شيء ما أقلق نومي تلك الليلة
خيالات كثيرة تراءت لي حرمتني الرقاد. بدأ قلبي يهمس بي؛ أمر ما يحدث.
وردني اتصال بأن الجديدة حوصرت ولا مجال للهرب..
ومن قلب الصمت الليلي الجاثم على بيوت جديدتنا انفجر عويل مجنزراتهم ورشاشاتهم ليعلن بدء الهجوم الوحشي لكتائب الموت المتنقل بين أحياء وبيوت المدينة. أحسست بذلك الثقل الذي يجثم على قلوب الأمهات لحظة وقوع سوء لأولادهم. وبدأ نبض عروقي يهدر كما لو كان يحاول الخروج من جسدي، مرت الدقائق بطول الساعات والساعات كأنها دهر حتى أتاني ذلك الصوت ليخبرني: لقد خرجوا هيا بنا. خرجنا إلى الشوارع كانت رائحة الخوف والحرق تملأ الهواء وصوت بكاء النساء وتوسلاتهم ينشج بلا توقف أخذوا أولادنا أخذوهم… أحدٌ منا لم يعرف في تلك اللحظة ماذا ينتظرنا في تلك الزوايا الصامتة.. أحدٌ منا لم يتخيل أننا سنلملم جثامين الشهداء الواحد تلو الآخر ونرصف بهم طرقات جديدتنا، لينعي الرصيف من كانوا يوماً مروا فوقه وعبدوه بخطواتهم. بالتأكيد توقعنا السوء لكن ما حصل كان فوق الخيال..
ومع خروج آخر شبيح من البلدة وصلتنا الأخبار لقد ذهبوا هيا بنا.
سبقتنا قلوبنا وهرعنا نطرق الأرض بأقدامنا علها تطوى فنصل حيث كان صوت النساء يندب ويستنجد أولادنا…. أخذوا أولادنا.
“لابأس إن اعتقلوهم” صبّرنا الأمهات ووقفنا نسأل أين أخذوا المعتقلين، لم يطل الانتظار حتى أتى شاب مسرعاً “رأيتهم يأخذون بعضهم صوب أطراف البساتين أدخلوهم إلى محل قرب ملعب الجديدة” لا أدري كيف تحركت أقدامنا وجرينا رغم التيبس الذي تبع وجيف القلب. دخلنا المكان؛ كانت لحظة صمت تبعها انفجار رهيب من حناجرنا، بكاء لعنات دعاء شتائم لا أستطيع وصف تلك اللحظة الرهيبة بمرارها وألمها وكل الغضب المشلول فينا، كانت جثث ثمانية عشر شاباً في عمر الورود قد نحر بعضها من العنق وآخرون تفجر البارود في أدمغتهم فنثرها وبعثرها على الرأس، لن أنسى ذلك المشهد طوال عمري ولن أنسى ذلك الإحساس الذي غرز مخالبة في صدري وحفر أثلاماً عميقة لن يقدر لها أن تندمل لو بعد ألف حين. وقفنا وسط دوامة من النشيج ننتظر المعجزة التي لن تأتي. كانت جثامين الشهداء هي الأخرى تنتظر وسط بكائنا ونشيجنا كان البعض قد فقد وعيه من هول المنظر، وآخرون خرجوا لم يحتملوا البقاء.. أتت شاحنات السوزوكي وبدأنا بحمل الجثث ووضعها في الشاحنة، ومع كل جثة كنا نودع جزءاً من الروح، هؤلاء الشباب السلميين من خرجوا للتظاهر بكل الفرح والأمل بالحصول على الحرية لم يحصل بعضهم سوى على الرصاص، والآخرون حصلوا على ضربة سكين في العنق هذا ما نالوه من نظام الغدر والحقد.
لم ننهِ بعد رفع كل الجثث عندما قدم شاب يصرخ: هناك جثامين أخرى في الخلف. ياللفاجعة التي تمر بالقلب كالصاعقة فتخرس اللسان من هول المأساة. أخذنا نلملم شهدائنا المرميين في بساتين الجديدة من كل زاوية وركن ونصفهم على الرصيف أمام المسجد. كانوا أربعة وخمسين شهيداً يحتضنون أرض جديدتهم للمرة الأخيرة، لتعود وتحتضنهم في أرض مقبرتها وتلفهم بترابها الحنون ليعود الغادر المجرم لقصف المقبرة مصمماً على قتل المتظاهرين السلميين المرة تلو المرة.
لا زلت حتى اللحظة أسمع صراخ الأهالي . نواح الرجال على شبابهم الذين قتلوا بالجملة بدون رحمة. عائلات فقدت أبناءها بالكامل وآخرون خسروا أخوتهم الأحبة. الرجل المسن الذي اكتشف جثث أبناءه الأربعة مصفوفة الواحدة بجانب الأخرى حاول الانتحار وكان سينجح لولا الأيادي التي سارعت لتمنعه. آخرون فقدوا عقولهم بعد رؤية أحبتهم غارقين بالدماء. من منا لم يفقد الصبر والعقل سعى لينقذ الآخرين ويخفف من روعهم. كل ذلك كان بلا فائدة. من غادرونا في ذلك اليوم لن يعودوا ومن بقي سيحمل حرقة الغدر ولوعة الغياب إلى أن يغيبه الثرى.
لا البكاء ينفع ولا النواح يعيد من قتل بيد السفاح.
الحزن والأسى والمرار هو كل ما سأذكره عن هذا اليوم الحزين.
غليان دمي وفوران دموعي وحرقة قلبي لن تمحى من ذاكرتي حتى يغيبني الثرى، الرحمة لكم يا شباب الورد الكرام.
Sorry Comments are closed