تعمل الولايات المتحدة من أجل تحقيق هدفين في سوريا بشكل عاجل. الأول هو الحفاظ على الوجود الأميركي على الأراضي السورية. والثاني هو منع بسط استقرار الأوضاع بهذا البلد. هذه هي الخلاصة الأخيرة التي توصلت إليها هيئة الاستخبارات الخارجية الروسية، وكشفتها للرأي العام في بيان أصدرته يوم الثلاثاء الماضي. وبنت على تقديراتها التي لا يرقى إليها الشك سيناريو مرتقبا في سوريا، يقوم على توجيه الولايات المتحدة “جماعات متطرفة في سوريا لاستهداف القوات السورية والروسية والإيرانية تزامناً مع تشجيع الاحتجاجات في البلاد”.
البيان ينص على “استخدام غير متكافئ للقوة” من طرف النظام، ضد الذين يزعم بأن واشنطن ستحركهم كي تسميهم ب “المحتجين السلميين”
وبحسب البيان، تخطط الاستخبارات الأميركية “لتوجيه خلايا نائمة للمتطرفين في مدينة دمشق والمنطقة المتاخمة لها، وكذلك في محافظة اللاذقية إلى شن عمليات دقيقة على عناصر أجهزة قوات الأمن، وكذلك العسكريين الروس والإيرانيين”. وكي تتم هذه الخطة “تنوي واشنطن إطلاق حملة إعلامية واسعة بما في ذلك في الحسابات الناطقة باللغة العربية، في مواقع التواصل الاجتماعي لتشجيع الميول الاحتجاجية في المجتمع،” وكي تبدو الحبكة الروسية محكمة، فإن موسكو تطرح المشكلة “من المخطط استغلال الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية الصعبة لتنظيم مظاهرات حاشدة مناهضة للحكومة”، وتقدم الحل “ما يدفع أجهزة إنفاذ القانون خلالها إلى استخدام غير متكافئ للقوة بحق هؤلاء، الذين سيتم فيما بعد تسميتهم بالمحتجين السلميين”.
والغريب هنا هو أن البيان ينص على “استخدام غير متكافئ للقوة” من طرف النظام، ضد الذين يزعم بأن واشنطن ستحركهم كي تسميهم ب “المحتجين السلميين”، ومن أجل تحقيق هذا الهدف يقول السيناريو الروسي “سيقوم الأميركيون باستخدام اتصالاتهم الوثيقة مع ما يسمى المعارضة المسلحة، أو عملياً مع الجماعات المتطرفة الإسلامية”، وكي تنجح واشنطن في تنفيذ مخططها ستقوم بـ “إطلاق حملة إعلامية واسعة بما في ذلك في الحسابات الناطقة باللغة العربية في مواقع التواصل الاجتماعي لتشجيع الميول الاحتجاجية في المجتمع”، ويجزم السيناريو الروسي بأنه يتحدث عن معلومات، وردت إلى هيئة الاستخبارات الخارجية الروسية، وليس عن فراغ، ولذلك يحدد الهدف بدقة وهو “سعي إدارة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على الوجود الأميركي على الأراضي السورية، مع منع بسط الاستقرار في الأوضاع بهذا البلد”.
المخابرات الخارجية الروسية جهاز مكلف بالعمل في الخارج، ومن المفروض أنها محترفة ومكلفة بالسهر على مصالح روسيا، ومع ذلك فإن بيانها هش، ويستدعي تسجيل عدة ملاحظات، أولها هي، لا يمكن أخذ السيناريو الذي رسمته المخابرات الروسية للمستقبل القريب للوضع في سوريا بخفة، لاسيما وأنها نشرته في بيان رسمي تناقلته وسائل الإعلام. والملاحظة الثانية هي، لا يعني بكل الأحوال أن المخابرات الروسية تقوم بكشف هذه المعلومات حبا بالكشف، أو محاولة للتعليم على أميركا فقط، وإنما هناك أهداف أبعد. والملاحظة الثالثة هي، إن صحة المعلومات من عدمها، لا تغير في الهدف الذي تتوخاه روسيا من ورائها. والملاحظة الرابعة هي، اتهام واشنطن بأنها تعمل على “منع بسط الاستقرار في الأوضاع بهذا البلد”، وهو ما فشلت فيه القوات الروسية بعد أكثر من ست سنوات على تدخلها. والملاحظة الخامسة هي، إن توقيت نشر هذا البيان غير منقطع الصلة عن التطورات داخل سوريا، وما تواجهه مشاريع روسيا الأخرى، ولاسيما في أوكرانيا.
ليس من المستبعد أن تقوم روسيا والنظام وإيران بتفجير جديد للوضع، وهو ما حذر منه الجنرال الأميركي إريك كوريلا
يعبر البيان عن انزعاج روسي من الحضور الأميركي في سوريا، رغم أنه حضور قديم يعود إلى ما قبل وصول الروس إلى سوريا في أيلول 2015، وهو محدود ضمن مساحة جغرافية معينة في محافظتي الحسكة ودير الزور، وله وظيفة معلنة هي الحرب على داعش، وسبب الغضب الروسي هو أن موسكو لم تتمكن من انتزاع مناطق حيوية ولاسيما منابع النفط من السيطرة الأميركية، وبقي حضورها يقتصر على بعض المواقع التي يوجد فيها النظام مثل مطار القامشلي، الذي تحول إلى قاعدة عسكرية روسية، ولكن لا يمكن تفسير بيان المخابرات الروسية على هذا الأساس فقط، ومن التفاصيل التي حفل بها يمكن توقع الأسوأ في سوريا، وليس من المستبعد أن تقوم روسيا والنظام وإيران بتفجير جديد للوضع، وهو ما حذر منه الجنرال الأميركي إريك كوريلا المرشح لمنصب القائد العام للقيادة المركزية الأميركية، خلال جلسة استماع للجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأميركي يوم الأربعاء الماضي. وقال إن “غزو روسيا لأوكرانيا قد يؤدي إلى عدم استقرار أوسع في الشرق الأوسط، بما في ذلك سوريا”.
وفي كل الأحوال، من غير المستبعد أن تقوم روسيا بتفجير الوضع الهش في سوريا بعد أن فشلت في الاستثمار السياسي لحضورها العسكري، الذي يتمثل في القواعد التي أقامتها في الساحل وانتشار قواتها من أقصى الجنوب حتى أقصى الشمال. وقد يكون في حسابها استدراج القوات الأميركية في حال حصلت المواجهة في أوكرانيا.
عذراً التعليقات مغلقة