لسنوات طويلة عانى السوريون تحت حكم النظام من الكثير وربما كان تناقض المشاعر من أسوأ ما عانيناه، فعلى الرغم من المحاولات الجلية لمعظمنا بعيش حياة طبيعية نقرر فيها ما نريد ونعمل ما يقنعنا إلا أننا كنا نواجه الكثير من التحديات للقيام بما نؤمن به، فالصدق يقابله الخوف، والحق تقابله الرشوة، والموهبة يقتلها الإحباط، والنجاح غير ممكن إلا بمشاركة أزلام النظام… وهذا ما ترك في أرواحنا ندباً كثيرة، ولا زلت شخصياً أعاني من ذكريات موجعة كان لا بد لي فيها من اتخاذ موقف ما مجبراً رغم قناعتي بعكسه، وما حدث في بدايات الثورة كان من أقسى ما مررت به حتى يومنا هذا.
كنت لا أزال أملك مكتباً تجارياً في شارع الحمرا بدمشق وكان يجتمع العديد من الأصحاب والمعارف في مكتبي ونتناقش بأحوال البلد والثورة والمشاركة بكل طاقتنا مع الثائرين، وكان أخي الأصغر أسامة يعمل معي في المكتب وحقيقةً لدي خمس أخوة آخرين وكنت أشجعهم للخروج في المظاهرات وأحثهم على الاستمرار لكني لم أمتلك الشجاعة يوماً لدفع شقيقي الأصغر للمشاركة بأي نشاط ثوري؛ ربما كان ذلك نابعاً من خوفي على أمي فيما لو حصل مكروه فعندها لن أسامح نفسي أبداً. أو ربما لرغبتي بأن يشارك عن قناعة شخصية دون أن أمارس عليه أي ضغوط.
وهنا يجب الاعتراف بأن الشجاعة أمر صعب للغاية وأني أقدم كل التقدير والاحترام لكل أب وأم لكل زوج أو زوجة لكل أخ أو أخت لكل حبيب أو حبيبة شجعوا أولادهم أو إخوتهم أو أحباءهم على الخروج في مظاهرة وهم يعرفون تماماً أن ذلك قد يعني اعتقالهم أو ضربهم على أقل تقدير وربما موتهم في حال ساءت الأمور. لكنه كان يتواجد دائماً معي ويسمع أحاديثنا ونقاشاتنا باستمرار.
في أحد أيام الجمَع اتصل بي أسامة وهو يصرخ “كسرت حاجز الخوف أنا بنص المظاهرة.. الشعب يريد إسقاط النظام”.. لا أستطيع وصف مدى سعادتي في تلك اللحظة وبرغم الخوف عليه كانت مشاركته قمة فرحي، فلم أرغب أن يخسر شرف الانضمام لثورة الحرية والكرامة.
حرص أخي دوماً على الاتصال بي بعد انتهاء كل مظاهرة لكي أطمئن عليه وكانت مشاركته غالباً في مظاهرات حي الميدان والحجر الأسود.
في جمعة حق الدفاع عن النفس بتاريخ 27.01.2012 حصل إطلاق نار في مظاهرة الميدان واعتقل الكثير من الشبان، انتظرت اتصال أخي لكنه لم يتصل، كنت وعائلتي يومها في زيارة لدى أصدقائنا في الدويلعة (منطقة تقع جنوب شرقي مدينة دمشق) فكرت بالاتصال به لكن صديقي نصحني بالانتظار لمدة من الزمن واتصلنا ببعض المعارف ممن كانوا في حي الميدان فأخبروني إنه ليس من بين المصابين، كان الانتظار قاتلاً وبعد مضي ساعات اتصل بي أخيراً، كان صوته يرتعش وأخبرني أنه معتقل في قسم شرطة الميدان ومن هناك سينقلونه إلى إحدى سجون الفروع الأمنية.
ذهبت وصديقي إلى قسم الميدان، كنت قلقاً للغاية ولا أعرف ما يجب عمله لكن صديقي نصحني بأن أظهر بعض القسوة لأخي أمامهم.
دخلنا عند رئيس القسم وكان الرجل محترماً تعامل معنا بلطف نوعاً ما وقال لي لماذا تتدخلون بهذه الأمور فأخبرته بأن أخي شاب وطائش وسوف أهتم به.
عندما دخل أخي للغرفة عاجلته بصفعة كانت المرة الأولى بحياتي كلها التي أصفع فيها أحداً من إخوتي، لم تكن صفعة على وجه أسامة، تلك الصفعة سقطت على قلبي وروحي ولن أنسى ما حييت أن الخوف على حياته حولني لصنف البشر الذي أكره.
بعد أن صفعته عدت واحتضنته وأنا أصرخ به “شو جابك على المظاهرة شو شغلك معهم”. كانت هذه اللحظات تقتلني وأنا أضطر لنطق ما لا يقبله عقلي، كيف أكون مؤمناً بالثورة بكل كياني ويجبرني الخوف على تأنيب من حلمت بمشاركته بالثورة. ربّاه كم كان الوضع في داخلي فوضوياً، وددت لو صرخت بوجه رئيس القسم هذا حقنا إنها ثورة على الظلم والفساد حق أبنائنا في الحياة الحرة الكريمة. لكني في لحظتها كنت الظالم الذي أمسك سوط الجلاد وجلد به مقلة عينه مكرهاً مجبراً وخائباً من نفسي.
عندها أمر رئيس القسم بإخراجنا وهو يقول أنا لم أسمح لكم برؤيته كي تضربه أصبح هو العطوف! وأنا الجلاد! رغم آثار التعذيب التي كانت واضحة على وجه أخي..
بعد خروجنا من مكتب رئيس القسم اتصلت ببعض المعارف عسى أن يكون أحدهم يعرفه، كل من اتصلت به وعدني أنه سوف يحاول أن يصل لمن يمون عليه وبعد انتظار طويل دخلت مرة أخرى لمكتب رئيس القسم لأعرض عليه مبلغاً ما ليخلي سبيل أخي، قال إن الأمر ليس بيده فقد أُرسلت أسماؤهم إلى فروع الأمن وبعد قليل ستصل دورية لتنقلهم إلى هناك، بعد أخذ وردّ قال لي: لن أستطيع أن أخلي سبيله من عندي ولكني سوف أحاول أن أحوله إلى فرع الأمن الجنائي بباب مصلى، وافقت على العرض فهو أرحم بألف مرة من فروع الأمن الأخرى، وبالفعل تم تحويل أسامة إلى هناك.
بعد عشرين يوماً خرج أسامة من السجن، كانت آثار التعذيب لا تزال جلية على وجهه وساقه ورغم فخري به كان كئيباً كما لو أنه ارتكب فعلاً سيئاً، تساءلت في قلبي ما الذي حدث؟
حكى لي يومها عن استقبالهم له في القسم وكيف ضربوا رأسه بالحائط المرة تلو الأحرى حتى أحس بأن عينه ستخرج من وجهه والمحقق يصرخ به: بدكن حرية؟ مين ربك ولاه؟
كان وجوده في زنزانة المحكومين الجنائيين أقل قسوة على الجسد فلا تعذيب هناك، لكنه أشد قسوة على الروح فمن خرج ليشارك بالثورة بكل روحه يشق عليه الانزواء بين مجرمين متهمين بجرائم المخدرات والدعارة والسرقة، ولعلّ ما خفف عنه هناك وجود شاب آخر من المتظاهرين ممن أسعفهم الحظ فألقي مع أخي بين المجرمين!
سألته يومها أن يتوقف عن التظاهر قليلاً حتى نتأكد أنه بأمان أكد لي حينها أنه لن يخرج أبداً وفي يوم الجمعة التالي لخروجه اتصل بي مرة ثانية وهو يهتف بملأ صوته ضاحكاً الشعب يريد إسقاط النظام.
حتى اليوم لا زلت أشعر بآلام تلك الصفعة كلما خطرت الحادثة ببالي ولا زال أخي يتذكر وجوده بين المجرمين لأنه طالب بالحرية.
Sorry Comments are closed