سوريا بلد بلا تاريخ بالمعنى المعياري والقوي لكلمة تاريخ، أي حين يكون التاريخ تغيراً كبيراً في العالم، تحققاً للحرية مثلما فكر هيغل، أو إنشاء لأوضاع ومؤسسات وعقائد لم تكن موجودة من قبل. بهذا المعنى، هناك تاريخ للغرب الحديث، وهناك تاريخ لبلدان عملت بقوة على أن تكون شيئاً في العالم وقطعت أشواطا مؤثرة في ذلك مثل اليابان وكوريا الجنوبية، وبصورة ما مثل روسيا والصين، وبمقادير متفاوتة بلدان كثيرة في ما كان يسمى العالم الثالث. وبكل تأكيد إسرائيل كانبعاث لكيان يهودي سياسي بعد سنوات من أكبر كارثة حلت باليهود خلال ألفي عام من «المنفى»، الهولوكست. في تاريخ اليهودية السياسية المنتصرة خلال ثلاثة أرباع القرن هناك ما يذكر بتاريخ الإسلام الباكر: انتصارات صاعقة على امبراطوريتين لم يكن لهما من منافس غير واحدتهما للأخرى حتى ذلك الوقت. انتصارات إسرائيل علينا في 1948 و1956 و1967 و1973 و1982 تشبه ذلك، وإن تكن جرت في إطار استعماري، لن يكف عن رفع علامة استفهام كبيرة بخصوص مصير هذا الكيان.
بلدان الشرق الأوسط العربية تشارك سوريا في أنها بلا تاريخ بهذا المعنى الكبير، ولا حتى بمعنى قدر من الانبعاث السياسي بعد خمول، والسير إلى الأمام وفق معطيات الأمام المعاصر، الاقتصادية والسياسية والحقوقية. الشرق الأوسط نظام دولي فرعي، قام على سيطرة قوى مثل الولايات المتحدة وإسرائيل، ويتمركز حول أمن إسرائيل وحاجات أمريكا من الطاقة، ومؤخراً التطلعات الإمبريالية الروسية. وتنضبط بإملاءات هؤلاء النافذين لا تتحداها الدول العربية، ومنها سوريا بطبيعة الحال.
لكن سوريا بلا تاريخ بمعنى يخصها منذ أن أخذ الأبد يصيّر شكل علاقتها بالزمان، أي منذ عام 1970، وعبر محطة التوريث الرئيسية عام 2000. الأبد السوري ليس استمراراً مما تسعى وراءه المؤسسات البشرية عموماً، بل هو شكل نشيط من الحرب ضد المستقبل والقتل المستمر لأي بذور محتملة للتغير. عبر الأبد صارت سوريا بلداً بلا وعود عامة، بلداً سجين حاضر مؤبد، تتماثل آنات الزمان فيه، فلا يتمايز مستقبل عن ماض، يغرقان معاً في مستنقع الحاضر.
الإصرار على الأبد، اللاتاريخ، قاد نحو التمزق، تمزق اجتماعي في البداية تطور بالتدريج إلى تمزق جغرافي
دون تاريخ، تطورت سوريا بعد الثورة لتصير دون جغرافيا، أو بجغرافية متكسرة. صارت لسوريا دواخل كثيرة وخوارج كثيرة وحدود كثيرة، وبكلمة واحدة: صارت سوريات. روسيا وإيران وتركيا وأمريكا وإسرائيل في الداخل السوري الموزع إلى خمسة دواخل: الأسدية التي لا تزال تعول على الأبد، وتوريث الحكم كشكل لتحققه، ومرتفعات الجولان التي ضمتها إسرائيل إليها منذ عام 1981، ومناطق سيطرة تركيا عبر أتباع سوريين، ومناطق قسد («قوات سوريا الديمقراطية») ذات العماد الكردي تحت الحماية الأمريكية، ومنطقة هيئة تحرير الشام في إدلب التي هي «منطقة خفض تصعيد»، تعيش وضعاً خاصاً في إطار تفاهم روسي تركي. وهذا كله يشكل سوريا الداخلة. وإلى جانبه ثمة سوريا الخارجة، نحو سبعة ملايين لاجئ، يشكلون نحو 30% من السوريين، منثورين في 127 بلدا، أكثريتهم الساحقة في ستة بلدان: تركيا، لبنان، ألمانيا، الأردن، مصر، العراق. خلافاً للتاريخ الذي زال بالتجميد، الجغرافيا زالت بالسيولة.
العلاقة السببية بين تجميد التاريخ وتفكك الجغرافيا أكيدة. الثورة كانت صراعاً بين التاريخ والأبد، حاضر يبحث عن تغير ومستقبل. الإصرار على الأبد، اللاتاريخ، قاد نحو التمزق، تمزق اجتماعي في البداية تطور بالتدريج إلى تمزق جغرافي. وهذا مثلما قاد تعثر تغيير البلد بمعنى تغيير نظامه إلى تغيير البلد بمعنى الارتحال منه إلى غيره. لا نزال نفكر بسوريا كبلد واحد وكاسم لمصير مشترك. هذا ليس أكيداً. كلما طال الأمد بالتجزئة السورية الجارية (كي نستعير من قاموس القومية العربية)، كان محتملاً أن تتصلب الكيانات القائمة، وتسير في اتجاهات مختلفة. لكل من السوريات الخمسة الحالية حماتها- محتلوها الدوليون الخاصون، وهو ما يرشحها لطول العمر. لكن الوضع لا يزال سائلاً، وتبدو تركيا مثلاً أقرب إلى النظام إذا سيطر هو مباشرة على المناطق التي تسيطر عليها قسد. ويبدو أن شركاء تركيا من الروس والإيرانيين يدفعون في هذا الاتجاه. وبالمقابل، لا يظهر أن الولايات المتحدة معترضة جدياً على هذا الترتيب، ولا قسد ذاتها، خلا طلب ضمانات قد يجري التخلي عنها. هذا المنعطف يشير إلى اتجاه يكون فيه النظام، أو «سوريا الأسد»، هو البديل الوحيد عن سوريا المنقسمة. أي أن الخيارات تنحصر بين أن تكون سوريا بلا تاريخ ولا جغرافيا كحالها اليوم، وأن تكون بلا تاريخ لكن مع جغرافيا شبه موحدة (مرتفعات الجولان تبقى خارج الحساب)، ومع تعدد محتلين. الروس والإيرانيون حتماً، والإسرائيليون طبعاً، وإذا خرج الأتراك، فلا يبعد أن يكون ذلك بضمانات تلبي حاجاتهم الأمنية والرقابية. المحتل الذي قد يثبت في النهاية أنه أهون المحتلين وأقلهم خطراً هو الأمريكيون. على أنه من غير المحتمل للسابقة التي مثلتها سنوات الانقسام الواقعي الماضية أن تزول، إن زالت، دون أن تخلف آثاراً عميقة في الذاكرات والسيكولوجيا الاجتماعية والترقبات المستقبلية. وهو ما يعني أن التئام الجغرافيا السورية السابقة للثورة لن يطال الجغرافيا النفسية، إن جاز التعبير، لملايين السوريين. وهناك بعد مجالان لا يمكن أن يطالهما هذا الالئتام إن حصل في أي وقت قريب أو منظور. أولهما اللجوء الواسع خارج البلد بوصفه أحد أوجه انكسار الجغرافيا السورية، وبالتحديد انكسار التطابق الجغرافي السكاني. إذ لا يبدو وارداً أن نشهد عودة واسعة إلا بالإكراه، لأسباب يتلاقى فيها عدم الثقة بالنظام بفقدان الملكيات استيلاء أو تدميراً وتدهور الخدمات، ثم بسنوات من ترتيب الحياة في بلدان اللجوء. والمجال الثاني والأهم هو أن أحد أوجه التكسر الجغرافي هو التمدد الخارجي في الداخل السوري من بلدان غير مجاورة، إيران وروسيا، ووجودهما في الداخل السوري هو وحده ما أنقذ النظام من السقوط في المقام الأول، وما قد يتيح لأم الجغرافيا تحت سلطته الإسمية، عبر ترتيبات لخروج تركي وأمريكي في المقام الثاني. بعبارة أخرى، إن التأمت جغرافيا سوريا على ما كانت عليه قبل النصف الثاني من 2012، وقت أخذت مناطق من البلد تخرج من سيطر النظام، فإن محتوى هذه الجغرافيا مختلف كثيراً: سوريون أقل، إيران وروسيا أكثر. ثم إن الحدود السورية اللبنانية ستبقى مفتوحة على حركة المجاهدين الشيعة وقواعدهم المنتشرة في سوريا.
لا يبدو في المحصلة أن هناك عودة محتملة إلى ما قبل عشر سنوات أو إلى ما قبل الثورة. التصفير المستمر للتاريخ الذي قاد إلى تكثير وتكسير الجغرافيا مستمر إلى حين حدوث تغير أساسي في البيئة السياسية السورية، تغير تاريخي يبدأ من صفر الأبد لكن لا ينتهي عنده. وليس غير انطواء حكم العائلة الأسدية يمكن أن يكون هذا التغير الكبير.
Sorry Comments are closed