قبل ثلاث سنوات وفي صبيحة يوم ربيعي، وصل إلى يد مجند جديد لدى ميليشيا موالية في سوريا جهاز حاسوب محمول يعود لأحد أذرع بشار الأسد الأمنية وهو شخص يهابه الناس جميعاً، وطلب منه أن يصلح ذلك الحاسوب، وعندما فتح الشاشة، دفعه فضوله للنقر على ملف لفيديو، في حركة جريئة جداً بسبب العواقب التي يمكن أن يتعرض لها في حال ضبطه أحدهم وهو يتجسس.
كان مقطع الفيديو متقطعاً في بدايته، وذلك قبل أن يتم التركيز فيه وتقريب الصورة على حفرة حفرت حديثاً في الأرض بين مبنيين اخترقتهما كثير من طلقات الرصاص. رأى ذلك الشاب بعد ذلك أحد ضباط المخابرات الذين يعرفهم وهو يركع بالقرب من حافة الحفرة مرتدياً زيه العسكري ومعتمراً قبعة صيد، وهو يلوح مهدداً ببندقيته ويصدر أوامره بصوت مبحوح.
الجريمة.. في مقطع فيديو
جمد الدم خوفاً في عروق ذلك المجند الغر وهو يتابع ما جرى، إذ ظهر رجل معصوب العينين اقتيد من ذراعه إلى المكان، ثم طلب منه أن يهرول باتجاه الحفرة الضخمة من دون أن يدري أنها كانت أمامه، كما لم يتوقع أن يسمع وابل الرصاص الذي اخترق جسده الذي أخذ يتهاوى فوق كومة من القتلى تحته. ثم تبعه معتقلون آخرون، واحداً تلو الآخر، من دون أن يساورهم أدنى شك بما يمكن أن يحدث لهم، إذ قيل لبعض منهم إنهم سيجرون بعيداً عن قناص موجود في الجوار، في حين تعرض الآخرون للسخرية والإهانة في آخر لحظات حياتهم، إلا أن معظمهم كانوا يظنون بأن من قتلوهم كانوا يقودونهم إلى بر الأمان.
وبعد انتهاء عملية القتل، كان هناك ما لا يقل عن 41 رجلاً قد قتلوا داخل القبر الجماعي الموجود في حي التضامن بدمشق، والذي تحول حينئذ إلى جبهة قتال خلال فترة النزاع بين رأس النظام في سوريا والثوار الذين قاموا عليه. وإلى جانب أكوام التراب التي استخدمت لإتمام العمل على عجل، قام القتلة بسكب الوقود على ما تبقى من الضحايا وإضرام النار فيهم، وهم يتضاحكون في أثناء تسترهم بشكل حرفي على جريمة حرب وقعت على بعد بضعة كيلومترات من مقر الرئاسة في سوريا، أما التاريخ الظاهر على ذلك الفيديو فيعود لـ16 نيسان 2013.
أحس ذلك المجند الجديد بحالة غثيان منعته من الحركة، لكنه قرر على الفور أنه لا بد من عرض هذا المقطع في مكان آخر، وهذا القرار هو الذي دفعه، بعد مرور ثلاث سنوات على ذلك، لخوض رحلة خطرة نقلته من أحلك اللحظات في تاريخ سوريا الحديث إلى حالة الأمان النسبية في أوروبا، حيث التقى هناك بشخصيتين أكاديميتين أمضتا سنوات وهما تحاولان الوصول إليه وتأمينه، بما أنه يعتبر المصدر الرئيس في تحقيق استثنائي، إلى جانب سعيهما للتعرف إلى هوية الشخص الذي أدار تلك المجزرة وإقناعه بالاعتراف بالدور الذي لعبه.
إنها قصة جريمة حرب تم تصويرها لحظة ارتكابها على يد أحد المتنفذين لدى النظام السوري المعروفين بسوء صيتهم، من الفرع 227 لدى المخابرات العسكرية، وهذا بحد ذاته يعبر بشكل جلي ومفصل عن الجهود المضنية الساعية لقلب الطاولة على هؤلاء المجرمين، إذ شملت تلك الجهود ما قام به باحثان في أمستردام وما مارساه من تضليل وخداع مع أسوأ ضباط الأمن صيتاً في سوريا، وذلك عبر إرضاء غروره من خلال الإنترنت، واستمالته حتى يقوم بنشر أسرار الحرب التي شنها الأسد.
لقد سلط العمل الذي قام به هذان الباحثان الضوء بشكل غير مسبوق على جرائم يعتقد أن النظام ارتكبها على نطاق واسع مع وصول الحرب السورية إلى ذروتها، لكنه أنكرها أو نسبها إلى فصائل الثوار والمجاهدين.
فن التخويف
بعد مرور تسع سنوات على ذلك، ومع اندلاع الحرب في أوكرانيا، عمدت القوات الروسية إلى إعادة تفعيل العمل بالدليل الخاص بإرهاب الدولة بحق المدنيين والذي سبق لها أن تدربت عليه في سوريا، وذلك بعد تحول ما وصفه فلاديمير بوتين بالعملية العسكرية الخاصة إلى احتلال جائر لأجزاء من شرقي أوكرانيا. فقد أتت وحدات الاستخبارات العسكرية الروسية لتكون في المقدمة خلال العمليات الوحشية القائمة على بث الذعر في نفوس الناس عبر الاعتقالات والقتل الجماعي على غرار محاولات الأسد الوحشية الساعية للتمسك بالسلطة في البلاد.
بما أن أجهزة الأمن في سوريا قد تدربت على يد الضباط السوفييت وضباط أمن الدولة الروس في ستينيات القرن الماضي، لذا فقد اطلعوا بشكل جيد على فن التخويف، إذ إن ولاء من يتم اعتقالهم عند الحواجز ونقاط التفتيش لا تترتب عليه عواقب جسيمة في معظم الأحيان، لأن الخوف كان وسيلة النظام الأنجع للتمسك بالسلطة، ولهذا لم يعدم وسيلة حتى يزرع الخوف في النفوس. وفي هذه الحالة، لم يكن الضحايا من الثوار، بل كانوا مدنيين لم ينحازوا إلى أي طرف، وارتضوا لأنفسهم أن يبقوا بحماية الأسد. إلا أن غالبية أهالي التضامن رأت في قتلهم رسالة لكل سكان ذلك الحي وهي: “لا تفكروا حتى بمعارضتنا”.
بعد تسريب ذلك الفيديو، لأحد ناشطي المعارضة في فرنسا أولاً، ثم لهذين الباحثين وهما أنصار شحود والبروفسور أوغور أوميت أونغور، من مركز المحرقة والإبادة الجماعية التابع لجامعة أمستردام، بات على المصدر أن يتغلب على خوفه من الاعتقال والقتل واحتمال نبذ أسرته له، بما أنها تنتمي إلى الطائفة العلوية التي ينتمي إليها الأسد، وهنالك كثير من أقاربه يشغلون مناصب كبرى في السلطة ضمن ما تبقى من سوريا. بيد أنه أدرك في نهاية الأمر بأنه مع وجود مئات الأشخاص في مختلف بقاع العالم يسعون لمحاكمة الأسد على جرائم الحرب التي ارتكبها، سيصبح هذا الفيديو دليلاً بارزاً في القضية التي سترفع على بشار الأسد.
ولكن في بداية الأمر، كان على أنصار وأوغور التعرف إلى هوية الشخص الذي يعتمر قبعة صيد، ولذلك لجآ إلى الشيء الوحيد الذي اعتقدا أن بوسعه مساعدتهما في تحقيق ذلك، ألا وهو صديق صدوق.
Anna Sh على فيس بوك
كانت أنصار ممن انتقدوا الأسد بصوت عال منذ اندلاع الحرب السورية، بالرغم من أن عائلتها تنتمي إلى طائفة احتفظت بعلاقات طيبة مع الأسد، إلا أن النزاع وما تبعه من انهيار اقتصادي جعل التوتر يسود تلك التحالفات، فلم تجد أنصار نفسها إلا وقد قررت محاسبة الأسد، بصرف النظر عن الثمن الذي ستدفعه هي على المستوى الشخصي.
ولذلك انتقلت إلى بيروت في عام 2013 وبعدها بسنتين إلى أمستردام، وهناك التقت بأوغور في عام 2016، إذ كان لدى كل منهما دافع قوي لتوثيق ما يعتبرانه مجزرة ترتكب في سوريا، ومن الطرق التي اتبعاها لتحقيق ذلك جمع قصص الناجين وعائلاتهم وترتيبها، والتحدث إلى المجرمين أنفسهم، إلا أن خرق القانون الخاص للنظام السوري كان أشبه بمهمة مستحيلة، لكن أنصار وضعت خطة للقيام بذلك، وذلك عندما قررت اللجوء إلى الإنترنت، لتصل إلى الدائرة المغلقة التي تضم ضباط الأمن لدى النظام، حيث أخذت تدعي بأنها معجبة بهم، وتؤمن بقضيتهم بشكل كامل.
من غرفة الصالون الخشبية الداكنة والفخمة في مركز المحرقة والإبادة الجماعية، يحدثنا أوغور عن ذلك فيقول: “كانت المشكلة تتمثل في صعوبة دراسة نظام الأسد، إذ ليس بوسعك أن تسافر إلى دمشق لتلوح بذارعيك هناك وأنت تقول: مرحباً، أنا عالم اجتماع من أمستردام وأود أن أطرح بعض الأسئلة.. ولهذا توصلنا إلى نتيجة مفادها بأننا بحاجة إلى شخصية وهذه الشخصية يجب أن تكون لامرأة علوية شابة”.
كانت أنصار تعرف بأن جواسيس النظام والضباط العسكريين لديه يميلون لاستخدام فيس بوك، إذ بالرغم من سرية حياتهم المهنية، فإنهم لا يجعلون من بيئة التواصل الاجتماعي لديهم بيئة خاصة أو شخصية، ولهذا اختارت لنفسها اسماً وهمياً وهو: Anna Sh، وطلبت من صديق مصور أن يلتقط لها صورة مغرية تظهر جانباً من وجهها، بعد ذلك نشرت على الصفحة الرئيسية تحية كبيرة لبشار الأسد ولعائلته، وانطلقت في محاولتها لتجنيد الأصدقاء.
بقيت أنصار تجوب فيس بوك ليل نهار على مدار العامين التاليين وهي تحاول البحث عن أي شخصية مشتبه بها، وعندما وجدت من صدقها، أخبرته بأنها باحثة تدرس النظام السوري من أجل أطروحتها، وقد نجحت في ذلك في نهاية المطاف، إذ تعرفت إلى مزاج النظام حينئذ، فصاغت برفقة أوغور نكاتاً ونقاطاً للحديث لتساعدها في الوصول إلى نهج معين. وسرعان ما أصبحت Anna Sh معروفة بين أوساط الأمن في سوريا بأنها شخصية متفهمة، ومتعاطفة أيضاً، وعن ذلك تحدثنا أنصار فتقول: “كانوا بحاجة للتحدث إلى أي شخص كان، ليحكوا له عن تجاربهم، ولهذا أطلعناهم على بعض القصص والأخبار، واستمعنا لكل الأخبار التي حدثونا عنها، من دون أن نركز على جرائمهم وحسب”.
ويتابع أوغور فيقول: “لقد تعلق بعض منهم بآنا، وصار بعضهم يتصل بها في منتصف الليل”.
وهكذا، وعلى مدار العامين التاليين، أصبحت أنصار تعيش وتتنفس بوصفها شخصية أخرى، بيد أنها كانت في بعض الأحيان تتخلى عن تلك الشخصية الجديدة، بعدما تعرفت إلى عقول ضحاياها، وصار بوسعها فهمهم على المستوى الإنساني البحت الذي يتجاوز حدود البحث الذي تجريه.
إلا أن تلك العودة إلى الواقع كانت تأتي بشكل مفاجئ عادة، وذلك لأن غالبية من كانت تتحدث إليهم كانوا أعضاء نشطين في آلة القتل، في حين كان بعضهم الآخر يمثل فئة مستعدة للقتل ضمن تلك العصابة التي انضموا إليها. وقد أثر ذلك على صحتها بصورة سلبية، كما أثر على حياتها الاجتماعية وحالتها العقلية والنفسية، إلا أن الجائزة كانت تستحق كل هذا العناء، إذ إن تمكنت من العثور على المسلح الظاهر في الفيديو، فعندئذ سيكون بوسعها إنصاف عائلات الأشخاص الذين قتلوا على يده، وقد يصبح بمقدورها البدء بما نجحت به قلة قليلة طوال عقد من النزاع، أي البدء بعملية تربط بشكل غير قابل للدحض أو التكذيب الدولة السورية ببعض من أسوأ الجرائم التي ترتكب خلال الحرب.
في آذار 2021، حصل التقدم في ذلك السياق أخيراً، بعدما كسب حساب Anna Sh على فيس بوك ثقة أكثر من 500 مسؤول مخلص لدى النظام. وبينما كانت تبحث في صور الأصدقاء الذين أوقعت بهم بحبائلها هناك، ظهرت لها صورة لرجل صاحب وجه دائري مميز ظهرت عليه ندبة وله لحية، كان هذا الشاب قد أطلق على نفسه اسم أمجد يوسف، وكان هذا الشخص يشبه إلى حد كبير الرجل المسلح الذين كان يعتمر قبعة صيد والذي أنهكت أنصار نفسها وهي تبحث عنه. وبعد فترة قصيرة، حصلت أنصار، أو Anna Sh -إذ كان من الصعب التمييز بينهما حينئذ- على دليل قدمه مصدر من داخل التضامن يؤكد أن القاتل يحمل رتبة رائد في الفرع 227 التابع للمخابرات العسكرية في سوريا، وعن ذلك تقول: “شعرت بارتياح لا يوصف، إذ كان أمامي شخص لديه مفتاح كل شيء، لذا كان علي أن أدفعه للحديث معي”.
تتذكر أنصار تلك اللحظة التي ضغطت فيها على زر إرسال طلب الصداقة، والحماسة التي غمرتها عند قبول الضحية للطلب، أي أنه ابتلع الطعم بعد مرور كل هذا الوقت. والآن يجب عليها أن تستميله، إلا أن المكالمة الأولى أتت عابرة وسريعة، وذلك لأن أمجد شك بها فأنهى المكالمة سريعاً، إلا أن شيئاً ما في تلك المحادثة الأولى ألهب فضوله، فتحول الصياد إلى فريسة، ولكن هل كان ذلك بسبب الإثارة التي يشعر بها المرء عندما يتحدث إلى امرأة غريبة؟ أم أنه كان بحاجة إلى استجواب الشخص الذي تجرأ على الاقتراب منه؟ أم أن السبب شيء آخر؟ على أية حال، عندما اتصل أمجد اتصال فيديو بعد مرور ثلاثة أشهر على ذلك، ضغطت أنصار على زر التسجيل، وهي ترد على المكالمة باسم آنا.
التعرف إلى القاتل كإنسان
بعد مرور كل تلك السنين، وقع ذلك المجرم في الفخ، بالرغم من أنه كان صارماً في البداية، فطبيعة شخصيته تعود لجاسوس يسيطر على كل حواراته ويستعين بصمت القبور على الفور كسلاح يدافع به عن نفسه، ولهذا كان حديثه مقتضباً، وإذا تحدث يأتي حديثه تمتمة، بشكل يجبر السامع على الإنصات له بثبات. إلا أن آنا فعلت كل ما بوسعها لتجرد أمجد من أسلحته، حيث أخذت تبتسم له بخجل وتضحك وهي تخضع له مذعنة وهو يمطرها بالأسئلة، وهكذا جرى كل شيء وفقاً لشروطه، وبالتدريج بدأ وجهه الجامد يسترخي، فكسبت آنا الجولة، وهنا سألته عن التضامن، ثم طرحت عليه سؤالاً غير نبرة المحادثة كلها، وهو: “كيف كان شعورك وأنت جائع ومحروم من النوم، وأنت تحارب وتقتل وخائف على أهلك، وعلى شعبك. إنها مسؤولية كبيرة، وقد حملتها على كتفيك”.
عندئذ اعتدل أمجد على كرسيه، في إقرار منه بظهور شخص يتفهم العبء الذي يتحمله أخيراً. ومنذ تلك اللحظة، أصبح هو الذي يشغل مقعد الاستجواب، أي أن الحوار لم يعد بيده، وذلك لأن آنا كانت لديها إجابة عن كل رد من ردوده، وهذا ما عزز ثقته وبث الطمأنينة لديه، وأرضى غروره. وهكذا تحولت آنا إلى معالجة نفسية لديه، وصوت لأفكاره، وامرأة موضع ثقة بما أنها أصبحت تفهمه من دون أن تطلق أحكاماً عليه.
تعلق أنصار على ذلك بقولها: “لا أنكر بأنني كنت أحس بحماسة غامرة وأنا أتحدث إليه، ولهذا كنت أبتسم، لأنني كنت سعيدة بالحديث إليه، ولكن حتى نعرف قصصهم وأخبارهم، علينا أن نقنعهم بأننا باحثون وحسب، وعندها سيفتحون قلوبهم، وهذا لم يأت عبر مقابلة واحدة، بل بعد التخفي لمدة أربع سنوات. تعلمت خلالها بشكل تدريجي كيف أفصل نفسي عن تلك الشخصية، حيث خلقت هذه الفتاة المعجبة بما يفعلونه بالفعل، وهذا قاس علي، إذ كنت عندما أغلق الحاسوب المحمول أحس بأني قمت بمهمة شديدة الوطأة، ولكنها ضرورية، إلا أني كنت أرغب بالتعرف إليه كإنسان”.
خلال صيف العام الفائت، حاولت أنصار بمساعدة تلك الشخصية الوهمية، وبمساعدة أوغور الذي كان يجلس بعيداً عن الشاشة في معظم الأحيان، إقناع أمجد بالحديث، فقد كان هدفهم الولوج إلى عقل القاتل، إلا أن هدفهم الآخر هو جمع معلومات حقيقية حول السبب الذي دفعه للقيام بذلك وانتزاع اعترافات منه. ولهذا أخذا يبحثان في حسابه على فيس بوك حتى يعثرا عن أي مفتاح يقودهم لذلك، فصادف أن عثرا على صورة لشقيقه الأصغر، وقصائد كتبها أمجد عقب وفاة شقيقه هذا في مطلع عام 2013، أي قبل ثلاثة أشهر من وقوع مجزرة التضامن. بقيت آنا تلاحقه من أجل مكالمة أخرى، لكنه ظل يتملص منها، ولكن في ساعة متأخرة من إحدى ليالي حزيران، أضاءت شاشة هاتفها معلنة عن اتصال عبر فيس بوك ماسنجر، كان أمجد هو المتصل، وكانت تلك فرصتها لكسب وده.
“قتلت الكثير”
كان أمجد مرتاحاً بشكل أكبر هذه المرة، فقد كان يرتدي قميصاً داخلياً وقد وضع علبة مشروب أو اثنتين على الطاولة. كانت الساحة له يومئذ، أو هكذا اعتقد، ولهذا بدأ بحديث مقتضب، حاول من خلاله أن يطرح أسئلة غير مباشرة على آنا التي انتهزت الفرصة وسألته عن شقيقه، وعندئذ بدأ القاتل والمتنفذ الذي يهابه الجميع بالبكاء، عندئذ تحولت آنا إلى وضع المعالجة النفسية، فأخذ يخبرها بأن عليه أن يبقى في الجيش بالرغم من احتمال أن تفجع والدته بفقدان ابن آخر، وأضاف قائلاً: “لقد فعلت ما يجب علي فعله”، بعد ذلك أتى أول اعتراف من قبل أمجد عندما قال: “لقد قتلت الكثير، وأخذت بثأري”.
واعترافاً منه بخطورة ما قاله، قطع أمجد الحديث وأنهى الاتصال، وبات من الصعب العثور عليه طوال الأشهر القليلة التي أتت عقب تلك المحادثة، إذ لم يكن يرد إلا كتابة وأخذ يسأل آنا عن موعد عودتها إلى سوريا، فمن هي تلك المرأة التي سلبته لبه؟ ومتى سيتسنى له استجوابها على طريقته وبشروطه؟
بدأ أمجد بلعب دور الحبيب الغيور، وذلك عندما سأل آنا عن علاقاتها السابقة، وإن كانت تشرب أم لا، وعن الأماكن التي عاشت فيها.
في تلك الأثناء، أصبحت آنا تحس بأن الجانب الآخر من شخصيتها قد بلغ أقصى حدود إمكانياتها، وبأن Anna Sh أضحت بحاجة إلى قسط من الراحة، وهذا ما فعلته، وذلك لأن تلك الشخصية تحدثت إلى نحو 200 مسؤول لدى النظام، بعضهم شارك بطريقة مباشرة في عمليات القتل، وبعضهم ينتمي إلى طائفة ساعدت الأسد وحرضته على محاولاته الوحشية للتمسك بالسلطة. ولذلك بدأت تلك الشخصيات تتساءل عن سر تلك المرأة الموجودة في صندوق الوارد لدى كل منهم.
اغتيال آنا
أواخر العام الماضي، بعدما تحدثت أنصار إلى امرأة اتهمت أمجد بالاعتداء عليها، شعرت بأنها اكتفت من كل ذلك، وذلك لأن كل ذلك التعاطف الذي أبدته تجاه القتلة بدأ يتسرب إلى أعماق روحها، وكذلك الأمر بالنسبة لتقمصها لتلك الشخصية، وعن ذلك تخبرنا فتقول: “أنصار تستحق العيش أيضاً، ومن هنا أتى السؤال: أين أنصار؟ ومن هي أنصار الآن؟ هل ضاعت في البحث؟ فقد استطاعت آنا أن تدعي أنها موجودة بالفعل وأن تتظاهر بأنها علوية حقاً، حيث بقيت تمثل ذلك الدور لساعات هنا في أمستردام. ولكني أعتقد بأن آنا تجاوزت كل ذلك، بالرغم من أنها لم تكن سوى شخصية وهمية في العالم الرقمي، إذن أين هي الشخصية الأصلية في خضم كل ذلك؟ أين هي أنصار؟ إن هذا ما دفعني لاغتيال آنا”.
صبيحة يوم بارد من أيام شهر كانون الثاني خلال هذا العام، حزم أوغور وأنصار علبة صغيرة تشتمل على صورة مطبوعة لملف آنا الشخصي على فيس بوك، مع سيف يستخدمه نظام الأسد كرمز، إلى جانب بعض الحلي والإكسسوارات، وتوجها بالسيارة صوب محمية طبيعية تقع خارج أمستردام، وهناك حفرا حفرة ودفنا تلك الشخصية، بوجود شخص برفقة كلب هاله ما يفعلانه، لكنه أصبح الشاهد الوحيد على موت تلك المفتشة الرقمية التي لا بد أن يثير عملها في هذا السياق مشاعر الفخر والاعتزاز في نفس أي جاسوس حقيقي.
يحدثنا أوغور عما جرى فيقول: “لا بد أن يخبرك علماء النفس والمعالجون النفسيون وأنت تمر بوقت عصيب أن تحول تلك الفترة إلى شعيرة، أي أن تحويل شيء ما إلى طقس أو شعيرة يساعدك على تجاوزه، وعلى التخلص منه نهائياً”.
كان الوقت قد حان بالنسبة لهذين الباحثين حتى يشرع كل منهما بالتركيز على المواد التي جمعاها ولم يتمكنا من معالجتها بسبب انشغالهما بشكل كبير بتلك الشخصية التي دفناها حديثاً في غابة ووقفا دقيقة صمت أمام قبرها.
تتذكر أنصار ما جرى يومئذ فتقول: “أضحك عليها طوال الوقت، فكلانا يتذكر آنا دائماً”.
المواجهة…
كان هنالك شيء آخر يجب عليهما فعله، وهو مواجهة أمجد بما يعرفانه عنه، إذ يتساءل أوغور هنا وهو يقول: “إلى متى يتعين على المرء التودد لضابط مخابرات؟ أعتقد أن اللحظة التي فتح قلبه فيها وتحدث عن أخيه، وعن أخذه بالثأر، هي أعمق نقطة يمكن الوصول إليها ضمن هذا السياق المحدد”.
وهكذا، وعبر تطبيق فيس بوك ماسنجر، استخدمت أنصار هويتها الحقيقية هذه المرة بدلاً من آنا، لترسل إلى أمجد تسجيلاً مرئياً مدته 14 ثانية، وتخبرنا عما جرى فتقول: “كان أول سؤال سألني إياه هو: هل هذا أنا الذي في الفيديو؟ فأجبته: نعم هذا أنت، فرد: أجل، هذا أنا، ولكن عن أي شيء يدور هذا الفيديو؟ لا شيء، فأنا أعتقل أحد الأشخاص، وهذا هو عملي”.
وعندما أدرك أمجد عواقب الفعل الذي عرض عليه، أخذ يتهجم على عناصر في جبهة الدفاع الوطني، أي تلك الميليشيا التي كان ذلك المجند الغر ينتمي إليها، حيث وصفهم بأنهم سفاحون وقتلة، وبأنه ليس مثلهم.
وبعدما كف عن المضي في تلك الحيلة، تبنى أمجد ما فعله بكل تحد حيث كتب في رسالة: “إنني فخور بما فعلته”، وذلك قبل أن يهدد أنصار هي وأسرتها بالقتل.
لم ترد أنصار ولا أوغور على أمجد منذ شهر شباط وقاما بحظره على حساباتهما عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لكنه حاول الوصول إليهما مرات عديدة، إذ من الواضح أنه قلق حيال ما سيحدث وما سيحل به مستقبلاً، وذلك لأن المحاكمات على جرائم الحرب في ألمانيا بدأت تكسر الدرع الحصين لحالة الإفلات من العقاب التي احتمى بها نظام الأسد في سوريا، ومع ذلك، لم تشتمل جلسات الاستماع في تلك المحاكمات على دليل دامغ مثل الذي ظهر في مقطع الفيديو الذي يوثق مجزرة التضامن.
ولكن قبل أن تصل تلك القصة إلى الناس، كان لا بد من نقل شخص إلى بر الأمان، أي ذلك الشخص الذي سرب الفيديو إلى صديق له في فرنسا، ثم وصل ذلك الفيديو إلى أوغور وأنصار. وهكذا شرع ذلك الرجل في رحلة خطرة خلال الأشهر الستة الماضية.
هروب المصدر
إن ترك النظام في سوريا ليس بالأمر السهل، لأن كل من يطمح للسفر إلى أي منطقة في الداخل السوري، أو خارج البلاد على وجه الخصوص، يتم إخضاعه لعملية استجواب وتحقيق طويلة قبل السماح له بالسفر. وبالرغم من احتفاظ الأسد بالسلطة، فإن المناطق التي يسيطر عليها تقلصت كثيراً، كما أن اثنين من كبار الأمراء من أصحاب النفوذ، وهما إيران وروسيا، أصبحا يتمتعان بسلطة عرقلة كثير من قرارات الدولة السورية. إلى جانب احتفاظ فصائل المعارضة بسيطرتها على شمال غربي سوريا، في حين أقام الكرد درعاً لهم في شمال شرقي البلاد، أي أن سوريا بقيت ممزقة وبلا أي تسوية، فتحولت بذلك إلى مكان أصبح فيه أفراد العائلة الواحدة يشك بعضهم ببعض وينتظرون لخياناتهم أن تظهر.
وهذا ما حدث عندما سافر شاب سوري من العاصمة السورية إلى حلب خلال الأشهر الستة الماضية وذلك ضمن المرحلة الأولى لرحلته نحو الشمال الذي تسيطر عليه المعارضة، ثم إلى تركيا، ومنها إلى فرنسا.
كانت الرحلة بالسيارة من دمشق إلى حلب رحلة شابها كثير من التوتر والقلق، فقد سمحوا له بالسفر إلى هناك، ولكن هل ستلحق به قطعات المخابرات المخيفة قبل أن يخرج من قبضتها؟ في ريف حلب الشمالي، حصل ضابط برتبة عقيد من الفرقة الرابعة التابعة للجيش السوري على رشوة وقدرها 1500 دولار مقابل السماح لرجل بالعبور إلى أرض قفر تفصل بين الجانبين. ومع ذلك تأخرت الرحلة يوماً واحداً، بعدما جهزت الفرقة الرابعة شحنة كبتاغون حتى تعبر من الطريق ذاته. وبعد فترة قصيرة، وصلت شاحنة تحمل عشرات الكيلوغرامات من المنشطات التي يصنعها النظام ويوزعها ويصدرها إلى مختلف أرجاء الشرق الأوسط، لتشق طريقها إلى الشمال الذي تسيطر عليه المعارضة.
سرعان ما لحق المصدر بتلك الشاحنة، وبعد مرور بضعة أسابيع، التقت به أنصار في تركيا، حيث قاما بملء فجوات في قصة التضامن بعد أسابيع من النقاش، وهكذا تم تجهيز مذكرات من أجل محاكمة على جرائم الحرب وترتيبها لرفعها أمام القضاء.
وفي شهر شباط، سلم أوغور وأنصار الفيديوهات والمذكرات التي لديهما، والتي تشتمل على آلاف الساعات من المقابلات، إلى النيابة في هولندا وألمانيا وفرنسا. وخلال الشهر ذاته، وتحديداً في ألمانيا، قامت أول محاكمة لضابط سوري آخر عمل لدى المخابرات العسكرية، وهو أنور رسلان، حيث تمت محاكمته على دوره في الإشراف على قتل ما لا يقل عن 27 سجيناً وتعذيب أربعة آلاف آخرين على الأقل، ثم أدين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وصدر عليه حكم بالسجن المؤبد.
الثمن: النفي مدى الحياة
أصبحت أنصار تعامل معاملة الغريبة من قبل عائلتها، إذ إنها لم تعد كما كانت قبل بدء العمل على ذلك المشروع، لكنها تقول: “إن الأمر يستحق كل ذلك، صحيح أن العمل كان مضنياً وشاقاً، ولكني آمل أن يساعد عملي في إنصاف الآخرين”.
أصبحت التضامن اليوم جزءاً حيوياً وصاخباً من العاصمة وكأن الحرب لم تمر على عتباتها، إذ تمت تغطية كثير من الخراب والجرائم بوساطة المباني ومواقف السيارات، أو بأكوام من حطام الطائرات الحربية ومقذوفاتها التي ظهرت نتيجة النزاع. بيد أن أنصار وأوغور ما يزالان على قناعة تامة بأن هنالك كثيراً من المجازر التي ارتكبت في تلك المنطقة، ولهذا يقوم كل منهما بجمع مواقع وأسماء من فقدوا خلال الصراع الوحشي للسيطرة على تلك الضاحية.
يصف لنا أوغور ذلك بقوله: “يلقي الأهالي باللائمة على النظام، فهم يعرفون من قتل أحباءهم، إلا أن الغريب في الأمر هو أن من قتلوا في هذا الفيديو لم يكونوا من المعارضين، بل كانوا مع النظام بقلوبهم، إذ بوسعنا أن نشاهد كيف لم يتعرض أي منهم لحالة سوء التغذية، وقد أتوا من حواجز التفتيش مباشرة وليس من الأقبية والمخابئ، ثم قتلوا في عملية كانت أشبه بتحذير للأهالي حتى لا يفكر أي منهم بتغيير الطرف الذي انحاز إليه، ولهذا يستحق أهاليهم الإنصاف”.
في تلك الأثناء، وصل المصدر إلى مكان آمن خارج سوريا، ولكنه بهروبه من محيطه، أي الدائرة المقربة من نظام الأسد، حكم على نفسه بالنفي مدى الحياة، إلا أن أنصار تصفه بقولها: “إنه سعيد بقراره، إذ إن المرء يرغب بفعل ما هو صحيح في بعض الأحيان، وأنا إن تعلمت شيئاً من هذه التجربة فهو أن الخير ما يزال موجوداً لدى البشر، وما يزال بوسع الحقيقة أن تبصر النور في نهاية المطاف”.
- المصدر: غارديان
- ترجمة: ربى خدام الجامع
عذراً التعليقات مغلقة