يتخوّف أهالي مدينة حمص من استمرار نظام الأسد بتغيير معالم المدينة التي ينتشر الدمار في أحيائها، حيث أزالت بلدية حمص في الثاني من الشهر الجاري الساعة القديمة من مكانها الواقع في سوق المدينة، مبررة ذلك بعملية “إعادة الترميم”.
ونشر “مجلس مدينة حمص” على صفحته في “فيسبوك” توضيحاً حول سبب إزالة الساعة القديمة، بأنَّه يعود إلى “تحسين وتجميل معالم مدينة حمص المميزة وإظهارها بالشكل اللائق، وبتقدمة مشكورة من أحد المتبرعين فقد بوشر العمل بعملية صيانة الساعة القديمة، وتم رفعها من موقعها لإجراء الصيانة اللازمة لها”.
وبيّن مع إرفاق صورة تعبيرية لشكل الدوار الجديد، أنَّ “الدوار سيُعاد تجهيزه ليكون القاعدة التي سيتم تركيب الساعة عليه بحيث يكون ارتفاع الدوار ما يقارب المترين بما يوسّع مجال الرؤية للساعة من جميع المحاور، على أن تكون المواد التي سينفذ منها الدوار من الرخام والمسطحات الخضراء وفق الرؤية المقدمة من المتبرع والموافق عليها من مجلس المدينة وتحت إشراف جهاز الإشراف المختص”.
الأكاديمي في جامعة “أم القرى” السعوديّة المتخصص بالتاريخ والمنحدر من مدينة حمص، حسام الدين الحزوري قال لـ موقع تلفزيون سوريا: إنَّ “عملية الإزالة غير معروفة بعد، لكن حسب ما وصلني من أهل حمص فإنَّ هناك شخصاً من آل كيشي، تبرّع ببناء دوار جديد بحيث توضع الساعة بمكان مرتفع يرى من كافة الاتجاهات”.
وحول عملية الإزالة من قبل بلدية حمص، وصفها “الحزوري” بأنَّها طريقة “بدائية وهمجية” تعبّر عن اللامبالاة، وفيها من عدم الشعور بالمسؤولية وقيمة ما يقتلعونه “الشيء الكثير”، كما تفتقد لأيّ عمل فنّي حيث تم رميها على الأرض، ومن المفترض أن تبقى مكانها وترميم ما حولها لأنَّها منصوبة في مكانها منذ وضعها أول مرة، وبالتالي الآثار تفتقد قيمتها عندما تقتلع من مكانها وتتغيّر ملامحها.
تتميّز حمص بساعتيها القديمة والجديدة
تنفرد مدينة حمص عن باقي المدن بوجود ساعتين فيها، إذ تقع القديمة التي بناها الفرنسيون منتصف العام عام 1923 في أول شارع “شكري القوتلي” بواسطة أشهر ساعاتي في حمص حينذاك، عبد الله كيشي، وهي مصنوعة من النحاس واسمه محفور عليها، حيث توسطت منطقة الأسواق الأثرية وأُنشئ بجانبها “كراج حماة” لأنها كانت على طريق حماة، ثم سينما “الفردوس” إلى الشمال منها (بناء الستي سنتر حالياً).
والساعة الجديدة التي باتت رمزاً من رموز الثورة بعد ارتكاب النظام مجزرة لفض اعتصام أهالي حمص السلمي، حيث تبرَّعت السيّدة كرجية حداد، بكامل تكاليفها (ستين ألف ليرة سورية) في نهاية الشارع ذاته عام 1951 خلال زيارتها لحمص برفقة وزير سوريا المفوض في البرازيل الشاعر عمر أبو ريشة، وشُيّدت في العام 1958 لتعرف باسمها “ساعة كرجية” ويفصل شارع شكري القوتلي بين الساعتين.
ولم تطل يد العبث الساعتين منذ تاريخ بنائهما، وما تم خلال العقود الماضية هو تجميل الساحة التي تقع فيها الساعة القديمة بإنشاء بحيرة ونافورة ماء، ومن ثم إغلاق الساحة التي تصل الساعة بمسجد النوري الكبير، ولم تتجرأ بلدية حمص على التعدي على الساعة، كما هو موضح في الصورتين. حسب “الحزوري”.
وعن مشهد اقتلاع الساعة القديمة من مكانها بهدف تجميل الساحة والتعديل عليها عبر تصميم سيتم من خلاله استخدام الإسمنت والرخام، اعتبره “الحزوري”، “اعتداءً على التراث”، قائلاً: “لقد زرت الكثير من البلاد التي ما تزال تحتفظ بمشيداتها التاريخية كما هي دون تعديل وتلاعب كما يحدث في سوريا عامة وحمص خاصة، وذلك بعد التعدّي على مسجد خالد بن الوليد سابقاً والساعة القديمة حديثاً، وهو ما يُغيّر البنية الأثرية للساعة التي ارتبطت بأذهان أهل حمص منذ نحو قرن”.
وتقع مسؤولية الحفاظ على التراث على عاتق “الدولة” كما تقع على عاتق الأفراد، فسعي “الدولة” إلى التطوّر يجب ألا يمنعها من الحفاظ على تراثها وأصالتها وعاداتها وتقاليدها، وهناك العديد من التجارب الناجحة التي تؤكّد على إمكانية القيام بذلك، والجمع ما بين الأصالة والمعاصرة.
وبالتالي، وفق “الحزوري”، يجب أن تتخذ “الدولة” بعض التدابير التي تضمن الحفاظ على التراث وتطويره، بالإضافة إلى اتخاذ التدابير القانونية والمالية والإدارية بغية تحديد هذا التراث وصيانته ومتابعته مع تشجيع البحث العلمي في هذا المجال، فضلاً عن تخصيص المؤسسات وتزويدها بالكوادر اللازمة لأسباب عرض التراث وحفظه وحمايته.
مخاوف من تغيير معالم المدينة
بدأ نظام الأسد بتغيير معالم الساعة القديمة في 6 أيار/مايو 2019 حين وضع نصباً لتمثال يُجسّد يدين لجندي في قوات النظام يرفع شعلة كتب عليها عبارة: “الشهداء أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر” وهي عبارة تُنسب لحافظ الأسد، وهذا التمثال اعتبره “الحزوري” يعدّ “تشويهاً لمكان الساعة القديمة”.
ويقع تمثال الجندي على الضفة اليمنى للساعة القديمة باتجاه شارع الحمدية بمسافة نحو 15 متراً من الساعة التي تعدّ أبرز رموز مدينة حمص، ويعلّق مدير “اتحاد الإعلاميين السوريين” الصحفي جلال التلاوي على ذلك بقوله: “من الأولى للنظام أن يقدِّم خدمات الماء والكهرباء قبل أن يُصلح الدوارات، وإن كانوا يريدون المحافظة على الساعة لماذا وضعوا ذلك التمثال، وكيف سيُنير الدوار دون كهرباء؟”.
وأشار في حديثه لـ”تلفزيون سوريا” إلى أنَّ إزالة الساعة جاءت بعد الضجة التي حصلت حين وضع التمثال، ويأتي ذلك ضمن عملية استكمال تغيير معالم المدينة وسياسة التغيير الديمغرافي التي اتبعها نظام الأسد وإيران بعد تهجير الثوار من مدينة حمص في أيار/مايو 2014 إلى ريفها الشمالي عقب حصار شديد ومعارك وقصف على مدار أكثر من عامين.
وحول ردّة فعل أهالي حمص، فمنهم من انزعج من الموضوع، نظراً لرمزية الساعة القديمة للمدينة، ومنهم من اعتبرها صيانة ضرورية لدوار الساعة وسيتم إعادتها لمكانها بعد الصيانة، وبالتالي لا يوجد تغيير للساعة طالما أعيدت لمكانها، إنَّما “التغيير لشكل الدوار”.
نشطاء من حمص أعربوا عن مخاوف الأهالي من إزالة معالم المدينة بشكل كامل تحت ذريعة “الإصلاح وإعادة الإعمار”، خاصةً إن أقدم النظام على العبث بالساعة الجديدة التي يصنعها الحمصيون بمجسّمات أينما حلّوا تعبيراً عن قدسيتها لهم، لكن النظام لا يُصلح بقدر ما يهدم، وإن تم إصلاح شيء ما، فيكون بذلك غيَّر المعلم الأساسي عبر استبدال شيء آخر به.
وقال أحد سكان حمص (طلب عدم ذكر اسمه لضرورات أمنية) لـ موقع تلفزيون سوريا: إنَّ “النظام يحاول تغيير حمص بشكل كامل منذ إعلانه “مشروع حلم حمص” قبل اندلاع الثورة، وخصوصاً بعد التغيير الديموغرافي الواقع داخل المدينة بعد تهجير الثوار، وما زالت حمص عدوة النظام الأولى، وما يزال ينتقم من حجارتها بعد قتل وتهجير أهلها، كي لا يذكّرهم بشيء قديم منها”.
ويُقلّل الحمصيون من أهمية ما يفعله النظام في المدينة التي دمّر نسبة كبيرة من أحيائها القديمة وأحياء الخالدية والحمدية والقصور وجورة الشياح والقرابيص، لا سيّما مسجد خالد بن الوليد الذي أعاد ترميمه بطريقة مغايرة لما كان عليه من التراث، معتبرين أنَّ ما دمّره وخرّبه النظام يمكنهم إعادته، لكن دم الشهداء ومعاناة الناس أغلى من الحجارة، فالهدف الأساسي هو عودة أهالي حمص بعد رحيل الطاغية حتى يعمروها من جديد”.
“راح الغالي حسافة على الرخيص”، بهذه العبارة اختصر الصحفي مصطفى السيد، في حديثه لـ”تلفزيون سوريا” عملية إزالة الساعة العتيقة من قلب مدينة ابن الوليد، قائلاً: إنَّ “النظام يتابع تدمير النسيج العمراني والاجتماعي للمدينة التي انتصرت لكرامة الإنسان وحرّيته، فاقتلاع الأمكنة هو متابعة لعملية اقتلاع المجتمع الحرّ الكريم، إذ يستمر هدر كرامة الإنسان في سوريا”.
والجدير بالذكر أنَّ الساعة القديمة شكّلت مركزاً للمدينة ومكاناً للتواعد بين الأصدقاء والمحبين حتى بناء الساعة الجديدة التي رغم بنائها والتوسّعات التي شهدتها طرقات حمص خاصة عند شارع “القوتلي” الذي يصل الساعتين القديمة والجديدة، مازالت الساعة القديمة من أهم معالم المدينة ومرتبطة بذاكرة الحماصنة لا سيّما المغتربين منهم الذين ضبطوا إيقاعاتهم النفسية على إيقاعها قبل أن يغتربوا عن حمص، وأصبحت رمزاً مشتركاً لأفراحهم وأحزانهم.
عذراً التعليقات مغلقة