بوتيرة متسارعة تكررت المؤشرات إلى قرب تطبيع تركيا علاقاتها مع النظام، فتحدثت صحيفة “تركيا” المقربة من الحكومة، في تقرير جديد، عن الأماكن المرشحة لاستقبال اللاجئين السوريين الذين من المفترض أن يعودوا إلى بلادهم بالاتفاق مع النظام، وهي دمشق وحمص وحلب، كدفعة “تجريبية” قبل استئناف إعادة البقية “طوعاً” كما يشيع الإعلام الموالي.
وفي السابق كانت التصريحات الحكومية تركز على إعادة ما بين مليون ومليوني لاجئ سوري لتوطينهم في المنازل التي تشيدها شركات تركية بتمويل خليجي في مناطق سيطرة القوات التركية في الشمال. أما الآن فالحديث يدور مباشرةً عن مناطق يسيطر عليها النظام بصورة كاملة، مع التوكيد على أن ثلاثي آستانة، روسيا وتركيا وإيران، سيكونون ضامنين للعودة الآمنة من غير أن يتعرضوا للتنكيل الانتقامي من النظام.
أما “حزب الوطن” ذو الاتجاه القومي والخلفية الماركسية الماوية فقد أعلن أن وفداً قيادياً منه سيقوم، في غضون عشرة أيام، بزيارة إلى دمشق يلتقي فيها برأس النظام بشار الأسد، وسيكون الوفد برئاسة رئيس الحزب دوغو بيرنجك ومعه رجل الأعمال أدهم سنجق الذي انشق مؤخراً من حزب العدالة والتنمية الحاكم وانضم إلى صفوف حزب الوطن. وسنجق هذا لم يكن عضواً عادياً في الحزب الحاكم، بل يملك مجموعة إعلامية أبرزها صحيفة “ستار” من الصحف الأشد ولاءً للحكم.
وصل التدخل التركي في الصراع السوري إلى سقف ما يمكنه تحقيقه ولا بد من الانتقال إلى مرحلة جديدة لا تحددها تركيا وحدها، بل مجمل القوى المتدخلة
وفي حين لم يعد أردوغان إلى الحديث عن التطبيع المحتمل مع النظام، بعد كلامه في الطائرة التي أقلته في طريق عودته من سوتشي حيث التقى بالرئيس الروسي، ولا علق بكلمة على سيل التحليلات والتعليقات التي دارت حول هذا التطبيع في وسائل الإعلام، انطلقت تصريحات عدة من رجالات السلطة مرحبة بالصفحة الجديدة التي تنوي تركيا فتحها مع نظام دمشق. وكان أبرز هؤلاء زعيم الحركة القومية دولت بهجلي الذي أيد التوجهات الجديدة بعد سنوات من تأييد السياسة السابقة للحكم في الصراع السوري، حتى حين كان معارضاً للحكومة. كذلك تحدث كل من نائب الأمين العام لحزب العدالة والتنمية حياتي يازجي، وعضو القيادة المركزية للحزب متين كولنك، مرحبين بالتوجهات الجديدة.
الخلاصة أن ما ظهر بعد قمتي طهران وسوتشي من مؤشرات يتعزز أكثر وأكثر كل يوم، فيما يذكر بالتطبيع التركي مع كل من السعودية والإمارات ومصر وإسرائيل، وفي نوع من الأخذ بما كانت المعارضة تطالب به طوال السنوات السابقة من التدخل التركي في الصراع السوري وخصوصاً فيما يتعلق بموضوع إعادة اللاجئين إلى سوريا. وهذه المرة أضيفت، إلى ضغوط المعارضة الداخلية، ضغوط كل من روسيا وإيران بشأن ضرورة التطبيع مع نظام الأسد. لكن استجابة الحكومة لهذه الضغوط ليست على مضض بل يتعلق الأمر باقتراب استحقاق الانتخابات النيابية والرئاسية الحاسمة. فالحكومة التي أرادت منذ أشهر القيام بعملية عسكرية خامسة في منطقة تل رفعت طمعاً بأن يجلب لها ذلك بعض الشعبية المفقودة، تريد الآن المصالحة مع نظام الأسد لإبعاد قوات سوريا الديمقراطية عن حدودها الجنوبية بالتعاون معه، كما من أجل إعادة ملايين السوريين إلى بلادهم المنهارة والمفككة، وهذا أيضاً الهدف منه استعادة الأصوات المتسربة للناخبين الساخطين من الوضع الاقتصادي.
هل تنجح عملية التطبيع التركي مع النظام الذي لم يتغير سلوكه قيد أنملة منذ بدأت عمليات التطبيع العربية معه؟ ففي إطار مشروع “خطوة مقابل خطوة” الذي طرحه الملك الأردني حدثت مجموعة من خطوات التطبيع معه من قبل الإمارات والجزائر والبحرين والأردن، لكن النظام نجح في إفشال تلك الخطوات بتمسكه بـ”ثوابته المبدئية” من قتل السوريين والتنكيل بهم، بما في ذلك بعض تعساء الحظ العائدين من لبنان. وكان مرسوم العفو الذي أصدره في شهر أيار/مايو من العام الماضي فضيحة من حيث هزال العدد الذي شمله، وما زال مجهولاً، كما بفعل مشاهد أهالي المعتقلين الذين افترشوا الساحات والحدائق في دمشق على أمل خروج أولادهم.
ربما فوجئ الرأي العام التركي بالمظاهرات التي خرجت في عدد من مدن المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش التركي احتجاجاً على تصريحات وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو الذي كان قد تحدث عن وجوب المصالحة بين النظام والمعارضة السورية كشرط لا بد منه للوصول إلى سلام مستدام في سوريا. هل ستؤثر تلك المظاهرات على صانع القرار التركي بشأن مشروع التطبيع مع النظام؟ لقد ارتبكت الخارجية التركية واضطرت لإصدار “توضيحات” لكلام الوزير بهدف امتصاص ردة الفعل هذه. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن نظام الأسد لن يستجيب بسهولة لجهود روسيا وإيران بشأن التطبيع مع تركيا، خاصة وأن ذلك سيرتب عليه التزامات لا طاقة له بقبولها، أمكننا أن نتوقع بطأً في مسار التطبيع المفترض ربما لن تكفي الأشهر العشرة المتبقية للانتخابات التركية لاكتمالها. ولكن في كل الأحوال وصل التدخل التركي في الصراع السوري إلى سقف ما يمكنه تحقيقه، ولا بد من الانتقال إلى مرحلة جديدة لا تحددها تركيا وحدها، بل مجمل القوى المتدخلة، ولن تكون هذه المرحلة عودة إلى ما قبل 2011 كما تتوهم المعارضة التركية.
Sorry Comments are closed