تقدير موقف
أولًا: توطئة
قُبَيل عيد الفطر بأيام، شهدت سورية حدثين مؤلمين، هزّا الضمير السوري والإنساني، وأعادا إلى ذاكرة الشعب السوري سيرة الثورة، وخصوصًا في سنيها الأولى، ومجازر النظام المروعة والمتتابعة بحق السوريين الذين ثاروا على النظام طلبًا للحرية والكرامة. أوّل هذين الحدثين مقطع فيديو نشرته صحيفة الغارديان البريطانية، يصوّر إحدى المجازر التي ارتكبتها قوات النظام في منطقة “التضامن” بدمشق؛ وثانيهما مرسوم “عفو رئاسي” قضى بالإفراج عن معتقلين، وفقًا لقانون الإرهاب رقم 19 لعام 2012، ليعاني معهما السوريون آلام الفجيعة بأبرياء قُتلوا خارج القانون بدم بارد، وآلام مشاهد الأهالي الملتاعين الباحثين عن أبنائهم الذين غُيّبوا لأكثر من عقد من الزمن، في غياهب السجون والأفرع الأمنية، فضلًا عن الحالة المأسوية التي خرج بها بعضهم وقد فقدوا الذاكرة، وهم يعانون حالة ذهول تعكس صورة الجحيم في السجون السورية، وحجم الحقد والتعذيب الذي مارسته أجهزة النظام على من اعتقلتهم، وأعدادهم بالملايين.
واستتباعًا لمرسوم العفو، صدر عن وزير العدل في نظام السوري بيان، بتاريخ 5 أيار/ مايو 2022، يذكر فيه أنه تم إلغاء كافة البلاغات والإجراءات (إذاعة بحث، توقيف، مراجعة) المستندة إلى الجرائم المنصوص عنها في قانون مكافحة الإرهاب رقم 19/ لعام 2012، بحق جميع المواطنين السوريين، في الداخل والخارج، ما لم يتسبب فعلهم بموت إنسان، أو يثبت استمرار انتمائهم إلى تنظيمات إرهابية أو علاقتهم بجهات دولية.
الحدثان استدعيا كثيرًا من الألم لدى الناس، وخلقا كمًّا من التحليلات ومحاولات الربط والتفسير لدى المتابعين ورجال السياسة والصحافة، في البحث عن دلالات التوقيت والتداعيات وتطورات القضية السورية، في ضوء الوضع الإقليمي والحرب في أوكرانيا وسواهما، حيث بدا واضحًا الوضع المرتبك للنظام السوري، بحكم تورط حاميته روسيا في غزو أوكرانيا، واصطفافه إلى جانبها، راغبًا أو مكرهًا، وتعثّر محاولات بعض الدول العربية في إعادته إلى جامعة الدول العربية، والأهمّ من كل هذا وضعه الاقتصادي المتردي، الذي بات على حافة الانهيار، مع تبدد ادعاءاته الانتصار على “المؤامرة الكونية” التي استهدفته.
ثانيًا: في واقع الحدثين
في 28 نيسان/ أبريل 2022، نشرت صحيفة ذا الغارديان البريطانية، بواسطة مراسلها مارتن شولوف، تحقيقًا صحفيًا استقصائيًا مطولًا مع مقطع فيديو يوضح بالتفصيل وقائع مجزرة بشعة، ارتكبها مسؤول أمني عن قطاع في منطقة التضامن جنوب دمشق، يُدعى “أمجد يوسف”، وهو برتبة مساعد أول من مرتبات فرع التحقيق العسكري رقم 227، بحقّ مدنيين عزّل قادتهم الصدفة السيئة للمرور على حواجز للنظام، بتاريخ 16 نيسان/ أبريل 2013، وكان عددهم 41 شخصًا، بينهم ثماني نساء وعدد من الأطفال. وتوضح عمليات التحقق والاستقصاء التي قام بها البروفيسور أغور أوميت ومعاونته الباحثة السورية من مركز الهولوكوست والإبادة الجماعية التابع لجامعة أمستردام الهولندية، على مدى ثلاث سنوات، أنّ قوّة نظامية ارتكبت الجريمةَ خارج القانون، مع تخطيط سابق لها، وأن عميلة القتل تمّت بطريقة ساديّة يصعب إيجاد تفسير منطقي لها، وكان المجرم قد برّر جريمته بأنها انتقام لأخيه الذي قُتل في داريّا، في أثناء محاولات قوات النظام اقتحامها.
بعد يومين من تاريخ عدد الغارديان، أصدر الرئيس السوري عفوًا عن معتقلين وفقًا لقانون الإرهاب رقم 19 لعام 2012، شريطة ألا يكون الموقوف قد قتل إنسانًا. وعلى غير عادة النظام الذي يُعِد قوائم المشمولين ويحضّر لإطلاق سراحهم في مكان محدد؛ تعمّد هذه المرة، لغاية غير مفهومة سوى رغبته في إذلال الناس وإهانتهم، ألّا يُحدد الأماكن التي سيُطلق فيها سراح المفرج عنهم، وقد شتت هذا الأمر الأهالي وجعلهم يتخبطون بالتنقل من مكان إلى مكان، وكان أكبر تجمع للأهالي تحت “جسر الرئيس” في منطقة البرامكة بدمشق، حيث تجمّع آلاف من الذين انقطعت أخبار أولادهم في معتقلات النظام، عسى أن يكون أولادهم من المفرج عنهم، أو أن يحصلوا على أيّ خبر عنهم.
ولكن الصدمة الكبرى هي أنّ عدد المفرج عنهم لم يتجاوز حتى الآن 300 شخص، معظمهم من الذين انتهت مدة حكمهم، أو من أبناء التسويات، وهم بحالة إنسانية مزرية من الوهن والضعف، والأمر المأسويّ أن بعضهم خرج فاقدًا الذاكرة، ولا يعرف شيئًا عن نفسه أو عن ذويه، أو كان في حالة ذهول وكأنه بُعث من القبور. ولم يكتفِ النظام بهذا القدر من الإجرام، إذ دفعته عنجهيته إلى أن يرسل صحفيين وكاميرات تصوير من التلفزيون الرسمي، ليجري مقابلات مع الأهالي المنتشرين تحت الجسر والحدائق القريبة منه، ويحذرهم من الوقوع ضحايا لعمليات النصب والابتزاز. وفي اليوم الثالث، حضرت دوريات الأمن وفرقت الناس، فتراجعوا إلى الحدائق القريبة، وما زال كثير منهم في حالة انتظار، متعلقًا بأمل أن عملية الإفراج ستتابع حتى اكتمال الأعداد المشمولة. ومن أكثر المشاهد مأسوية، على سبيل الإيضاح، “أن أحد الآباء كان يصيح: “أخذوا لي ستة أولاد.. بس يرجعوا لي واحد.. أي واحد منهم”، وهناك مشهد آخر لأب وابنه، نزل كل منهما من باص مختلف، وكل منهم لا يعرف أن الآخر معتقل منذ سنوات.
ثالثًا: في الخلفيات والتداعيات
- في الخلفيات
مما لا شك فيه أن توقيت نشر التحقيق والفيديو لم يكن عفويًا، فثمة فسحة زمنية واسعة بين انتهاء عمليات التحقق والتقصي وبين تاريخ النشر، ويُرجّح أن هناك جهات دولية مؤثرة حددت توقيت النشر. وربما تكون الرسالة المراد إيصالها للنظام هي “لدينا كثيرٌ من التوثيق لجرائمكم، وهذه العيّنة هي البداية”، وفي حال كان هذا التقدير يقارب الغاية، فإن تلك الجهات غاضبة من النظام لاصطفافه خلف روسيا في الحرب الأوكرانية، ولما أشيع عن تسهيله إرسال مقاتلين ومرتزقة للقتال إلى جانب القوات الروسية هناك، وثبات هذه الأخبار أو نفيها متروك للمستقبل القريب.
وبالنسبة إلى توقيت إصدار العفو، فتاريخ النظام السوري يشير غالبًا إلى أنه كان يُوقت الإفراجات مع الأعياد، غير أن كثيرًا من التحليلات حاولت أن تربط المرسوم بزيارته رأس النظام للإمارات، حيث أشارت بعض التسريبات إلى أن دولة الإمارات المتحمسة جدًا لإعادته إلى الجامعة، وتصطدم بالمعارضة السعودية أساسًا، طلبت منه تقديم مبادرة على هذا الصعيد، وهذا قد يكون حاضرًا بدرجةٍ ما، وهو أيضًا الأمر الذي يُلحّ عليه بيدرسون، حيث فشلت الجولة السابعة للجنة الدستورية، ويُحضّر للجولة الثامنة تحت يافطة “خطوة مقابل خطوة”، وكأن أعضاء اللجنة الدستورية من جهة المعارضة لا يمانعون في ذلك، ويحتاجون إلى مبرر للتنازل في نقاط أخرى، يصرّ عليها النظام! أما ما ذهب إليه البعض بأن العفو جاء للتغطية على فيديو مجزرة التضامن، فهو ربط في غير محلّه، وكأنهم غريبون عن طبيعة النظام وطبيعة تفكيره، وتناسوا أنه في سنوات الثورة الأولى، طالما كان يوثق انتهاكاته ويوزعها، بغاية إخافة المتظاهرين وإخماد الثورة، ومنذ متى كان النظام يقيم وزنًا للرأي العام المحلي أو الدولي، وهو الذي أصدر منذ شهر قانون يجرّم التعذيب، وتاريخه يشهد بأنه بزّ أعتى الأنظمة التي مارست تعذيبًا في التاريخ المعاصر، حتى إنه ما زال مطمئنًا لعدم جدية الموقف الدولي في محاسبته، بعد عقدٍ من الزمن ملأه بالانتهاكات الفظيعة.
وقد يكون للوضع الاقتصادي المتردي، وانشغال روسيا بحربها في أوكرانيا، وزيادة ارتماء النظام في الحضن الإيراني تحسّبًا لاحتمال أن تضطر روسيا إلى التخفيف من دعمها له، دورٌ في أن النظام أراد إلهاء الناس ببعض الإفراجات وتخفيف الاحتقان العام.
- في التداعيات
يُجمِع الناس والمحلّلون على أنّ كلا الحدثين والطريقة التي عُمّما بها، مع حجم المتابعات والتعليقات واستهتار السلطة بمشاعر الناس وذوي المعتقلين، قد نكأا جراحًا من الصعب اندمالها، وأنّ تراكم المظلوميات سوف يكون وبالًا على مستقبل البلد، ما لم يُقيّض للمجتمع الدولي من الإرادة والقرار ما يدفعه إلى حلٍّ سياسي يفضي إلى عملية انتقال سياسي وعدالة انتقالية، تنصف كل من ظُلم على يد هذا النظام. ومن جهة أخرى، عبّرت تداعيات الحدث لدى الموالين عن فقدان وزن وتبصر، فهناك كثيرٌ ممن انبروا للدفاع عن أمجد يوسف ولتبرير جريمته، بدعوى أنه كان يواجه “الإرهاب على جبهات القتال”، وظهرت أصوات دانت الإفراج عن “الإرهابين”، وأقوال تعبّر عن السخط من هذه الخطوة، منها أن “أولادنا لم يُقتَلوا لينعم الإرهابيون بالحياة”، وكانت هناك بعض الأصوات من النخب العلوية، التي تَحسب نفسها معارضة بمعنًى ما، راحت تطرح التقسيم حلًا للصراع في سورية، على اعتبار أن السوريين، برأيهم، لم يكونوا ولن يكونوا شعبًا واحدًا، كما بيّنت الأحداث. وهذا تطوّر متقدّم سلبًا عن بعض الأصوات المماثلة، التي كانت تدعو لتعميم تجربة “الإدارة الذاتية” في شمال سورية، كحلّ نموذجي للصراع. وبالرغم من إدراكنا أن كلا النموذجين لا يشكلان ظاهرة وأن أصحابهما لا يمثلون إلا أنفسهم، مع الآخذ بعين الاعتبار أن أغلب الناشطين الموالين للنظام هم من الجيش الإلكتروني ذراع الأجهزة الأمنية وأن جُلّ ما يقولونه ويكتبونه يأتي بتوجيه تلك الأجهزة؛ فإن اللوحة تشير إلى أن الموالين يعانون حالة قلق حقيقي بعد انكشاف أن “النصر” الذي يدعيه النظام ما زال وهمًا، وأن أي تغيير في درجة تحالفه مع كل من إيران وروسيا، أو في موقف الغرب منه، سيودي به، لكن دون أن نتغاضى عن وجود بعض النخب المحسوبة على المعارضة، التي حاولت النفخ في نار البعد الطائفي للحدث.
رابعًا: خلاصات واستنتاجات
1- إن قضيّة المعتقلين، في عرف النظام السوري، هي قضية عويصة، وهو يغلّفها دائمًا بالغموض، كي لا تنكشف حقيقة الانتهاكات التي ارتكبها بحقّ من يعتقلهم، ومنها عمليات التصفية المنهجية، ولذلك لا يقدّم النظام أي معلومة عن أعداد المعتقلين في سجونه ووضعهم ومصيرهم، كما يطالب أهالي المعتقلين، وإذا تجاوزنا الحالة المزرية التي خرج بها المعتقلون، على قلتهم، حتى الآن، ثم تجاوزنا أن أعمار كثير منهم هي دون الخامسة والعشرين (أي أنهم اعتقلوا وهم أطفال) تبقى هناك المشكلة الأعقد المتمثلة بحجم عمليات التصفية بكل صورها، داخل الأقبية أو السجون، في السنوات الثلاث الأولى للثورة، وهي عمليات شملت أعدادًا يصعب تخيُّلها، حيث اعتُقل عدة ملايين، وهناك قرابة مئتي ألف شخص يُصنفون في خانة الاختفاء القسري. وفي هذا الخصوص، يقول رئيس لجنة التحقيق الأممية المعنية بسورية باولو بينيرو: “إن الاعتقال في سورية اليوم هو بمثابة الاختفاء القسري”، وهو يعني التصفية والاختفاء من الحياة، والكلام ذاته قاله اللواء جميل الحسن (مدير إدارة المخابرات الجوية السابق)، في زيارته الأولى إلى درعا، بعد أربعة أشهر من خروج قوات المعارضة منها: “كلّ من له سجين قبل الـ 2014 فلينساه”، وعلى ذلك؛ فإن خروج بضع مئات أو بضعة آلاف، وهو ما لم يحصل في هذا العفو، لا يُغيّر من مأسويّة الحالة.
2- ترافق صدور القانون مع حالة من الإرباك والتخبّط والغموض، وظهرت الحالة ذاتها مع بيان وزير العدل الذي لاقى ضجة أوسع من العفو ذاته، نظرًا إلى حجم مذكرات الاعتقال على مختلف درجاتها، وأعدادها بالملايين، وهي تشكّل مصدر قلق حقيقي لدى المطلوبين في الخارج، وليس هناك ما يدعوهم للثقة بوعود النظام أو بقوانينه، حيث إن كثيرًا من الذين عادُوا إلى “حضن الوطن” في السنوات القليلة الماضية قد اعتُقلوا وأُخفوا، بل إن بعضهم تعرّض للقتل. وكلّ هذا يدلّ على أن النظام لا ينوي تغيير نهجه حيال المعتقلين في سجونه، وكعادة النظام بأن يقيد كل قانون يصدره باستثناءٍ يُفرغه من مضمونه، فقد ربط الإفراج أو وقف الملاحقة أو سواها، بألا يكون تسبب بقتل إنسان، ولم يثبت انتماؤه للمنظمات الإرهابية. ولا يخفى على أي سوري براعة الأمن السوري بتلفيق التهم التي يريدونها وإلباسها لكل من يريدون النيل منه.
3- وُجّهت كثير من الانتقادات إلى المرسوم، الذي سمّى المفرَج عنهم “إرهابيين”، والتساؤل المطروح: إذا كانوا إرهابيين، فلماذا يفرج النظام عنهم، وهو يدّعي محاربة الإرهاب؟! وإذا لم يكونوا كذلك، فهل سيحاسب من كان سببًا باعتقالهم وتعريضهم لما عانوه كما يفترض؟!
4- يدرك النظام تمام الإدراك أن من يقف إلى جانب المهزوم، في أي حربٍ، كما يُبين تاريخ الحروب، سوف يتحمل جزءًا من تبعات تلك الهزيمة. وإنّ تعثر الحرب الروسية على أوكرانيا، مع عدد الدول التي تقف إلى جانب أوكرانيا، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا والناتو ومجموعة الدول السبع، وإصرار هذا التحالف غير المعلن على إلحاق خسارة من مستوى استراتيجي بروسيا، كما يُرجّح، جعل النظام السوري مربكًا، فأراد توجيه رسالة إلى الولايات المتحدة، تُبرر موقفه وتظهره قابلًا للتعاطي مع المطلب الغربي بتغيير سلوكه، الأمر الذي كان يرفضه منذ مذكرة كولن باول، عام 2003.
5- مرة أخرى، تؤكد المعارضة التمثيلية استقالتها من دورها، إلا في حدود ما توجّهها إليه الدول المؤثرة، فقد كان الحدثان فرصةً مناسبةً لتفعل شيئًا، أقلّه على صعيد الإعلام، حيث لم يصدر بيان ولا خطاب للجهات الدولية لفضح ممارسات النظام، وإعلان أن قضية المعتقلين قضية غير تفاوضية، حتى في إطار اللجنة الدستورية، لكن على ما يبدو أن المثل القائل “في الصيف ضيعت اللبن”، سيبقى برسمهم إلى أجل غير معروف.
- تقدير موقف صادر عن قسم الدراسات في مركز حرمون للدراسات المعاصرة
عذراً التعليقات مغلقة