من دون العودة إلى القضية الأم، والانطلاق منها، لن يكون من الممكن التوفيق بين المطالب والتطلعات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، المتباينة والمتناقضة، ولا تجاوز الخلافات الراهنة، ولا بالتالي بناء أجندة سورية ووضع سلم الأولويات الذي يضبط ممارستنا السياسية الجماعية وينظمها.
ومن دون ذلك، لا يمكن بناء خطة سياسية، ولا وضع استراتيجية، ولا تأمين القوى التي يحتاجها تحقيق أي مشروع سياسي وطني، أي واحد، ولا إنجاز المهام الكثيرة التي لا بد منها للوصول إلى الهدف المنشود. بغير ذلك، سوف نظل كما نحن اليوم: قوى متنافسة ومتنازعة تتخبّط وتتضارب، وتحيّد بعضها بعضا، أشداء على أنفسنا ورحماء على أعدائنا.
ما هي هذه القضية التي جمعتنا في ثورةٍ شاملةٍ مثلما فرّقنا نسيانها أو الابتعاد عنها، والتي تملك وحدها إمكانية التأليف بيننا وتوحيد أجنداتنا والتوفيق بين قضايانا العديدة الخاصة؟ إنها تلك التي تؤسّس لمعنى المصلحة العامة التي لا تنبع من جمع المصالح الخاصة المتفرّقة، وإنما من خلق الشروط التي لا يمكن من دونها تحقيق أي منها أو بعث الأمل في تحقيقها.
إنها إقامة نظام الحرية الذي يعيد السلطة إلى الشعب، ويضمن المساواة بين الجميع من دون أي تمييز بين الأفراد من أي نوع. فهذه الحرية السياسية والمساواة القانونية والأخلاقية هي في عصرنا الشرط الأول للسلام والاستقرار والتعاون والتضامن والازدهار، بمقدار ما تشكّل أس العدالة الاجتماعية ومصدر الكرامة لجميع الناس.
وكل القضايا الأخرى، الرئيسية والثانوية، من إسقاط النظام، والقضاء على سلطات الأمر الواقع وإمارات وأمراء الحرب من عرب وكرد وتركمان وغيرهم، ووقف عمليات التغيير الديمغرافي والديني، وطرد الاحتلال، وإطلاق عملية الإعمار والتنمية الاقتصادية، لا تأخذ معناها وقيمتها، ولا يمكن تحقيقها، من دون وضعها ضمن إطار هذه القضية الأكبر والغاية الأسمى، وإخضاعها لأولوياتها.
وأي فصلٍ لهذه القضايا التي تشكّل مصلحة كبرى، بعضها أو جميعها، للشعب السوري ككل، ولبعض جماعاته وأقوامه، عن هذه القضية الأساس يفقدها شرعيتها، وينذر بحرفها عن غاياتها ومطلوبها، ويحوّلها إلى عقبةٍ أمام تحقيق قضية الانتقال إلى الديمقراطية، والسيادة الشعبية التي هي حقه الكامل في اختيار من يمثلونه وفي مراقبتهم ومحاسبتهم.
وهذا هو أيضا جوهر المسألة السورية التي تتلخّص في حرمان السوريين منذ بداية القرن الماضي من حقهم في تقرير مصيرهم، وفرض وقائع جيوسياسية جديدة، ودعمها خارجيا، ودعم نظم ديكتاتورية عقيمة، من أجل تأكيد هذا الحرمان، ومنع قيام دولةٍ تحظى بالحد الأدنى من الاستقرار والأمن والسلام، راعيةً لشعبها وقابلة للحياة.
ومن بين هذه الوقائع تأسيس الدول الطائفية والقبلية والإثنية، وأبرزها دولة يهودية تحولت إلى بؤرة توتر والتهاب لا حلّ لها، فلا تعكس فكرة إنشاء هذه الدول/ الدويلات أي اهتمام فعلي بحقوق الأقليات، بمقدار ما تهدف إلى منع إقامة دولة أمة حقيقية قادرة على بناء الحرية والسلام والأمن والازدهار لسكانها في هذه المنطقة الحسّاسة.
ولم تكن الثورة الشعبية سوى المركب الجديد الذي اتحدت فيه إرادة الشعب، وأصبحت الضامن المباشر والطبيعي والعفوي للانسجام والتوافق بين المصالح العامة والخاصة، والمحفّز على التضامن والتعاون وتجاوز الحساسيات والاختلافات الدينية والطائفية والنعرات القبلية والقومية والأحقاد الطبقية الاجتماعية والانقسامات بين مجتمعات الأرياف والمدن والجبال والسهول والبوادي.
وما كان للحرب التي شنّت على الشعب الموحد في ثورته هدف آخر سوى فرط عقده، ودفع من نجا منه إلى التقاط ما تبقّى من شظايا المركب الواحد، للهرب بأنفسهم من الكارثة. وبمقدار ما أصبح التشبث بهذه المراكب الشظايا مبعث الأمل بالخلاص الفردي أو الفئوي قضى على الأمل بالخلاص الجماعي، وبالنظام البديل المنشود الذي يجسّد هذا الخلاص.
لم تحرّك مركب الثورة أي من المطالب التي نتبارى اليوم في تفريعها، ووضعها في مواجهة بعضها بعضا، وتقسيم القوى والمجتمعات لإيجاد أولويات خاصة بكل فريق على حدة، وبلورة أجندات وجداول عمل مستقلة تعكس الدفاع عن مصالح لا يمكن ضمانها، طالما لم تنجح في الالتقاء مع مصالح الجماعات الأخرى.
ما حرّكه كان بالعكس تجاوز هذه المطالب الخاصة والتركيز المشترك على المطلب الأول الذي يفتح الطريق لحلها، وهو ببساطة الاعتراف بحق الشعب وحده في تقرير مصيره ونزع الوصاية عنه من أي نوع كان، سياسية أو دينية أو عسكرية أو أجنبية.
هذه هي الأجندة التي وحّدت الشعب، وأشعلت الثورة أو مكّنتها من الاشتعال والاستمرار. وفي السياسة، ليست هناك هويات أو ولاءات ثابتة، وإنما أجندات/ مشاريع تعكس مصالح خاصة بفريق أو تعبر عن تقاطع مصالح جماعات مختلفة، لا يستمر ولاؤها وترابط مصائرها إلا بمقدار ما يبدو المشروع الجامع كفيلا بتحقيق هذه الأجندات الخاصة، أو ضامنا لتحقيقها عاجلا أو آجلا.
وبالعكس، حالما تظهر استحالة تحقيقها ينفرط عقد الولاء، مهما كانت اعتقادات أفرادها ومجموعاتها وقراباتهم الروحية والأنثروبولوجية والبيولوجية. الأسرة ذاتها تفقد مبرّر وجودها إذا انحرف أعضاؤها عن غاية وجودها واستخدموها لأغراضٍ ليست أغراضها ومصالح لا ترتبط بما يبرّر وجودها.
وليست الأمة بالمعنى السياسي الحديث للكلمة، وليس بمعنى أمة العقيدة الواحدة الدينية أو الثقافية، سوى إحدى هذه الأجندات أو مشاريع العمل التي يتصدّر قائمة أهدافها تحقيق الحرية والعدالة والمساواة لأعضائها جميعا.
وكل الفلسفة السياسية الحديثة قائمة على التفكير والتأمل في الطرق والوسائل الكفيلة بتحقيق هذه الأهداف أو السبل الأفضل لتحقيقها، فالأمة هي صفة الشعب عندما يصبح مالكا زمام أمره بيده، ومسيطرا على قراره ومصيره، ويحظى بالسيادة على الدولة التي تدير شؤونه، وبالاعتراف به مصدر السلطات ومرجعها.
ومن هذه السيادة والاعتراف بملكية الشعب وحق كل فرد في المشاركة في تقرير مصير المجتمع ككل، تولد المواطنة، وعليها تتأسّس الديمقراطية نظام حكم ونظرية في السياسة ومنبع أخلاق الحرية في مقابل أخلاق العبودية والولاءات الشخصية. لذلك لا تولد أمةٌ من إضافة جماعات لبعضها بعضا، وإنما من جبر المبادئ والقيم والسيادة.
(3) لن تولد من اغتيال الثورة الشعبية أي حقوق أو حريات، فردية أو عامة
من هنا، أصبح من الصحيح جدا القول إن الديمقراطية تشكل اليوم جوهر المسألة الوطنية، وإن العمل من أجل الديمقراطية يتطابق مع تعزيز السيادة الوطنية، ويشكل غيابها تأهيل الديكتاتورية والاستبداد، وهذا واضحٌ كالشمس، مع الخيانة الوطنية والتواطؤ مع الاحتلالات الأجنبية والتفريط في سيادة الدولة والشعب، فالالتزام بمبادئ الديمقراطية هو المعيار لصلاح المشاريع السياسية الخاصة، حزبية كانت أو مناطقية أو قوموية أو دينية.
لن نستطيع بناء مشروع وطني، ولا إنتاج قوى سياسية حية، متضامنة وقادرة على التحرّك على الساحة الداخلية والخارجية بصدقية، ما لم نوحّد الأجندات المتباينة والمتنازعة الراهنة التي تسيطر على الساحة السورية السياسية، في إطار أجندة جامعة توحد القوى، وتنسق بينها، وتحدّد الأولويات، وتصوغ الخطط المطلوبة لإنجازها، أي أيضا من دون أن نعمل معا.
ولن ننجح في ذلك، ما لم نجعل من بناء سورية ديمقراطية واحدة غايتنا، ومن الكرامة والحرية والندّية والمساواة القيم التي تجمعنا. فهذا هو الفكر الذي يجعل مشاريعنا ومصالحنا الخاصة تتسق وتتناغم مع بعضها، ويصبح تحقيقها جزءا من تحقيق المصلحة العامة، أي أيضا عاملا مشاركا في صنع جماعة وطنية وأمة ناجزة.
في المقابل، لن ننجح في تحقيق أي أجندة خاصة، إذا استمرّ كل فريق منا يراهن على إقصاء الفريق الآخر أو تجاهل مصالحه وحقوقه، ولن يكون هناك أي إمكانية لوضع أجندة عامة، ولا أمل في إقامة أي سلطةٍ ديمقراطية.
إن إعطاء الأولوية للدفاع عن حقوق خاصة على حساب الحقوق العامة لا يحقق أي هدف، ولا يحقّق مطلب الهوية، ولا يضمن أي تنمية إنسانية، فما بالك بضمان الحريات والحقوق والمساواة للجميع؟ إنه يقود إلى تكريس الاستبداد وتفاقم الانقسام وتعدّد نقاط النزاع، ويحول المنطقة إلى جغرافية طاردة لسكانها وغير صالحة للحياة.
فقط من خلال تحرير الحياة السياسية والمدنية، وإقامة سلطة ديمقراطية، نحرّر النساء والرجال، والأقليات والأكثريات، والكرد والعرب والتركمان والآشوريين والسريان وغيرهم. ونخلق شروط التنمية الإنسانية التي تلبي مطالب الأفراد الأكثر حاجةً للكرامة، وتطلعات الجماعات الدينية والقومية للهوية، من دون المغامرة بتفجير مزيد من النزاعات التي تقضي على أي إنجاز، وتضع حياة أفرادها أنفسهم، في خطر دائم.
ولن يعوّض الأفراد والجماعات التي هضمت حقوقهم في العقود الطويلة الماضية، سوى بناء دولة الحرية لعموم السوريين. وفي المقابل، لن يؤدي تفكيك سورية أو إضعافها لصالح أجندات خاصة، طائفية أو مذهبية أو قومية أو مناطقية، إلا إلى مزيد من الفوضى والاضطراب وحرمان جميع أبنائها، أقلياتٍ وأكثريات، مسلمين ومسيحيين، شيعة وسنة، علويين ودروز، مرشديين وإسماعيليين، من أي أملٍ في تحقيق تطلعاتهم المشروعة للعمل المنتج والمشاركة السياسية والعدالة والسلام والسعادة والكرامة.
هل يشكل تنوع سورية وجمهورها عقبة أمام وحدتها وتكامل مناطقها وإقامة سلطةٍ ديمقراطيةٍ تساوي بين جميع أبنائها؟ بالعكس، إن وحدة سورية ودمقرطتها مهمة وضرورية، بالضبط بسبب تنوع ثقافاتها وتعدّد تيارات الضغط والتأثيرات الخارجية: الثقافية والسياسية والاستراتيجية الواقعة عليها، فمن دون هذه الوحدة سيكون أسهل على الطامعين فيها التسلّط على أشلائها واستتباعها، ويزيد من شهوتهم لابتلاعها قطعة قطعة.
ولا توجد وسيلةٌ لتحقيق هذه الوحدة وضمان بقائها إلا بالديمقراطية الجامعة. في المقابل، لن يحلّ تقسيمها أيا من المشكلات التي تكمن في جذور أزمتها وانهيار كيانها، ولن ينتج، بأي اسم ووراء أية يافطةٍ جاء، دولا بديلة، ولكنه يعيد مجتمعاتها إلى ما قبل الدولة والسياسة، ويعمّم سلطات الأمر الواقع ونماذج إمارات الحرب والولاءات الشخصية والقبلية، ويجعل الصراعات، ومعها التدخلات الخارجية، خبزها اليومي، ومصدر مأساتها الدائمة. إنه يلغي سورية من دون أن يقدّم أي بديل أو يحل أي دولة مكانها، حتى بالمعنى البسيط للدولة، أي الاحتكار الشرعي للعنف والقدرة على إقامة سلطة القانون.
وبالمثل، لن يكون هناك عدالة لأحد مع القبول بالظلم لآخر، ولا حرية لأي فرد إذا ساد الاستعباد أقرانه، ولا ازدهار وتنمية لمنطقةٍ إذا بقيت الأخرى خرابا، ولا حكم قانون في أي بقعةٍ ما دام الولاء لمليشيات سلطة الأمر الواقع عملةً رائجة، ولا سيادة أو قرار مستقل في أرضٍ انتزع من شعبها الحق في القرار والسيادة، فإما أن يعيش الجميع أحرارا متساوين، متمتعين بكامل حقوقهم، معا، أو يغرقون جميعا في الفوضى والخراب، كما هو حالهم الآن في بلدان المليشيات “الولائية” السائبة.
مع العلم أن خطر انحسار حكم الدولة ونظامها هذا لا يهدّد مجتمعات المشرق وحدها، ولكنه يتمدّد على مساحاتٍ واسعةٍ من المعمورة، ويهدّد استقرار المنظومة العالمية التي تكاد ازدواجية المعايير وتجاهل مصالح الشعوب الضعيفة والاستهتار بمصيرها تدفع بها إلى دورة من العنف التاريخي التي لن يكون من السهل الخروج منها ولا إدارتها.
لم يكن القول “إما أن تكون سورية ديمقراطية أو لا تكون” صادقا في أي وقت، مثلما أصبح عليه بعد عقد من الثورة المضادّة الوحشية. ولا تكون ديمقراطية إذا تفرّقت أشلاء وشيعا وإمارات وسلطات أمر واقع، وإنما عندما تنجح في لمّ أطرافها وتجميع قواها وتوحيد مناطقها وتعميم قيم التضامن بين أبنائها وتحسين شروط معيشة جميع سكانها. والبديل الحتمي لغياب سورية ديمقراطية هو سورية مسرح الحروب الأهلية، المتقاطعة مع الحروب والنزاعات الإقليمية والدولية، والتي تغذّي بعضها بعضا، وتتحور وتزيد خصوبة باقترانها وتلاقحها وترابط مفاعيلها.
عذراً التعليقات مغلقة