العقل. وفي الأحوال كلها، السوري العادي هو خلية هذه الإرادة غير القابلة للتقسيم، (أي هو الـ “موناد” “Monad” بلغة ليبنتز نفسه). وإذا أكملنا التفكير بطريقة ليبنتز هذه يمكن أن نقول إن السوري العادي هو منادولوجيا الثورة: هو خليتها، وهو المُقدس الصغير فيها الذي يسعى بقدر ما يستطيع للاقتراب من الكمال الذي يسود الكل.

النزوع عنده كان إلى الحياة، الحب، الذات، الأمان، الحميمية في البيت الأول، إلى ما شاءَ الحُلمُ المشروعُ من صور الوجدان، ومن صور الإنسان بوصفه إنسانًا فحسب، وهنا مكمن المعاصرة، وهذا هو المهم. ولهذا كان هذا النزوع نوعًا من التفاؤل في الانتماء إلى العصر، والإرادة كذلك: إرادة انتسابٍ إلى العصر تمهيدًا لصياغة وطنٍ مُمكن للبشر العاديين، يتسع لطقوسهم وعقائدهم ورغباتهم كلها في فضاءٍ أخلاقي كوني، ويتسع برحابة لتوصيفٍ خلاَّق كان يبدو معه غرامشي سوريًا معاصرًا: “تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة”.

لا يبدو لنا العمل إلا باستئناف ما بدأ به السوري العادي، ولكن بتكتيكاتٍ جديدة: يعني استئناف ابتكار وجودنا من التصاقنا بمفهوم الزمان، من إعادة دخولنا في العصر، ومن هذا الدخول نستكمل الدخول إلى الوطن

ولكن، اليوم، في 2022، لم يعد غرامشي ملائمًا لتصنيع التفاؤل في سوريا، فذاك المشهد ضاع لأن الإرادة فترت، ولم يستجب القدر، بل انقلب الأخير على الاحتمال المُمكن. وهنا جوهر المشكلة في المسألة السورية على مستوى التفكير بين السوريين اليوم: لم تعد الإرادةُ معاصرة، وغلبت كفة تشاؤم العقل على تفاؤل الإرادة. ولأن للتشاؤم ما يسوِّغ وجوده عقليًا؛ فلا يبدو أن لمشكلة التشاؤم حلًا إلا الذي يمر من العمل على غرار مبدأ أدورنو: التشاؤم نظريًا والتفاؤل عمليًا. ولا يبدو لنا العمل إلا باستئناف ما بدأ به السوري العادي، ولكن بتكتيكاتٍ جديدة: يعني استئناف ابتكار وجودنا من التصاقنا بمفهوم الزمان، من إعادة دخولنا في العصر، ومن هذا الدخول نستكمل الدخول إلى الوطن: بعبارات بسيطة من إعادة التفاؤل بالـ”نحن” بوصفها هي العصر، وهي القادرة على تغيير القدر. ربما لم تعد ساحات مثل العمري والساعة والعاصي وغيرها متاحةً لنا، ولكننا اليوم لدينا إمكانُ استخدام ساحات العالم كله، من آلاسكا إلى نيوزيلاندا، كلها مساحاتٌ مكانيةٌ لننتج زماننا، لنعتني بزماننا بصورة مشروعٍ وطني يتسلح بإرادةٍ لا تلين للمُعاصرة، ومن ثم التفاؤل في بناء مشروع وطنٍ بدلالة الإنسان السوري العادي. ربما من دون ذلك سنعيش بالحنين أطول (Nostalgia)، ونتشارك التشاؤم، ويتحول الحنين إلى صورة من صور النحيب على حميميةٍ لن تعود، وإذا صَدَق “كانط”؛ فحتى العودة إلى المكان لن تفيد في علاج الحنين؛ فالحنين عنده هو أمنيةُ المريض به الواهمة بإيقاف الزمان بين لحظة الرغبة ولحظة الوصول إليها؛ وترجمة ذلك سوريًا: إما أن نعمل فنتفاءل، أو أن نبقى نعيش وهمَ توقف الزمان بين لحظة “الشعب يريد” الماضية، ولحظة الحرية المأمولة، يعني إما أن نصبح خارج الزمان، أو أن ننتج زماننا ونعتني بإنتاجه.

المصدر تلفزيون سوريا
التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل