عصفور..! – قصة: لؤي علي خليل

لذاكرة ميشيل كيلو

لؤي علي خليل4 يوليو 2021آخر تحديث :
لؤي علي خليل

     ثلاث طرقات خفيفة على الباب الحديدي عرفت بها أنه هو..

     يأتي في الليل على غفلة من الحرس، يرمي إليّ تفاحة أو قطعة خبز. منذ أن وقعت عيناه على وجهي ورأى فيّ أستاذه الذي علمه في الإعدادية ما عاد يعذبني، ولكن.. ليس من عادته أن يأتي في مثل هذا الوقت!

     اقتربتُ من باب الزنزانة ببطء وطرقت عليه طرقتين كالعادة، ففتح الباب وجذبني إلى الخارج، ووضع يده على فمي وطلب مني أن أتبعه. سرت خلفه على غير هدى، عبرنا البهو الموحش، ودلفنا إلى درج ضيّق تنـزّ منه رائحة العفن والموت. اخترق أذنيَّ صوتُ صراخ قادم من أسفل الدرج، كلما انخفضنا ارتفع هديره، وعند آخر الدرج بدا الصوت أكثر وضوحاً؛ صوتٌ طفولي بريء في عتمة هذا السواد الآثم، لا أعرف من أين يأتي! من الواضح أن مرافقي يقودني إليه، فكل خطوة نخطوها تجعل الصوت أشد نقراً في أذنيّ!

     اقتربنا من زنزانة في زاوية مهملة، يخرج من داخلها ذلك الصوت القاتل، فتح مرافقي باب الزنزانة وهمس في أذني:

  • لا تقل لأحد أنني أحضرتك هنا.
  • وماذا سنفعل؟
  • أنت الذي سيفعل، أنت مثقف وتعرف ماذا تفعل.. ادخل واحكِ له حكاية!!

     دفعني مرافقي إلى داخل الزنزانة وأغلق الباب خلفي، ومع وقع ارتطام الباب اختفى صوت النحيب. حاولت أن أميز تفاصيل المكان حولي فلم أستطع، عيناي التقطتا لونًا واحداً فقط بدرجات مختلفة؛ الأسود الفاحم، الأسود الباهت، الأسود الميت. تقدمتُ قليلاً داخل الزنزانة فلمحت جسداً في اليمين، أحسب أنه لامرأة، ما إن أحسّت بوجودي حتى تكوّرت في الزاوية:

  • مرحبا..
  • –       …..
  • لا تخافي أنا سجين مثلك
  • –       …..

لم تتكلم المرأة فتقدمتُ نحو الزاوية الأخرى، بدا لي أن جسداً صغيراً يتكوّم فيها، اقتربتُ من الجسد حتى جلست بقربه.. طفلٌ صغير لا يتجاوز الرابعة من عمره، نظر إلي بعينين خائفتين ملهوفتين، وضع يديه أمام وجهه كأنه يخشى أن أصفعه، رفعت يدي ببطء ومررتها على شعره، كررت المسح حتى أنزل يديه عن وجهه، تحولَتْ نظراتُه الخائفة إلى نظرات رجاءٍ بريئة، لم أر مثلها في حياتي، لو كنت قادراً على منح روحي لـمَنَحتُها لهاتين العينين..

  • هذا ابني، ولدته في هذه الزنزانة القذرة منذ أربع سنوات..

جاءني صوت المرأة من الخلف متردداً خائفاً

  • وأين أبوه؟
  • لا أعرف من أيّ نطفة قذرة جاء..
  • –       ……….
  • منذ خمس سنوات اعتقلني رجال الأمن أمام حاجز (الزاهرة الجديدة) وأخبروا أهلي أنني لن أخرج إلا إذا سلم زوجي نفسه.
  • ما تهمة زوجِك؟
  • كان يصوّر المظاهرات وينشرها.
  • هل سلم نفسه؟
  • لا أعرف! يمكن سلم نفسه، يمكن هرب، يمكن استشهد
  • –       ……
  • منذ أن وصلت وأولادُ الكلب يعتدون عليّ، ذئاب مسعورة تنهش لحمي كل يوم. لا أعرف من منهم قذف بهذا الصبي إلى بطني.
  • ألم يخرج من هنا أبداً؟
  • أربع سنوات قضاها بين هذه الجدران، لم ير غير الذئاب وهي تعتدي علي، تصله أيديهم مرة وأرجلهم مرات، ثم يبصقون عليه وينادونه ابن الزنا.

لم تستطع محدثتي أن تكمل كلامها وأجهشت بالبكاء، لم أدر كيف أتصرف، لا أعرف ماذا كان يتوقع مني مرافقي أن أفعل، ماذا تفيد ثقافتي بين يدي هذه المرأة وهذا الطفل.

  • عمو..

ناداني الطفل بصوت مبحوح

  • نعم حبيبي
  • احك لي حكاية ..!

سررت أنني أخيراً أستطيع أن أفعل شيئًا يرضي هذا الطفل، استجمعت حكايات صباي وطفولتي كلَّها وجهزت نفسي لأقصها كاملةً عليه، لأرضي نفسي قبل أن أرضيه..

  • كان يا ما كان في قديم الزمان.. كان في عصفور

لم أكد اتلفظ بهاتين الجملتين حتى سألني

  • عمو.. ما هو العصفور؟

لم أعرف كيف أرد عليه، كان سؤالاً بريئاً جداً، واضحاً جداً، حاداً جداً، جارحاً جدا!!

  • العصفور يا عمو طائر صغير يعيش على الشجرة
  • وما هي الشجرة؟

سؤاله الثاني اخترق شغاف روحي ولم أدر ماذا أقول. يا إلهي! ما الذي جاء بي إلى هنا، أي ضعف هذا الذي يعتريني، ضممت الطفل إلى صدري وأجهشت بالبكاء، وركضت نحو الباب أطرق عليه بشدة، لعل حارسي يخرجني من هنا، لعله يعيدني إلى زنزانتي. وعاد البكاء الطفولي البريء يحاصرني من الجهات الأربع.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل