“ماكرون” صْبَيْ الحَمَّامْ …

نزار غالب فليحان6 سبتمبر 2020آخر تحديث :
“ماكرون” صْبَيْ الحَمَّامْ …

لئن جاءت صحوة “ترامب” في الأمتار الأخيرة من حكمه متأخرة نوعاً ما للدفع بزخم كبير من أجل دعم حملته الانتخابية كي يظفر بفترة رئاسية ثانية وأخيرة انعكست في تسارع اتخاذ قرارات و قطف منجزات جاء جلها على الصعيد الدولي وفي منطقة الشرق الأوسط تحديداً وعلى حساب الشأن الداخلي الذي اتسم باتقاد جمرة العنصرية الخبيثة من جديد وتآكل المنجزات الاقتصادية على مذبح كورونا، فإن “ماكرون” بدأها مبكراً رامياً كل أوراقه دفعة واحدة معلناً عن حرب انتخابية انتحارية هارباً من شأن داخلي معقد كساحة عراك خاسرة مع خصومه السياسيين إلى ساحة دولية مليئة بالفوضى تغري الجميع للولوج فيها طمعاً بجني ما أمكن في هذا البازار المضطرب والفاقد لأي ضابط كأنه سوق “حرامية” بضاعته مسروقة وبائعوه غير شرعيين ومآلاته مفزعة، كأنه نادٍ للقمار الخاسر فيه يربح متعة الإثارة.

ففي إطار بحثه عن مجد غابر يولي “ماكرون” وجهه شطر لبنان منتهزاً ضعف الأخير وتفككه وبيئته السياسية الجاهزة سلفاً لصراع دولي تاريخي منذ تأسس بقرار فرنسي خبيث سلخه عن حاضنته السورية لكنه وعلى مدى مائة عام لم ينجح في بلورة هوية وطنية وبقي معلقاً في الفراغ متأرجحاً كبندول تحركه عشرات الخيوط فلا هو استقل ولا بقي ضمن كيانه الأم ولا حقق لفرنسا طموحها في الحضور القوي في الشرق بعد أن تعاظمت قوى دولية وإقليمية وشكلت حضوراً أكبر فيه.

“ماكرون” الهارب من لعنات لاحقته في فرنسا منذ دخوله “الإليزيه”، من لعنة اعتداء أحد مقربيه على متظاهرين إلى لعنة حريق كاثدرائية نوتردام إلى لعنة مظاهرات السترات الصفراء إلى هزيمة حزبه “الجمهورية إلى الأمام” في الانتخابات الأوربية أمام “التجمع الوطني” اليميني المتطرف بزعامة “ماري لوبن” إلى لعنة استقالة داعمه ورئيس وزرائه “إدوارد فيليب”، “ماكرون” الهارب من تلك اللعنات و غيرها نحو فضاء يظن أنه سيتسع لطموحاته الجامحة، نحو مياه دافئة وتربة خصبة ومتعطشة لأي تغيير يخرجها من جمود يسيطر عليها على مدى قرن كامل، نحو بيئة مليئة بالفوضى والديكتاتوريات والخضوع تلائم غطرسته ونزوعه نحو الاستبداد ليستعرض عضلاته كمنقذ ومُخَلِّص مدفوعاً بـ ومستنداً إلى تاريخ بلاده التي ساهمت مساهمة فعالة في احتلال وتجزئة وإفقار وإضعاف الشرق الأوسط، “ماكرون” الذي سئم من الديمقراطية وجنح نحو السيطرة في نكوص جلي وحنين مفضوح إلى الاحتلال من جديد.

فكانت لبنان بوابة “ماكرون” التي أسالت لعابه، البوابة الحاضرة دائماً وأبداً لأي تربيت فرنسي على كتفها في تصور متوارث يملؤه وهم أن فرنسا أم رؤوم لها، لبنان بركة المياه التي لطالما عكرتها السياسة والصراعات الدولية والإقليمية يصطاد فيها “ماكرون” اليوم مكانة لا يستحقها ومنزلة لا تليق به.

عمد “ماكرون” في اجتياحه الناعم للبنان إلى استخدام أدوات إنسانية لغايات غير إنسانية، بدأها في إهانة العهد ودغدغة المشاعر الغاضبة على الأخير عندما دخل بيروت دخول الفاتحين كصاحب بيت “وأعز” منغمساً في شارعها المكلوم قبل أن تجف دماء ضحاياها الأبرياء حاضناً ما استطاع صدره الاحتضان متحدياً وباء القرن ومبشراً بغد آمن ومدعياً لملمة جراح اللبنانيين في مناخ سياسي يخشى فيه زعماء لبنان التقليديون رياح التغيير ويتشبث فيه اللبنانيون بقشة وسط هذا الغرق الكبير، ليلعب على الحبال المتهالكة بين طرفي الصراع اللبناني من خلال خلق توازن يمكنه من بسط نفوذه على السلطة من جهة والضحك على ذقون الشعب وخطب وده من جهة أخرى.

ولعل ذئبية “ماكرون” تجلت أكثر ما تجلت في زيارته الثانية إلى لبنان حين استهلها بزيارة “فيروز” في بيتها في حركة رمزية أراد أن يقول من خلالها إنه مطبع مع الشعب من خلال تكريم أيقونته ظاناً أن صوتها يوحد اللبنانيين حاصداً خيبة أمل ساحقة عندما هُمِسَ في أذنه أن هناك (أيقونة ثانية) تدعى “ماجدة الرومي” ينبغي أن يحتضنها كي يرضي فريقاً آخراً، ولو طالت زيارته لاستمرت سلسلة الاحتضان هذه حتى ما بعد “هيفا”، وغاب عن ذهن “ماكرون” أن الطائفية متفشية في كل مفاصل لبنان حتى في “البرغل” كما قال “زياد” الذي لطالما سخر من لبنان “الكرامة و الشعب العنيد” والذي لطالما رأى أن توحيد لبنان “شي فاشل” في ظل المنظومة الحاكمة التي يحاول “ماكرون” إعادة تأهيلها وفي ظل تكالب القوى الإقليمية التي يجهد “ماكرون” لترسيخ نقاط ارتكازها فيه.

لن يحصد “ماكرون” من كل هذه الحركات البهلوانية ما يصبو إليه، لأن حرية حركته مؤقتة ورهينة تبدلات سياسية وشيكة ستحسمها انتخابات البيت الأبيض وجلاء الموقف الأوروبي والدولي حيال الصراع على غاز البحر المتوسط وجبهات سواحل أفريقيا الساخنة وحمأة التطبيع مع الكياني الصهيوني، وربما فات “ماكرون” أن خصومه السياسيين وخاصة “ماري لوبن” وربما “إدوراد فيليب” أيضاً يتتبعون أخطاءه ويرصدون نقاط ضعفه ويجمعون زلاته ليبنوا عليها برامجهم الانتخابية فيخسر “ماكرون” ماضيه وحاضره ومستقبله، ليبدو عارياً في كوريدورات السياسة مثل “صْبَيْ الحَمَّامْ إيدْ مِنْ وَرا وإيدْ مِنْ قِدَّامْ”.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل